أفغانستان أمام «سيناريوهات» ما بعد الانتصار

وسط تبدل المعطيات والتكتيكات وحسابات لاعبي الداخل والخارج

أفغانستان أمام «سيناريوهات» ما بعد الانتصار
TT

أفغانستان أمام «سيناريوهات» ما بعد الانتصار

أفغانستان أمام «سيناريوهات» ما بعد الانتصار

كانت اللحظة التي استقل فيها الرئيس الأفغاني أشرف غني أحمد زي، في مطار كابُل الدولي، الطائرة المتجهة إلى جمهورية طاجيكستان بمثابة نهاية للجهود الأميركية التي استمرت على مدى 20 سنة متصلة لبناء دولة في أفغانستان. إذ ذهبت هباءً تريليونات الدولارات التي أنفقت على محاولة بناء مؤسسات دولة أفغانية، مع «اختفاء» القوات المسلحة الأفغانية، وانهيار الهيكل الحكومي بشكل كامل. وكل هذا حدث في غضون ساعات فقط من دخول رجال ميليشيا من أعضاء «حركة طالبان» العاصمة الأفغانية كابُل، صباح الأحد الفائت.
وحقاً، كان هذا الحدث خاتمة لـ20 سنة من الجهود الدولية، التي كانت قد بدأت في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة بمحاولة تفكيك «حركة طالبان»، بيد أنها كما حصل، انتهت نهاية مخزية، إذ لم يحدث من قبل في التاريخ الحديث أن نفّذت قوة عظمى مثل هذه المغامرة العسكرية بهذه التكلفة المهدورة.
لقد مرّ استيلاء «طالبان» على العاصمة الأفغانية كابُل بشكل سلمي حتى الآن، إذ أصبحت كابُل الآن تحت السيطرة الكاملة لقوات الحركة، ولا سيما بعدما نشر قادة الميليشيا وحدات أمنية حول المدينة، وباتوا متغلغلين في جميع أنحائها، ناصبين نقاط تفتيش أمنية في كل زاوية فيها. ومن ناحية أخرى، لا يزال مطار حامد كرزاي الدولي - وهو الاسم الرسمي للمطار - المرفق الوحيد في كابُل الذي يخضع لسيطرة الجيش الأميركي، وذلك بعدما أنشأت «طالبان» نقاطاً أمنية في جميع أنحاء المطار، لكنها أحجمت عن الإقدام على أي محاولة لدخول مبانيه. وبالتالي، ولذلك فإن ثمة ما يشبه الهدنة غير المعلنة بين «طالبان» والقوات العسكرية الأميركية المسيطرة على المطار، مع العلم أن هذه القوات كانت قد أجلت الموظفين الدبلوماسيين الأميركيين من كابُل وأزالت العلم الأميركي عن مجمّع السفارة في المدينة.
جدير بالذكر أنه قبل ساعات معدودات من دخول رجال «طالبان» إلى مختلف أحياء كابُل ومناطقها، كان جميع أعضاء حكومة الرئيس أشرف غني تقريباً قد فرّوا منها، ومع ذلك، اختارت الحركة تحاشي الإخلاء القسري للمسؤولين الذين كانوا لا يزالون داخل المباني الحكومية أو في مقرّ الرئاسة. وبدلاً من ذلك، دخلت «طالبان» في مفاوضات مع كبار المسؤولين في الحكومة الأفغانية السابقة من أجل إنجاز انتقال سلمي للسلطة، ويقود الرئيس السابق حامد كرزاي والسياسي الحكومي البارز الدكتور عبد الله عبد الله فريق الحكومة الأفغانية في المباحثات، ولا تزال المفاوضات مستمرة حتى كتابة هذا التقرير.
من ناحية ثانية، لم ترد أنباء عن وقوع حوادث عنف تستحق في كابُل بعد دخول مسلحي «طالبان» المدينة، ومع ذلك، جرى الإبلاغ عن حدوث نزوح جماعي واسع النطاق خارج المدينة. إذ يخشى السكان الذين كانوا يتعاونون بشكل وثيق مع حكومة أشرف غني أو مع القوات الأميركية من التعرّض لهجمات انتقامية من قبل مسلحي «طالبان»، واتضحت هذه الصورة مع اقتحام عدد كبير من المواطنين بوابات المطار الدولي محاولين الصعود على متن طائرات عسكرية أو تجارية أميركية متجهة إلى خارج أفغانستان، كذلك عُلّقت الرحلات التجارية مع إعطاء الأولوية لرحلات الطيران العسكرية الأميركية التي تتولّى إجلاء الموظفين الدبلوماسيين.

بيان دولي مشترك

على الصعيد السياسي الدولي، أصدر أكثر من 60 دولة بياناً مشتركاً يدعون إلى إعادة فرض الأمن والنظام المدني بشكل فوري، وكذلك طالب البيان «طالبان» بالسماح بمغادرة البلاد لكل الراغبين بذلك. وفي المقابل، يعرب النُشطاء عن مخاوفهم بشأن مصير النساء في أفغانستان وسط تقارير تفيد بأن «طالبان» تفرض بالفعل تغييرات على طريقة لباسهنّ واختيارهن للعمل، في بعض أنحاء البلاد، في حين واصلت محطات التلفزيون المحلية الخاصة الأفغانية بثّ برامجها المعتادة مع وجود الممثلات والمذيعات بشكل طبيعي على شاشات التلفزيون.
أيضاً واصل النُشطاء والمعلّقون السياسيون الإعراب عن مخاوفهم أيضاً من معاملة أقليات أفغانستان في ظل قيادة «طالبان» للبلاد. وقال الصحافي الباكستاني، طاهر خان، الذي يتكلم اللغة البشتوية - الباشتونية (لغة غالبية مسلحي «طالبان») وكان يغطي شؤون الحركة منذ استيلائها على كابُل لأول مرة: «توجد مؤشرات واضحة على أن الحركة ستكون مختلفة هذه المرة، فهناك بالفعل كثير من الضغوط التي تُمارس عليها من قبل المجتمع الدولي بشأن القضايا المتعلقة بالأقليات».
وأضاف خان أن 3 من قادة «طالبان» حضروا يوم الأحد مجلس عزاء شيعياً في مدينة كابُل، وهو في رأيه بمثابة إشارة واضحة إلى أن الحركة ستكون ليّنة في تعاملها مع الأقليات بعد تشكيل الحكومة الأفغانية. وتابع: «صحيح أنه سيكون من الصعب التكهّن بما سيحدث لاحقاً، لكنهم يستجيبون للضغوط الدولية في الوقت الحالي».

دور إيران المتنامي

يرتبط هذا التغيير في موقف «طالبان» الواضح تجاه الأقليات والنساء بخلفية استراتيجية يظهر أنها دُفعت إليه، وذلك بعدما تحسنت علاقات الحركة بشكل كبير مع الدول الإقليمية، بما في ذلك إيران والصين وروسيا. وحسب كلام طاهر خان: «إحدى الدول التي حسنّت (طالبان) علاقاتها معها بشكل كبير هي إيران، إذ تشاور أعضاء الحركة مع القادة الإيرانيين إبّان المباحثات مع الإدارة الأميركية، كما أنهم يزورون طهران بانتظام من أجل إجراء مشاورات».
ومن جانب آخر، هناك إدراك واضح داخل دوائر السياسة الخارجية الباكستانية بأن قرار الولايات المتحدة الأحادي بالانسحاب من أفغانستان يشير إلى أن واشنطن لم تعُد تركِّز على القضايا المتعلقة بالإرهاب، وهو ما يعني عملياً تضاؤل الأهمية الاستراتيجية لكل من باكستان وأفغانستان. لكن، مع ذلك، ثمة إشارات ضعيفة من قبل العواصم الإقليمية بأن «الأصول الاستراتيجية» التابعة للمؤسسة الأمنية الباكستانية، وهو التعبير الذي يستخدَم كثيراً في وسائل الإعلام الدولية للإشارة إلى «حركة طالبان» الأفغانية، تتمتع ببعض الدعم بين دول المنطقة مثل روسيا وإيران والصين.
وما يُذكر هنا أنه إبان ذروة الوجود الأميركي في أفغانستان، وردت تقارير تفيد بأن الاستخبارات الأميركية كانت قد رفعت معلومات إلى واشنطن تفيد بأن كلاً من إيران وروسيا كانتا تقدمان أسلحة ودعماً استخباراتياً وتمويلاً لـ«حركة طالبان» من أجل شن هجمات على القوات الأميركية داخل كابُل. كذلك، نفذت «طالبان»، بإيعاز من الروس والإيرانيين، عمليات ضد الجماعات الموالية لـ«تنظيم داعش» في شمال أفغانستان وشرقها، خلال الفترة ما بين 2014 و2016. عندما سجّل صعود مفاجئ لـ«داعش» في البلاد. ثم إن وكالة الاستخبارات الباكستانية استضافت رؤساء استخبارات موسكو وطهران وبكين في مؤتمر عُقد بالعاصمة الباكستانية إسلام آباد في يوليو (تموز) 2018. وفيه جرى الاتفاق على أن أجهزة الاستخبارات الأربعة ستنسق جهودها ضد صعود «داعش» في أراضي أفغانستان.
لكن هل يعني هذا أن روسيا وإيران لهما علاقة عمل مع «طالبان» الأفغانية؟ أو هل ذلك يعني أيضاً أن اللاعبين الإقليميين كانوا أكثر تقبُّلاً لـ«حركة طالبان» المحافظة من «تنظيم داعش» المتطرف، الذي - وفقاً لتقارير - كان يؤسس داخل أفغانستان؟

البُعد الروسي للصورة

لا توجد إجابات واضحة على مثل هذه الأسئلة حتى الآن. لكن الواضح أن إيران رحّبت «بسحب القوات الأجنبية»، وأبدت روسيا استعدادها لاستخدام القوة العسكرية لحماية حلفائها الإقليميين مثل طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان (والجمهوريات الثلاث جمهوريات سوفياتية سابقة في آسيا الوسطى)، في حين لم يُشَر إلى «طالبان» على أنها تشكّل تهديداً لهذه الجمهوريات في أي من البيانات الروسية، وهذا على الرغم من حتمية رفض موسكو العنف المتزايد والقلاقل هناك.
وفي هذا السياق، وفقاً لمسؤولين وخبراء باكستانيين، فإن الروس يشعرون بالقلق بشكل خاص من صعود «داعش» في شمال أفغانستان بالقرب من حدودها مع دول آسيا الوسطى كلها، بما فيها طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. إذ لا تزال موسكو تعتبر أمن دول آسيا الوسطى مسؤوليتها الرئيسة، لكن الروس كانوا يناقشون هذه المشكلة مع قادة «طالبان»، ويرون أن الحركة تُعدّ بمثابة حليف محتمل لهم ضد «داعش» والجماعات المتطرفة الأخرى الناشئة في المنطقة الحدودية.
وحقاً، فإن قصة «داعش» في أفغانستان تتمحور أيضاً حول تراجع هذا التنظيم المستمر هناك. إذ إنه بعد الصعود الدراماتيكي في كابُل خلال الفترة بين عامي 2014 و2016 ووصول عدد أعضائه إلى الآلاف، بات التنظيم في حالة تراجع مستمرة. ثم إنه على مدى السنتين الماضيتين، عانى «داعش» من خسائر متتالية في مواجهته للعمليات العسكرية الأميركية والأفغانية في ولايتي كونر وننغرهار الشرقيتين، وقد تفاقمت هذه الخسائر بسبب الحملة العسكرية المنفصلة التي شنها مسلحو «طالبان» ضد التنظيم.
ومع ورود أنباء تشير إلى استدعاء «داعش» نحو 2200 مقاتل، فإن المسار بالنسبة لـ«طالبان» إجمالاً، يعجّ بانشقاقات بين صفوف القادة والمقاتلين، وخسارة أراضٍ، وتمزّق الحلفاء على أرض المعركة وفقاً لتقرير يشمل قراءات خبراء غربيين. ويرى بعض هؤلاء أن «طالبان» لا تتمتع بالكفاءة والتطور الكافي لمعالجة مشكلة عنف المفسدين الذي يمكن أن يظهر، ويكشف عن نفسه بأشكال متعددة في أفغانستان وربما يؤثر على دول المنطقة.

احتمالات المستقبل

على صعيد آخر، يتوقّع المراقبون أن تسعى «طالبان» الآن لبناء نوع من العلاقات الجيدة مع الأقليات الأفغانية، وبالأخصّ أقلية الهزارة الشيعية (في وسط أفغانستان) تفادياً لإزعاج إيران أو استفزازها. وللعلم، كان عدد كبير من الطاجيك والأوزبك والتركمان حتى بعض الهزارة قد انضم إلى «حركة طالبان». وكان هذا هو سبب بدء الحركة هجومها في شمال أفغانستان؛ حيث الأكثرية من غير قبائل الباشتون، ومن شأن هذا الواقع الجديد تشجيع «طالبان» على أن تكون لطيفة ومتعاونة مع الأقليات العرقية والطائفية.
في المقابل، قد يتخذ عنف المفسدين شكل هجمات إرهابية داخل الأراضي الباكستانية، وإذا صدّقنا أقوال خبراء الاستخبارات الغربية يمكن أن تصبح الاستخبارات الهندية ذراعاً تستخدم فلول الجماعات الإرهابية ضد باكستان. ولا يبدو هذا الأمر مستبعداً لدى النظر إليه في ضوء الادعاءات الباكستانية عن اختراق الاستخبارات الهندية لحركة «تحريك طالبان باكستان»، وأنه جرى استخدام هذه الجماعة المسلحة نحو تنفيذ هجمات إرهابية في قلب باكستان. ويوجد عدد لا يحصى من التقارير والادعاءات التي تشير إلى الشبكات التي تربط حركة «طالبان باكستان» بجماعات إرهابية دولية مثل «القاعدة» و«داعش».
بالمثل، قد يأتي هذا العنف في شكل استخدام باكستان للجماعات الإرهابية لتنفيذ هجمات إرهابية ضد المصالح الهندية في أفغانستان. وإذا ما نظرنا إلى الماضي القريب لن يبدو هذا مستبعداً، إذ من المعلوم والموثق كيف يستخدم الهنود الأصول العسكرية الاستخباراتية في أفغانستان ضد باكستان. كذلك لا تزال حيّة في الذاكرة القومية والدولية أيضاً الذكريات المريرة لما حدث من تحميل الإدارة الأميركية الاستخبارات الباكستانية مسؤولية الهجوم الإرهابي على السفارة الهندية في كابُل.
ويمثل هذا جانباً آخر من الصراع الأفغاني الذي يفرز قيحاً كجرح لم يندمل، فليس لدى الجهازين الأمنيين الباكستاني والهندي «قواعد لعبة» راسخة واضحة لحماية مصالح كل منهما في أفغانستان. ويشعر الباكستانيون بالقلق من رغبة واشنطن في منح الهند دوراً غير متناسب في أفغانستان بعد الانسحاب، في حين يشعر الهنود بالقلق والخوف من احتمال تأثر مصالحهم الاقتصادية في أفغانستان سلباً بسبب أعمال أعدائهم اللدودين في ثوب «طالبان». لذا لا يعد عنف المفسدين مستبعداً في هذا «السيناريو»، بل إن له سوابق في الأراضي الأفغانية، فقد اتهمت الإدارة الأميركية روسيا وإيران بدعم «طالبان» في أفغانستان لتنفيذ أعمال عنف ضد القوات الأميركية هناك. واتهمت روسيا الأميركيين بشكل غير مباشر بجلب مقاتلين تابعين لـ«تنظيم داعش» في شمال أفغانستان بالقرب من حدود جمهوريات آسيا الوسطى التي تعدّها روسيا جزءاً من حدودها الأمنية. وبالفعل، أوت فلول «القاعدة» و«داعش» في أفغانستان جماعات إرهابية ظهرت في مجتمعات آسيا الوسطى، وشاركت في صراع عسكري مع حكومة آسيا الوسطى.
ولا يقلّ قلق الصينيين إزاء ما يحدث من تطورات في أفغانستان، فهم يعلمون جيداً بتحالف العناصر الانفصالية الصينية، خاصة الأويغور المسلمين، مع كل من «داعش» و«طالبان» و«القاعدة». كذلك تتحالف بعض تلك العناصر مع «طالبان باكستان» التي كانت توفر لهم ملجأ حتى وقت قريب. وبينما يقول خبير يقيم في إسلام آباد: «إن المخاوف من عنف المفسدين التي تصل إلى الأراضي الصينية حقيقية»، عبّرت الصين بالأمس عن نيتها العمل والتعاون مع حكومة «طالبان» الجديدة.

أفغانستان... أمام خلفية تقاطع الحسابات الباكستانية ـ الهندية
> حركة طالبان» لم تواجه حتى هذه اللحظة أي مقاومة لنصرها العسكري في أفغانستان، ومع ذلك تشير التقارير إلى أن المسلحين الموالين لأحمد شاه مسعود، القائد العسكري السابق الراحل، قد بدأوا في التجمع في وادي بنجشير، المعقل القديم للقادة العسكريين الطاجيك.
المعلومات تحدثت عن أن أمر الله صالح، نائب الرئيس الأفغاني موجود في وادي بنجشير مع رجاله، وأنه قد يبدأ حراك مقاومة من شمال كابُل. والمعروف أن هناك تاريخاً طويلاً من تقديم الهند مساعدات عسكرية لقوات مسعود. وإذ ذاك لم يكن التهديد الإرهابي الدولي قد تبلور بالكامل عام 1996، وهو العام الذي شهد بداية الهنود تقديم المساعدة العسكرية الجوية لجماعات «التحالف الشمالي»، كذلك لم تكن وسائل إعلام العواصم الإقليمية والدولية قد بدأت تولي أهمية لهذا التهديد بعد. لذا كان المسؤولون العسكريون الهنود قلقين من صعود القوى الموالية لباكستان في أفغانستان، وبالتالي، كانوا يرون «طالبان» تهديداً للهند داخل أفغانستان، وهو ما كان له دور حيوي في تشكيل الفكر الاستراتيجي والسياسي للهند. وفي ظل هذه الجهود والمحاولات انضمت دول أخرى إلى الهند مثل إيران وروسيا وطاجيكستان حيث كانت أشكال الدعم الهندي تتدفق باستمرار إلى أحمد شاه مسعود (وهو طاجيكي) بمساعدة الجمارك الطاجيكية.
خوف الهند الاستراتيجي من أن تصبح باكستان متحكمة في أفغانستان، خلال مرحلة ما بعد الانسحاب، نابع من نظرة المسؤولين الهنود إلى الجهاز الأمني الباكستاني باعتباره مهيمناً على المسلحين السنة و«الإرهاب القادم من أفغانستان». وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن الهند مهتمة كثيراً بالعلاقات داخل أفغانستان من أجل ضمان اختراق أفغانستان (البعيدة عن البحار) من خلال الموانئ الإيرانية. لكن، كان لها أيضاً خطط للوصول إلى الجمهوريات الغنية بالنفط والغاز في آسيا الوسطى باعتبارها أسواقاً وموردين للطاقة في الوقت ذاته، وذلك لتلبية طلب الاقتصاد الهندي المتنامي والمتعطش للنفط. وبهذه الطريقة يستهدف المخططون الاستراتيجيون الهنود خفض الأهمية الاستراتيجية لباكستان. ومع اتجاه أفغانستان حالياً نحو سيطرة «طالبان» العسكرية الكاملة، من المرجح أن يضيع الاستثمار الهندي الكبير في الطرق والاتصالات في أفغانستان، وهذا ما يخشاه المسؤولون الهنود.
على أي حال، الإعلاميون والمفكرون الاستراتيجيون الهنود مقتنعون أن وضع الهند جيد بين المواطنين الأفغان، ويرون أن نيودلهي اختارت الاستثمار الصحيح وفي البلد المناسب، لكن ربما ليس في التوقيت السليم. فقد كان صعود «طالبان» عام 2014 أمراً واضحاً ومتوقعاً، عندما شهد ذلك العام بدء الاستخبارات الأميركية والغربية والمسؤولين الدبلوماسيين إشراك «طالبان» في المباحثات السرية. وأخذت التقارير عن هذا الأمر تتصدّر العناوين الرئيسة في الصحف ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم؛ ومع ذلك تجاهل الهنود التسريبات، وبدا أنهم لم يخططوا لـ«سيناريو» أفغانستان بعد رحيل القوات الأميركية، وواصلوا تقديم أنفسهم بوصفهم داعمي الحركات المناهضة للإسلام السياسي و«الإرهاب».
هذه المرة الوضع مختلف. وإذا قرّرت الهند تقديم الدعم إلى مسلحي بنجشير في مواجهة «طالبان»، فمن المؤكد أنها لن تحظى بدعم إيران أو الاتحاد الروسي. إلى جانب ذلك، بعدما كانت الأقليات العرقية في أفغانستان، كالطاجيك والأوزبك والتركمان، قاعدة الدعم الأساسية لمقاتلي أحمد شاه مسعود، نجد أن «طالبان» اجتذبت أخيراً كثيرين من أبناء هذه الأقليات، ما سهل لها الاستيلاء على المدن والبلدات الشمالية.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.