لعنة الوثائق الأميركية

من «كوكا كولا».. إلى ويكيليكس فهيلاري كلينتون.. قصص وحكايات

لعنة الوثائق الأميركية
TT

لعنة الوثائق الأميركية

لعنة الوثائق الأميركية

يوم السبت الماضي، لم يدافع الرئيس باراك أوباما عن غريمته هيلاري كلينتون، وزيرة خارجيته السابقة، التي ورطت نفسها في فضيحة يمكن أن تكون جريمة قانونية، تقودها إلى السجن، وليس إلى البيت الأبيض، حلمها من قبل أن يدخله أوباما. لم يدافع عنها أوباما، بل تندر عليها.
في العشاء السنوي في نادي «غريدايورن» (وتعني الكلمة «شواية»)، حيث يتناول صحافيون كبار العشاء مع مسؤولين كبار، يتهكمون، و«يشوون»، بعضهم بعضا، قال أوباما: «قرأت في الصحف أن هيلاري كلينتون عندها (مشغل) إنترنت (سيرفر) في منزلها. كنت أعتقد أنني أنا الرئيس الذي يستعمل أحدث تكنولوجيا الإنترنت. لكن، الآن تأكدت أنني متأخر جدا في هذا المجال».
وقال إنه صار يجيد تكنولوجيا «سيلفي» (التقاط صورة ذاتية بالتليفون). وفي إشارة غير مباشرة إلى كلينتون، قال «ليحذر الرئيس (الرئيسة) بعدي في البيت الأبيض من التقاط صور مهزوزة. ستكون هذه فضيحة أسوأ من إرسال خطاب إلى إيران». قصد، أيضا، السيناتور الجمهوري توم كوتون الذي قاد حملة إرسال خطاب تحذير من 47 من أعضاء الكونغرس إلى إيران ألا توقع اتفاقية القنبلة النووية مع أوباما.
ربما منذ أول وثيقة سرية أميركية احتفظت بها الحكومة الأميركية (مراسلات بين الرئيس الأول جورج واشنطن والملك جورج الثالث، ملك بريطانيا)، لم تتعرض الوثائق الحكومية الأميركية السرية لكوارث (لعنات؟) مثلما حدث خلال العشر سنوات الأخيرة: تسريب الوثائق العسكرية السرية الأميركية عن غزو واحتلال العراق. تسريب وثائق الخارجية الأميركية السرية، إلى ويكيليكس.. والآن، رفض هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة، الاحتفاظ بوثائق الوزارة السرية في بريد الوزارة الإلكتروني، والاحتفاظ بها في بريدها الخاص، لمدة 4 سنوات.

وثائق كوكا كولا
طبعا، توجد وثائق حكومية ووثائق غير حكومية. وإن تفاوتت واختلفت اللعنات.. ومن أشهر الوثائق الخاصة في الولايات المتحدة «وثائق كوكا كولا»، التابعة لمتحف كوكا كولا، في أتلانتا (ولاية جورجيا). ويظل أهم سر في هذه الوثائق هو طريقة صناعة مشروب «كوكا كولا». منذ عام 1936، صارت كل وثائق الحكومة الأميركية تجمع في «دار الوثائق الوطنية» في واشنطن العاصمة. حتى الآن، توجد فيها أكثر من 10 مليارات وثيقة (سرية وغير سرية). وفي عصر الإنترنت، صارت دار الوثائق تجمع الوثائق الإلكترونية (مليون وثيقة حتى الآن). وبالنسبة لوثائق وزارة الخارجية، صارت إلكترونية منذ 15 عاما.
في الأسبوع الماضي، راجع ستيف كونتورو، كاتب عمود «بلويتكوفاكتز» (حقائق سياسية) في صحيفة «تامبا نيوز» (ولاية فلوريدا) وزراء الخارجية الأميركية خلال العشرين عاما الماضية الذين احتفظوا بوثائق إلكترونية في حسابهم الخاص. ووجد الآتي:
أولا: مادلين أولبرايت (1997-2001): لم تكن عندها وثائق حكومية إلكترونية لأن الإنترنت كان في بداية دخوله الوزارات والمصالح الحكومية. ثانيا: كولين باول (2001-2005): كانت أغلبية وثائقه ورقية. وكان عنده حساب إلكتروني خاص، وضع فيه بعض الوثائق الحكومية. ثم أعادها إلى الخارجية.
ثالثا: سوزان رايس (2005-2009): لم تستعمل البريد الإلكتروني في أعمال حكومية.
رابعا: هيلاري كلينتون (2009-2013): لم تستعمل البريد الإلكتروني التابع لوزارة الخارجية أبدا. وخلال 4 سنوات وضعت كل الوثائق الحكومية في بريدها الخاص. وهذا هو سبب الضجة الحالية. إذا كان باول وضع «عددا قليلا» من الوثائق الرسمية في بريده الخاص، وقال إنه أعادها «كلها»، فقد وضعت كلينتون «كل» الوثائق الرسمية في بريدها الخاص. وقالت إنها أعادت (55 ألف وثيقة).

وثائق كولين باول
لأن كلينتون ديمقراطية، هب الجمهوريون ضدها. بدأ ديمقراطيون يبحثون في الدفاتر.. ثم تساءلوا عن كولين باول الجمهوري. في الأسبوع الماضي، ظهر باول في تلفزيون «إيه بي سي»، وسأله مقدم البرنامج «هل أعدت كل وثائق وزارة الخارجية التي كانت في بريدك الخاص؟» أجاب: «ليست عندي وثائق للخارجية الأميركية لأعيدها.. أعدتها كلها». وسأله مقدم البرنامج: «هل تحتفظ بأي وثيقة رسمية؟»، أجاب: «ليست عندي آلاف الوثائق».
صار واضحا أن أجوبة باول ليست مقنعة. وفي اليوم التالي، سأل صحافيون ماري هارف، المتحدثة باسم الخارجية الأميركية عن وثائق باول. وأجابت: «قال لنا باول إنه يفتش الآن في بريده عن أي وثيقة رسمية». طبعا، إجابة المتحدثة باسم الخارجية ليست مقنعة، مثلما أن إجابة وزير الخارجية الأسبق ليست مقنعة. لهذا، هب ديمقراطيون يقولون إن كلينتون (الديمقراطية) فعلت ما فعل باول (الجمهوري). بل قال ديمقراطيون إن باول أخفى وثائق لها صلة بيوم ذهب إلى مجلس الأمن ورفع أنبوبة فيها سائل. وقال إن الرئيس العراقي صدام حسين يقدر على أن يقتل الملايين بأسلحة الدمار الشامل التي يملكها. كان ذلك يوم 5-2-2003، قبل شهر من غزو العراق.
لهذا، ردا على طلب الجمهوريين في الكونغرس «كل» وثائق الخارجية من هيلاري كلينتون، يتوقع أن يطلب الديمقراطيون في الكونغرس من باول «كل» وثائق الخارجية.
من بين هؤلاء الديمقراطيين السيناتور تشارلز شومر (ديمقراطي من ولاية نيويورك). في الأسبوع الماضي، وقف داخل قاعة مجلس الشيوخ، وقال: «هيلاري كلينتون هي الوحيدة التي أعادت كل الوثائق الرسمية». طبعا، ليس هذا صحيحا. لكن، في جو الاتهامات، والمناورات، والمؤامرات، في واشنطن العاصمة، يصير الخط الفاصل بين الصحيح والخطأ غامضا.

وثائق كلينتون
لكن، ليس هناك غموض في أن هيلاري كلينتون احتفظت بكل وثائق الخارجية لمدة 4 أعوام في بريدها الخاص. وفي مؤتمرها الصحافي اعترفت بذلك. بدأت الفضيحة في بداية هذا الشهر، عندما كشفتها صحيفة «نيويورك تايمز». لكن، صمتت كلينتون 10 أيام قبل أن تعقد مؤتمرا صحافيا عن الفضيحة. خلال فترة صمتها، وفي مناورة سياسية (دراسة الاتهامات قبل التسرع في الرد عليها) أمرت نيك ميريل، المتحدث باسم حملتها الانتخابية، إصدار بيان مقتضب ينفي الاتهامات (لم تنجح المناورة لأن معارضيها قالوا إنها صمتت لتبحث عن «حيلة أخرى»). وحسب وكالة «أسوشييتد برس» استخدمت كلينتون حسابا شخصيا مسجلا لمنزلها في ضاحية شاباكوا، في ولاية نيويورك. ويتبع الحساب لمؤسسة كلينتون، والحساب هو: «إتش آر (هيلاري رودام) 22 آت كلينتون ميل دوت كوم».
يرتبط هذا الحساب مع حساب زوجها بيل كلينتون في نفس مؤسسة كلينتون. وأيضا، مع الحساب الثاني لزوجها «بريزيدانت (الرئيس) كلينتون دوت كوم». وأيضا، مع حساب ثالث «دبليو جي سي أوفيس (مكتب وليام جفرسون كلينتون) دوت كوم». وقالت صحيفة «واشنطن بوست»، اعتمادا على مصادر في الخارجية الأميركية، إن كلينتون أعادت 55 ألف وثيقة حكومية، لكن يعتقد أنها لم تعد 50 ألف وثيقة أخرى. وكانت مواقع في الإنترنت قالت، قبل ذلك، إن كلينتون مسحت 50 ألف وثيقة، أو 100 ألف، أو ..
ولم ينتظر قادة الحزب الجمهوري حتى غروب الشمس ليشنوا هجمات عنيفة على كلينتون.
قال تري غودي (جمهوري، ولاية ساوث كارولينا): «لا يحتاج أي شخص لشهادة في القانون ليقول إن كلينتون خرقت القانون. وخرقت التقاليد. بل خرقت القيم الأخلاقية». وقال غودي إنه طلب من وزارة الخارجية كل وثيقة خلال الأربع سنوات التي كانت كلينتون خلالها وزيرة. وإنه سيستدعي كلينتون للشهادة أمام لجنته في مجلس النواب.
هذه هي اللجنة الخاصة التي كان الجمهوريون في مجلس النواب أسسوها قبل عامين للتحقيق في الهجوم الإرهابي على القنصلية الأميركية في بنغازي، في ليبيا، حيث قتل السفير الأميركي في ليبيا، ودبلوماسيون أميركيون آخرون
وقال جيب بوش، الحاكم السابق لولاية فلوريدا، والذي يتوقع أن يترشح باسم الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية (ضد كلينتون، إذا لم تتفاقم الفضيحة): «هذا شيء يدعو للاستغراب. لماذا فعلت ذلك؟ وهل فكرت قبل أن تفعله، وخلال فعلها له؟»
وقالت د. جنيفر لوليس، أستاذة القانون في الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة: «ليس هذا غريبا لمن تابع سنوات الرئيس كلينتون الثماني في البيت الأبيض، ومعه زوجته السيدة الأولى في ذلك الوقت. رغم إنجازات كلينتون الداخلية والخارجية، كان هناك جو من عدم الوضوح، وعدم الثقة في معاملاتهما مع الناس، هو وزوجته. كان هناك جو خوف من شيء ما، جو توقع انتقادات، والاستعداد للدفاع ضدها».

البيت الأبيض لا يدافع
حسب قانون الوثائق الفيدرالية، يجب الاحتفاظ بجميع رسائل البريد الإلكتروني الرسمية. ولا تقبل النسخ الورقية من الرسائل الإلكترونية كوثائق رسمية وفقا للقانون. ورغم وجود استثناءات للمواد السرية، يجب الاحتفاظ بالمستندات ورقيا حتى يطلع عليها الصحافيون ولجان الكونغرس والمؤرخون عندما يحين وقت عرضها للجمهور.. وقال مسؤولون عن هيئات رقابة حكومية، ومسؤولون سابقون في إدارة الوثائق والأرشيفات، إن استخدام كلينتون للبريد الشخصي لأغراض حكومية خرق خطير للقانون. وإن البريد الشخصي أكثر عرضة للاختراق من قبل القراصنة.
رغم كل هذه الانتقادات، خاصة من قادة في الحزب الجمهوري قالوا إن ترشيح كلينتون لرئاسة الجمهورية صار غير مضمون، لم يهب البيت الأبيض للدفاع عن كلينتون. وهكذا، بدأت مرحلة جديدة من علاقة كلينتون المتأرجحة مع أوباما، منذ أن نافسته في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2008.
قال جوش ايرنست، المتحدث باسم البيت الأبيض، دون أن يدافع عن كلينتون: «حسب معلوماتنا، لم يكن لوزيرة الخارجية السابقة حساب في وزارة الخارجية. واستعملت حسابا خاصا بها. حسب القانون الذي ينطبق على كل المراسلات الحكومية، يمكن أن يحدث هذا بشرط أن تتحول كل محتويات هذه الحسابات الشخصية إلى قسم الأرشيف في كل وزارة، أو مصلحة حكومية».
وأضاف: «منذ أول يوم في إدارة الرئيس أوباما، أرسلت أوامر واضحة ومحددة بأن كل من يعمل فيها يجب أن يستخدم الحساب الرسمي للجهة التي يعمل فيها. لكن، إذا رأى مسؤول أن يستعمل حسابا خاصا، يجب أن تتحول محتوياته إلى قسم الأرشيف، كما ينص قانون الأرشيف والوثائق الأميركي».
فاكت جيك
يتابع موقع «فاكت جيك» (مراجعة الحقيقة) تصريحات كبار السياسيين والمسؤولين، ويدقق في صحتها. هذه تدقيقات من تصريحات كلينتون:
قالت: «كان سهلا أن أحمل تليفونا واحدا، وأستعمل حسابا واحدا». لكن لم تقل إن جيشا من المساعدين والمرافقين كان يمكن أن يفعل ذلك. قالت: «سمحت لي وزارة الخارجية استعمال حسابي الخاص للأعمال الرسمية».
لكن لم تقل من في الوزارة سمح لها، وهي الوزيرة.
قالت: «أرسلت جزءا كبيرا من بريدي إلى المسؤولين في الخارجية الذين أتعامل معهم، وكانوا يحفظونها في كومبيوترات الوزارة». لكن قبل أسبوعين، قالت جين بساكي، المتحدثة باسم الخارجية، إن حفظ البريد لم يكن أوتوماتيكيا إلا بعد بداية هذا العام. وقبل ذلك، لم يكن هناك مقياس عن حفظ البريد، أو عدم حفظه. قالت: «بعد أن تركت وزارة الخارجية، اتصلوا بي، وطلبوا البريد الذي له صلة بالعمل الرسمي. وفي الحال، أرسلت لهم ما يعادل 55 ألف صفحة مكتوبة». لكن: لم تقل إن الخارجية طلبت منها ذلك بعد 3 أعوام من عملها وزيرة للخارجية. عندما طلبت لجنة في الكونغرس البريد الذي له صلة بالهجوم الإرهابي على القنصلية الأميركية في بنغازي (عام 2013).
قالت: «بعد أن أرسلت كل البريد الرسمي إلى الخارجية، قررت مسح بريدي الخاص. عن أشياء مثل: زواج ابنتي ووفاة والدتي، وحصص اليوغا التي كنت أذهب إليها».
لكن لم تقل ماذا كان مقياس «الرسمي» و«الخاص». قالت: «طلبت من الخارجية نشر كل البريد الرسمي الذي أرسلته. حتى يراه الشعب الأميركي، وحتى يتأكد من العمل الذي قمت به، وأفتخر به، كوزيرة للخارجية». لكن، حسب قانون الوثائق، لا تنشر الوثائق السرية إلا بعد 30 عاما. لماذا تريد نشر وثائقها الآن؟ ولماذا الحديث عن «الفخر»؟
قالت: «في النهاية، أعلن أنني التزمت بكل القوانين المطلوبة هنا».
لكن: صار واضحا أن هذا ليس صحيحا. ويبدو أن العاملين في الوزارة هم الذين التزموا بالقوانين الذي وزعتها هي عليهم، والتي تقول: «لا تستعملوا بريدكم الخاص لعمل الوزارة». وأخيرا، تبدو هذه فضيحة سياسية، وتاريخية، وقانونية. يبدو أن جزءا ليس قليلا من وثائق 4 أعوام لوزيرة الخارجية الأميركية زورت، أو اختفت، أو مسحت، سواء صارت هيلاري كلينتون رئيسة للجمهورية، أم لم تصر.

* فضائح بيل وهيلاري

- ترافيل غيت: نقل أصدقاء ومتبرعين سياسيين بالطائرة الرئاسية.
- هوايتوتر: استثمارات مشبوهة؛ شراء قطعة أرض في ولاية أركنسا.
- كاتيل غيت: استثمارات مشبوهة في بورصة المحاصيل والحيوانات في شيكاغو.
- جنيفر فلاورز: مغنية نادي ليلي، صديقة بيل عندما كان حاكم ولاية أركنسا.
- فنس فوستر: صديق ومستشار في البيت الأبيض، انتحر مع إشاعة علاقة جنسية مع هيلاري.
- بولا جونز: سكرتيرة وصديقة بيل عندما كان حاكما لولاية أركنسا.
- جوانيتا برودريك: صديقة بولا جونز، وأيضا بيل.
- غرفة لنكولن في البيت الأبيض: «للإيجار» لدافعي تبرعات سياسية.
- المعبد البوذي: علاقة مشبوهة وتبرعات سياسية من مهاجرين من الصين.
- ويب هابل: وزير العدل، اضطر لأن يستقيل بسبب فضيحة سياسية.
- كينيث ستار: المحقق الفيدرالي الذي قاضى كلينتون لأنه كذب عن علاقات جنسية.
- مونيكا لوينسكي: سكرتيرة البيت الأبيض بطلة علاقة جنسية مع بيل.
- إلينور روزفلت: قالت هيلاري إنها تتكلم معها في غرفتها في البيت الأبيض.
- العفو الرئاسي: في آخر يوم رئيسا، أعفى عن أصدقاء أدينوا.
- جيفري ابستين: في بداية هذا العام. رفعت قاصر قضية اغتصاب ضده، وقالت إن بيل كلينتون كان يعرف. وإن الأمير البريطاني أندرو كان هناك أيضا (نفى الأمير).



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.