لم يخطئ من وصف الاتحاد الأوروبي بأنه «مارد اقتصادي لكن رجليه من طين». وجاءت الأزمة الأفغانية لتؤكد على هذه الحقيقة المرة. فالأوروبيون سعوا لثني الرئيس الأميركي جو بايدن عن التمسك بتاريخ 31 أغسطس (آب) كموعد أخير لإتمام الانسحاب من أفغانستان ولكن دون طائل. من هنا، مصدر المرارة والإحباط لدى الأوروبيين الذين وعوا مرة أخرى «تبعيتهم» للقرار الأميركي العسكري والاستراتيجي الذي غالباً ما يكون أحادياً، وبغض النظر عن مصالح ومطالب «الشركاء» الأوروبيين كما كان الحال في أفغانستان. من هنا، جاءت ردة الفعل الأوروبية بالدعوة إلى السير نحو «الاستقلالية الاستراتيجية»، والذهاب إلى تشكيل «قوة تدخل سريع» تبدأ بخمسة آلاف رجل.
والنقاش بشأنها حصل في اجتماع وزراء دفاع الاتحاد في لوبليانا، عاصمة سلوفينيا، التي ترأس المجموعة الأوروبية حتى نهاية العام الحالي. وما فاقم المخاوف الأوروبية وحثهم على الذهاب في درب الاستقلالية خيبتهم الكبيرة من الرئيس بايدن الذي جاء إلى الرئاسة حاملاً معه مجموعة وعود، منها الرغبة في العمل الجماعي، خصوصاً مع الأوروبيين أكان في سياق الاتحاد أو في إطار الحلف الأطلسي، وذلك بعيداً عن «أحادية» الرئيس دونالد ترمب، سلفه في البيت الأبيض. نادراً ما أظهر الأوروبيون توافقاً في النظرة إلى أهمية أن تكتسب أوروبا قدرات تمكنها من مواجهة الأزمات والدفاع عن مصالحها الحيوية أقلها في جوارها القريب، أكان ذلك في مياه المتوسط، أو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل.
كذلك، فإن الأوروبيين يتخوفون من استدارة واشنطن نحو الصين التي ترى فيها منافساً «استراتيجياً»، ورغبتها في تركيز قواها لمواجهة التهديدين الصيني والروسي بحيث سيتعين على الاتحاد الأوروبي أن يسد الفراغ العسكري والاستراتيجي. ولخص الجنرال الإيطالي كلاوديو غرازيانو الوضع أول من أمس كالتالي «يظهر الوضع في الشرق الأوسط والساحل وأفغانستان أن الوقت قد حان للبدء بإنشاء قوة الردع السريع الأوروبية القادرة على إظهار إرادة الاتحاد للعمل كشريك استراتيجي عالمي».
وذهب رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في الاتجاه عينه، بقوله إنه «يجب أن يكون للاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه وزن أكبر في العالم للدفاع عن مصالحنا وقيمنا ولحماية مواطنينا». وأضاف أن «الانسحاب الفوضوي من أفغانستان يجبرنا على إسراع التفكير بصدق بشأن الدفاع الأوروبي؛ إذ لسنا في حاجة إلى حدث جيو- سياسي من النوع الذي حصل في أفغانستان ليعي الاتحاد أن عليه السير نحو استقلالية القرار وزيادة قدراته في التحرك عبر العالم». أما جوزيب بوريل «وزير» خارجية الاتحاد، فقد رأى أن «أفغانستان أظهرت أنّ هناك ثمناً لأوجه القصور على صعيد استقلالنا الاستراتيجي والسبيل الوحيد للمضي قدماً هو توحيد قواتنا وتعزيز ليس فقط قدرتنا، ولكن أيضاً إرادتنا للتحرك».
حقيقة الأمر، أن التأكيد على هذه المبادئ أمر أساسي بالنسبة للاتحاد. لكن الإشكالية تكمن في أنها ليست المرة الأولى التي يجري فيها الحديث عن قوة مشتركة وعن اندماج دفاعي. ولذا؛ فإن كثيرين يشككون في مدى قدرة الاتحاد الخروج من التنظير إلى العمل الفعلي. فالاتحاد عجز عن تفعيل «المجموعات التكتيكية» للتدخل التي أنشأها في عام 2007 وعددها 1500 رجل والتي لم يسمع بها أحد. كذلك، فإنه أخفق منذ ما يزيد على عشرين عاماً في تنفيذ قرار المجلس الأوروبي في قمة هلسنكي الداعي إلى إنشاء قوة عسكرية، بحلول عام 2003، من خمسين إلى ستين ألف رجل تكون بمثابة قوة أرضية للانتشار السريع. وفي عام 2017، وقّعت 23 دولة أوروبية على اتفاق لدمج سياساتها الدفاعية وتطوير مشترك لمعداتها وأسلحتها، فضلاً عن تنسيق التمويل وخطط الانتشار. لكن المشروع بقي ورقياً. لذا؛ فإن الشكوك مشروعة بشأن ما تباحث بصدده وزراء الدفاع أول من أمس، على أن يصار إلى إقراره في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل على أن يصبح نافذاً تحت الرئاسة الفرنسية القادمة للاتحاد، وتحديداً في شهر مارس (آذار) المقبل.
ثمة عقبات كأداء تعيق الانتقال بالمشروع إلى حيز التنفيذ. ويرى المختصون بشؤون الدفاع، أن العقبة الأولى تتمثل في العمل بمبدأ «الإجماع» ساري المفعول في الاتحاد فيما خص السياستين الخارجية والدفاعية. والحال، أن دفع 27 بلداً يتمتعون بالسيادة الكاملة إلى التخلي عن جزء منها، خصوصاً في ميدان الدفاع شيء ليس سهل المنال. وفي أي حال، فإن أمراً كهذا يحتاج إلى إرادة سياسية قوية يفتقدها النادي الأوروبي الذي لم يبلور لقواته عقيدة دفاعية وليس هناك تفاهم بين أعضائه على تقييم التهديدات الخارجية المحصورة حتى اليوم بمحاربة الإرهاب ومنع وصول الهجرات الكثيفة إلى حدوده الخارجية. وتضيف المصادر الأوروبية، أن عدداً من أعضاء الاتحاد، خصوصاً الشرقيين الذين خرجوا من تحت الوصاية الروسية (بولندا، لاتفيا، ليتوانيا، أستونيا،...) ليست مستعدة للتخلي عن المظلة الأميركية - الأطلسية التي تحمي أوروبا لصالح مظلة أوروبية غير موجودة. ومن الناحية العملانية، ستطرح مسألة التمويل وآلية اتخاذ القرار وموضوع القيادة وكلها مسائل معقدة. وفي أي حال، فإن تجربة باريس التي ينادي رئيسها منذ سنوات بالذهاب إلى «الاستقلالية الاستراتيجية» واستقلالية القرار بعيداً عن الولايات المتحدة ومن غير الخروج من الحلف الأطلسي وللدفاع عن المصالح الأوروبية في الجوار القريب، ليست مشجعة لأن باريس تدعو منذ سنوات الأوروبيين إلى مد يد المساعدة لها في دول الساحل، وتحديداً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وجلّ ما حصل أن قوة كوماندوس أوروبية آخذة بالنمو إلا أنها لا تضم حتى اليوم سوى 600 عنصر في مالي نصفهم من الفرنسيين. لذا؛ ليس من المجازفة في شيء المراهنة على أن سنوات طويلة ستمضي قبل أن ترى قوة الانتشار السريع النور وأن تصبح فاعلة.
عقبات تحول دون ولادة قوة الانتشار السريع الأوروبية
عقبات تحول دون ولادة قوة الانتشار السريع الأوروبية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة