ألمانيا بدأت العد العكسي لحكم أنجيلا ميركل

بعد 16 سنة من حكم الزعيمة التاريخية

ألمانيا بدأت العد العكسي لحكم أنجيلا ميركل
TT

ألمانيا بدأت العد العكسي لحكم أنجيلا ميركل

ألمانيا بدأت العد العكسي لحكم أنجيلا ميركل

لم يتبقَ كثير من عهد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ذلك أن فترة أقل من شهر تفصلها عن نهاية عهدها وتقاعدها بعد 16 سنة أمضتها وهي تحكم ألمانيا. وفي هذه الأثناء، ما زالت هوية خليفتها غير واضحة... والسباق بين المرشحين لخلافتها على أشده.
وحقاً، على الرغم من أن ميركل، على المستوى الشخصي، ستغادر منصبها بشعبية مرتفعة، على غير عادة الزعماء الذين يمضون وقتاً طويلاً في الحكم، من غير المضمون أن حزبها، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، سيبقى في السلطة بعد رحيلها. إذ الصعود المفاجئ لـ«اشتراكيّي» الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الشريك اليساري في حكومة ميركل الائتلافية، قَلَب الطاولة على اللاعبين وأعاد خلط أوراق الانتخابات. فقبل أشهر قليلة فقط، كانت كل آمال الاشتراكيين مركّزة على التقليل من فداحة خسائرهم الانتخابية. لكن مع اقتراب موعد الانتخابات، وجد الاشتراكيون أنفسهم في الطليعة للمرة الأولى منذ 15 سنة، حتى أنهم تقدّموا في أحد استطلاعات الرأي هذا الأسبوع على الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحاكم، وإن كان بنقطة واحدة، ليحصلوا على 23 في المائة من أصوات المستطلعة آراؤهم، مقابل 22 في المائة للديمقراطيين المسيحيين.
يبدو أن السباق الانتخابي إلى منصب المستشارية (أي رئاسة الحكومة الفيدرالية - الاتحادية) في ألمانيا انحصر في 3 شخصيات، أكثر منها الأحزاب التي تمثلها وبرامجها الانتخابية. ويُنظر إلى أرمين لاشيت، مرشح حزب ميركل لمنصب المستشار، على أنه مسؤول مباشر عن الخسائر الكبيرة لحزبه أخيراً. وفي حين تبدو متراجعةً جداً حظوظ مرشحة حزب «الخضر» أنالينا بيربوك التي كانت قد حصدت شعبية غير مسبوقة عند إعلان ترشيحها لمنصب المستشارية مطلع يوليو (تموز) الماضي، فإنها تتراجع منذ ذلك الحين بشكل مضطرد، ويظهر الآن أن المستفيد الأكبر من تغير المشهد السياسي مع تسارع العدّ العكسي للمعركة نائب المستشارة ووزير المالية الحالي أولاف شولتس، مرشح الاشتراكيين الذي أثبت فعلاً أنه مفاجأة هذه الانتخابات.

نكسة لاشيت وتراجعه
أحياناً كثيرة، تصبح صورة محددة رمزاً لحدث معين. وأرمين لاشيت وجد فعلاً صورته هذه، لكنه قد يتذكرها لاحقاً على أنها الصورة التي شكلت نهاية حلمه بأن يصبح المستشار الألماني، في حال خسر الانتخابات. ففي منتصف يوليو الماضي، التقطت عدسات الكاميرات صوراً للاشيت وهو يضحك في خلفية لقطة للرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، الذي كان يتحدث للصحافيين من منطقة أورفشتات، التي كانت من أكثر المناطق تضرراً بالفيضانات الأخيرة التي ضربت ألمانيا.
وحقاً، ما كان ممكناً أن يكون التباين أكبر بين مظهري رجلين؛ الأول شتاينماير، وجهه جادّ يعكس مأساة الأشخاص الواقفين أمامه، الذين خسروا منازلهم، ومنهم من خسر أفراداً غرقوا في الفيضانات. وكان يتحدث باهتمام وتعاطف عن حجم المأساة والمساعدات التي ستقدمها الحكومة لهم. أما الثاني، لاشيت، في خلفية الصورة، فقد بدا واقفاً عند عتبة باب محاطاً ببضعة أشخاص عابسين، إلا هو ورجل بجواره كان يشاركه الضحك.
إزاء الغضب الشديد والانتقادات الحادة، اعتذر لاشيت علناً بعد يومين، واعترف أن ما فعله خاطئ، وما كان يجب أن يحدث. غير أن الضرر كان بالغاً، وبالتالي، لم يجد الاعتذار نفعاً. والدليل أن شعبيته أخذت تنخفض بشكل كبير بين الناخبين. وبالنسبة لكثيرين، كان تصرفه هذا «نقطة اللاعودة» بعد مجموعة «فضائح» أخرى لاحقته منذ انتخابه زعيماً للحزب. والواقع أن لاشيت المعرّض لارتكاب «هفوات»، قاتَل بشدة للظفر بترشيح الديمقراطيين المسيحيين، مع أن نسبة عالية منهم كانت تفضّل ترشيح منافسه ماركوس زودر، رئيس حكومة ولاية بافاريا وزعيم الاتحاد الاجتماعي المسيحي، الذي هو «التوأم» البافاري للديمقراطيين المسيحيين. ومع أن زودر رضي بالنتيجة، فإن الاقتتال الداخلي بين الطرفين ومؤيديهما لم يهدأ حتى بعد إعلان لاشيت مرشحاً رسمياً للحزبين المحافظين الشقيقين وإطلاق الحملة الانتخابية.
مع هذا، فإن هذا الاقتتال الداخلي لعب دوراً سلبياً لدى الناخبين. إذ تقول ميريام كوزميل، الباحثة في معهد برتلسمان شتيفتونغ في برلين، لـ«الشرق الأوسط»، إن «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، على يبدو، يكرّر اليوم أخطاء الاشتراكيين الماضية بالاقتتال الداخلي... وتوجيه الاتهامات علناً للاشيت من داخل حزبه يضرّ كثيراً بالحزب كله». وهنا، نشير إلى أن البعض بدأ يطرح صراحةً فكرة تغيير مرشح الديمقراطيين المسيحيين لمنصب المستشار في اللحظة الأخيرة، محاولة لإنقاذ الحزب من خسارة آتية، والاستعاضة عنه بزودر، خاصةً بعد استطلاعات للرأي مطلع الأسبوع أظهرت أن 70 في المائة من الناخبين يعتقدون أن زودر هو المرشح الأفضل لمنصب المستشار، وليس لاشيت. لكن زودر نفسه رفض الأمر. إذ قال إنه الأوان الآن، وتابع أنه رشّح نفسه مرّة، فرُفض، وعليه فلن يكرّر التجربة الآن.

وحدة المحافظين
من جهته، يرى الصحافي والمحلل السياسي إيفالد كونيغ في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن تغيير لاشيت في هذه المرحلة من الانتخابات «قد يلحق بالفعل ضرراً فظيعاً بالحزب»، ولا يعد خياراً واقعياً، مع أن لاشيت «ارتكب كثيراً من الأخطاء التي أضرت به». وحسب رأي كوزميل: «من مصلحة زودر الآن الجلوس وانتظار دوره في المرة المقبلة، في حال أثبت لاشيت أنه فشل فعلاً بالوصول لمنصب المستشارية».
من ناحية أخرى، ناهيك من الهفوات «التصويرية»، يبدو لاشيت وكأنه دخل السباق مراهناً على إرث ميركل وإكماله من دون أن يحمل معه أفكاراً جديدة. وعندما سألته صحافية الأسبوع الماضي أن يحدد 3 أمور يريد أن يقوم بها عندما يصل السلطة، تحدث أولاً عن الرقمنة في المؤسسات التابعة للدولة، وثانياً تخفيف البيروقراطية، ثم توقف عن الكلام. وعندما سألته الصحافية عن النقطة الثالثة، ردّ بعد لحظات صمت مُربِكة، وهو يرفعه يديه قائلاً: «نعم... ما الذي سنقوم به أيضاً؟!!».
ولكن، قد تكون النقطة الوحيدة التي حاول التميز بها عن ميركل هو ما يتعلق بالهجرة. ومع أنه كان من مؤيدي قرار ميركل السماح لآلاف اللاجئين السوريين بدخول ألمانيا عام 2015. فهو يكرّر بأن ما حصل لا يمكن تكراره، وهي نغمة زادت مع بدء ألمانيا إجلاء مئات الأفغان، والمخاوف الأوروبية من موجة هجرة جديدة نحوها بعد عودة «طالبان» للسيطرة على أفغانستان. وتقول كوزميل، الباحثة في معهد برتلسمان، إن لاشيت «يحاول بهذا الخطاب أن يصطاد مؤيدين من المعادين للهجرة واللجوء، لأنه يعرف أن تأييد سياسات اللجوء سيخسره أصواتاً».

اختبار صعب لبيربوك
من جانب آخر، لا تبدو مرشحة حزب «الخضر» البيئي أنالينا بيربوك (40 سنة)، الأصغر سناً بين المرشحين والسيدة الوحيدة، أفضل أداءً من لاشيت. وهي أيضاً ارتكبت هفوات مسؤولة أيضاً عن تراجع حظوظ حزبها الذي كان متقدّماً طوال أشهر على اشتراكيّي الحزب الديمقراطي الاجتماعي، حتى إنه حصل في قمة صعوده، مطلع العام الحالي، على المرتبة الأولى بين كل الأحزاب بنسبة وصلت إلى 26 في المائة من التأييد.
لكن منذ اختيار بيربوك مرشحة لمنصب المستشارة، والفضائح تلاحقها. وهي بدأت باتهامها بسرقات أدبية في الكتاب الذي نشرته قبل الانتخابات ونقلها مقاطع من دون نسبتها. وتلت ذلك اتهامات لها بكتم كامل مدخولها، وغير ذلك من الخطوات «غير المدروسة»، مثل عجزها عن تقديم أجوبة حول كيفية تمويل خطط حزبها لمكافحة التغير المناخي وغيرها.
كوزميل تعتبر أن الهفوات في حملة بيربوك قد تكون نتيجة سوء تحضير حزب «الخضر» للمعركة الانتخابية وتواضع مستوى دعمه لمرشحته لمنصب المستشار. وهي تعيد السبب إلى أن «الحزب صغير نسبياً، ولا يملك فرقَ دعمٍ كافية، مثل الحزبين الكبيرين العريقين (المحافظ والاشتراكي)»، ثم تضيف أن الحزب «أخطأ في حساباته وقصّر بتقديم مستوى محترف لمرشحته». أما كونيغ فيعتقد أن بيربوك نفسها هي المشكلة. ويقول إنه لو انتخب «الخضر» الزعيم المشترك الآن للحزب، وهو روبرت هابيك، الذي يتمتع بكاريزما كبيرة، «لكان هو من أصبح المستشار المقبل».
مع هذا، فإن حزب «الخضر» قد يصبح «صانع المستشار» المقبل في هذه الانتخابات إن لم تأتِ منه المستشارة نفسها. ووفق كونيغ، فإن الحزب ما زال يتمتع بنسبة أصوات تتراوح بين 16 في المائة و18 في المائة، «وهذه نسبة جيدة جداً بالنسبة لهم مقارنةً مع الانتخابات الماضية».

المستفيد الأكبر... اشتراكي
وهكذا، يرجح المراقبون أن يكون المستفيد الأكبر من كل هذه الهفوات للشخصيتين المعرّضتين للفضائح والأقاويل، أولاف شولتس، وزير المالية الحالي ونائب المستشارة ومرشح الاشتراكيين. وعلى الرغم من أن شولتس لا يتمتع بـ«كاريزما» جماهيرية تجعله قادراً على جذب أعداد كبيرة من الناخبين، فإن هذا بالضبط ما استطاع تحقيقه أخيراً. وهنا تعلّق كوزميل قائلةً: «شولتس من دون أدنى شك يستفيد من أخطاء وهفوات لاشيت وبيربوك، لكنه أيضاً يستفيد من كونه نائب المستشارة... وهو قادر بفضل ذلك على إظهار ثقة بالنفس وتقليد أسلوب ميركل بظهوره كمرشح الهدوء والتفكير المنطقي والشخصية الموثوقة التي يمكن الاعتماد عليها». من ناحية أخرى، رغم مزايا شولتس، فإن انتعاش حظوظ الاشتراكيين فاجأ كثيرين. ذلك أن الحزب العريق كان يحتل المرتبة الثالثة في مطلع العام. ثم إنه كان يتراجع بشكل مستمر منذ الانتخابات الماضية التي وافق بعدها على دخول الحكومة الائتلافية على مضض. وآنذاك كانت تعلو أصوات داخل الحزب تدعو علناً إلى الجلوس في صفوف المعارضة والخروج من ظل ميركل، من أجل التقاط الأنفاس وإعادة تجميع القاعدة.

براغماتي وذو خبرة
ثم إنه لفترة طويلة، ظل الحزب يرفض أن يقوده أولاف شولتس، الذي يُعد من قيادات جناحه اليميني. ومع أن الجناح اليساري هو الذي فاز بزعامة الحزب واختار زعيمين مشتركين لقيادته، فإن عجز هذين الزعيمين عن التواصل بفاعلية مع القاعدة الشعبية منذ انتخابهما وتحقيق أي تقدم يذكر، دفع الحزب إلى اختيار شولتس مرشحاً عنه لمنصب المستشار. ومنذ ذلك الحين، وشعبية الاشتراكيين في ارتفاع مطّرد، بينما اختار الجناح اليساري أن يترك لشولتس مهمة انتشال الحزب من الغرق.
ومقارنةً بلاشيت وبيربوك، يبدو شولتس أيضاً الأكثر جدارة على صعيد الخبرة في الحكم وإدارة البلاد. هنا تقول كوزميل إن شولتس روّج لنفسه «على أنه الخليفة الطبيعي لميركل والشخص الذي يتمتع بالخبرة الضرورية للمنصب». ومع أن لاشيت هو رئيس حكومة أكبر ولاية ألمانية من حيث عدد السكان (هي الراين الشمالي ووستفاليا) ويديرها من دون مشكلات ظاهرة، فهو لم ينجح في تقديم نفسه بالصورة ذاتها. وفي الفترة الأخيرة وجّه جزءاً كبيراً من اللوم إلى الحكومات المحلية في التعامل مع الفيضانات التي ضربت 3 ولايات في غرب ألمانيا، وكانت ولاية الراين الشمالي ووستفاليا الأكثر تضرراً. ورغم معرفة الحكومات المحلية مسبقاً بكمية الأمطار التي هطلت آنذاك، وإمكانية تسببها بفيضانات، فقد قصّرت في إرسال إنذارات للسكان بالإخلاء، ما ضاعف من كمية الخسائر البشرية والمادية في تلك الكارثة.
في المقابل، لم يتأثر شولتس بالانتقادات الكبيرة التي توجه حالياً لحزبه بسبب ما يحصل في أفغانستان. وللعلم، فإن وزير الخارجية هايكو ماس – وهو مثل شولتس من الاشتراكيين - يواجه دعوات له بالاستقالة لتأخر البدء بعمليات الإجلاء في وقت أبكر والتغاضي عن نصائح الأمنيين لوزارته بذلك. وواقع الأمر، أن الانتقادات تبدو موجهة لماس شخصياً وليس للحزب. و«في كل الأحوال - حسب كوزميل - القضايا الخارجية لم تكن يوماً دافعاً للناخبين لاختيار أحزابهم في الانتخابات». وبالفعل، يظهر أن ما يساعد على رفع شعبية شولتس، إمساكه بنجاح بالحقيبة المالية لألمانيا منذ سنوات، ومن ثم، اتخاذه قرارات ساعدت على انتشال كثير من الشركات من الافلاس إبّان أزمة «كوفيد 19» على صعيد ألمانيا وعلى المستوى الأوروبي أيضاً، وبعدها أيضاً خلال الفيضانات التي ضربت البلاد.

عودة الصراع التقليدي!
هكذا، مع استمرار تراجع حزب «الخضر»، يرى مراقبون ومعلّقون أن السباق لخلافة ميركل انحصر الآن بين لاشيت مرشح الديمقراطيين المسيحيين عن اليمين، وشتولتس مرشح الاشتراكيين عن اليسار. لكن، في النهاية، قد يكون حزب «الخضر» هو القوة التي تقرر أي الرجلين سيصبح المستشار المقبل، وذلك حسب مَن سيختاره للتحالف معه ودخول الحكومة. وحالياً، يستبعد محللون أن تحمل الحكومة الجديدة التحالف نفسه الذي تحمله الحكومة الحالية، أي الاشتراكيين (الحزب الديمقراطي الاجتماعي) والمحافظين (الاتحاد المسيحي الديمقراطي).
الحل المفضل بالنسبة للاشتراكيين قد يتمثل بدخول السلطة عبر تحالف مع «الخضر» والليبراليين الوسطيين (الحزب الديمقراطي الحر) الذين يحصلون الآن على نسبة 11 في المائة تقريباً من الأصوات، رغم وجود خلافات عقائدية بين الطرفين. حتى إن صيغة دخول الحكم بائتلاف يساري محض مطروحة، مع أنها مستبعدة. وللعلم، شولتس نفسه لم يشأ استبعاد هذا الاحتمال عندما سئل عن إمكانية دخول السلة الائتلافية مع «الخضر» وحزب «دي لينكا» اليساري المتشدد... فيما يبدو وكأنه الامتداد الطبيعي لائتلاف يساري.
بطبيعة الحال، لاشيت يودّ استغلال هذا «السيناريو» تحديداً في محاولة لاستعادة بعض الناخبين الذين هجروه لصالح شولتس، وهو يكرر القول: «إن حكومة يسارية ستكون كارثية، وتؤدي إلى رفع كبير في الضرائب». وبالفعل، يخيف هذا «السيناريو» الشركات الألمانية وأصحاب الأعمال، خاصة أن للأحزاب الثلاثة تجربة حكم محلية في ولاية برلين، وهي تجربة تعكس كثيراً من المشكلات، ويصفها البعض بـ«الكارثية». وهنا يقول كونيغ إن هكذا ائتلاف «ممكن، ولكن يصعب حصوله، لأنه لا أحد يريده». ويضيف أن «لدى الاشتراكيين والليبراليين مشكلات أساسية، لكن يمكن تخطيها من أجل تشكيل الائتلاف».
في المقابل، قد يقرر «الخضر» دعم الديمقراطيين المسيحيين في الحكومة الجديدة، بهذا يصبح لاشيت المستشار المقبل. وعندها سيدخل معهما ليبراليّو الحزب الديمقراطي الحر... الأقرب عقائدياً إلى المحافظين منهم إلى الاشتراكيين. وحقاً، بدا لاشيت خلال الحملة الانتخابية - وخاصة بعد الفيضانات - وكأنه اقتنع بضرورة إضافة جزءٍ متعلق بالتغير المناخي وحماية البيئة في حملته، ربما في محاولة لجذب «الخضر» لدعم حكومته لاحقاً.
أخيراً، وأياً كانت نتيجة الانتخابات، وبغضّ النظر عمّن سيخلف ميركل، فإن الانتخابات المقبلة مرشحة لأن تكون الانتخابات الأهم في ألمانيا منذ عقود. ومعها ستطوى صفحة حكم طويلة لمستشارة عاصرت 4 رؤساء أميركيين، ونجحت أن تغادر وهي في قمة شعبيتها.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.