رحلة كولن ويلسون مع الكتاب

حكاية بداية عشقه للقراءة وتجميع الكتب حتى فاضت جدران منزله بها

كولن ويلسون في مكتبه
كولن ويلسون في مكتبه
TT

رحلة كولن ويلسون مع الكتاب

كولن ويلسون في مكتبه
كولن ويلسون في مكتبه

صدر حديثاً عن دار المدى العراقية كتاب «الكتب في حياتي»، وهو ترجمة أنجزها المترجم «حسين شوفي» لكتاب بعنوان The Books in My life كان الكاتب والفيلسوف البريطاني الراحل «كولن ويلسون» قد نشره عام 1998.
لن نغالي إذا قلنا إنّ كولن ويلسون هو واحدٌ من أكثر الكتّاب إشكالية في العالم، وفي العالم العربي بالتحديد، لأسباب كثيرة، منها أنه جاء مثالاً مخالفاً للنسق الثقافي الغربي الذي سعى لتكريس رؤية محدّدة بأطرٍ متشدّدة لما يمكن تسميته بالمثقف المؤثر في النطاق العام Public Intellectual. لم يأتِ ويلسون من قلب المؤسسة الأكاديمية البريطانية؛ فهو لم يسعَ للحصول على شهادة أكسفوردية أو كامبردجية تفتحُ أمامه المغاليق المستعصية في دهاليز الإنتلجنسيا البريطانية العنيدة والمثقلة بتقاليد الثقافة الفكتورية؛ لذا جاء كتابه الأول «اللامنتمي» ليكون له وقع الصاعقة في الدوائر الثقافية العالمية، ونال مقروئية واسعة، وبخاصة في عالمنا العربي، وأظنّ أنّ كلّ المثقفين العرب الحقيقيين يذكرون الكيفية التي ساهم بها هذا الكتاب في تشكيل ثقافتهم الأولى في خمسينات القرن العشرين عندما شهدت الوجودية والثورات الشبابية انطلاقتها المتفجّرة.
غالباً ما يُقرن كولن ويلسون مع كتاب اللامنتمي إقراناً شرطياً، وأرى في هذا افتئاتاً كبيراً على القدرات الفكرية والفلسفية الكبيرة التي حازها ويلسون، ويكفي مثالاً هنا أن أشير لحقيقة أنّ كتابه عن «فن الرواية» أراه أفضل كتاب قرأته في نظرية الرواية، وثمة كثير من كتب أخرى له غائبة عن فضاء الثقافة العربية لكونها غير مترجمة إلى العربية، ومنها – على سبيل المثال – كتابه عن «الوجودية الجديدة». إذا وضعنا هذه التفاصيل موضع التمحيص فسنعرف أهمية ترجمة أعمال جديدة لويلسون غير تلك التي تسيّدت الفضاء الثقافي العربي ونمّطت ويلسون في إطار محدّد، وعلى هذا الأساس يمكن تقدير أهمية ترجمة كتاب «الكتب في حياتي» لأنّ ويلسون عُرِف باهتماماته المعرفية المشتبكة والمتداخلة، فضلاً عن قراءاته الحثيثة والمتعددة منذ أن كان شاباً يافعاً؛ ومن الطبيعي أن تمثّل قراءته لبعض الكتب التي شكّلت حياته الثقافية إطلالة على منجزاته الثقافية اللاحقة.
نشأ كولن ويلسون وسط عائلة تنتمي لبيئة عمّالية، ولم يتيسّر له سوى القليل للغاية من التعليم الرسمي؛ غير أنه منذ أن كان طفلاً يافعاً جنح نحو الكلمة المطبوعة التي رأى فيها مَعيناً لن يخذله في استكشاف الأسئلة الإشكالية اللامحدودة التي تجود بها الحياة، وقد ضمّت مكتبة ويلسون نحواً من 20 ألف مجلّد بضمنها مؤلفاته الخاصة.
إن أعمال ويلسون طوال حياته كانت بحثاً دؤوباً في حالات الإدراك العليا، وقد ساهمت بصيرته الرؤيوية وشغفه بالمساءلة والتقصّي المتواصل في حقول الوعي والأدب والفلسفة في بعث روح الاستنارة الملهمة لعقول كثيرة. في كتابه هذا «الكتب في حياتي» يعاود ويلسون مراجعة الكتب التي مثّلت تحدياً جدياً له وساعدته على تشكيل حياته ورؤاه؛ فيبتدئ بالروايات الأساسية التي قرأها بنهمٍ في صباه، ثم يعرّج على «مارك توين» و«آرثر كونان دويل»، وبعدها يبلغ «نيتشه»، «جويس»، «سارتر»، «شو»... إلخ، ويمكننا أن نلمح منذ البدء أن ويلسون قد حمل مبكّراً عبء قراءة الأعمال التي ترمي لتأكيد قدرة المرء على التأثير الإيجابي في حياته وحياة العالم الذي حوله أيضاً وبطريقة مدركة وواعية، ويوفر لنا ويلسون في كتابه هذا القدرة على التدقيق في الكتب التي قرأها وهو يجتاز عتبات الصبا نحو البلوغ والانبثاق كاتباً، ولا ينسى أن ينقل إلينا محتوى السحر المكنون في ماهية تلك الكتب. إن كتاب «الكتب في حياتي» هذا هو نظرة مدهشة ومفعمة بالرؤى للكيفية التي يمكن بها لحياة أثرتها القراءة الجادة والشغوفة أن تشكّل هياكل أفكارنا وقلوبنا وأرواحنا وكلّ ما نعتقد بضرورته وأهميته في هذه الحياة.
يعرف جميع القرّاء أن قراءة الكتب تنطوي على خصال ممتعة تبعث البهجة في القلب، ولعل واحدة من أهم هذه الخصال أن قراءة الكتاب تقود إلى مزيد من القراءة والتنقيب في كتب أخرى فيما يشبه المتسلسلة اللانهائية ؛ وهذا هو ما أراد ويلسون التأكيد عليه بوضوح، وبخاصة في الفصل الخاص بـ«شرلوك هولمز» حيث يصرّح ويلسون أن عُدّته الاستنتاجية في البحث عن الكتب بعد قراءته لكتاب محدّد باتت تشبه وسائل هولمز في الكشف عن الأحجيات، على سبيل المثال تقود قراءة إليوت إلى اكتشاف كل من «هولم» و«الباغافاد غيتا» و«إيرنست هيمنغوي». إن رغبة ويلسون العظيمة في القراءة لم تكن تعرف حدوداً مثلما نتحسّس في قراءتنا لفصول هذا الكتاب، وإن رغبته في تحقيق الذات وتخليق بصمة ذاتية له، إلى جانب تسكين مرجل الأفكار الذي يغلي بداخله، كل هذه الأمور جعلت ويلسون يندفع في قراءة أي كتاب يمكن أن تطاله يداه، وأعتقد اعتقاداً حاسماً أن ويلسون نجح في كتابه هذا بكشف المفاعيل المدهشة للكتب في حياته والطريقة التي دفعته بها لارتقاء الذرى الفكرية التي بلغها لاحقاً وكتب عنها في سلسلة كتبه التي جاوزت 140 كتاباً.
لطالما قيل من قبلُ إننا لسنا سوى نتاج تجاربنا المتراكمة، ومن الطبيعي أن يختصّ الكتاب والقراءة بحيّز مهم في تلك التجارب، وعلى ضوء هذه الفكرة يمكن النظر إلى كتاب «الكتب في حياتي» الذي كتبه الكاتب الراحل كولن ويلسون... يحكي الكاتب في كتابه هذا «الذي يعدّ جزءاً مكملاً لسيرته الذاتية» عن الأعمال التي شكّلت بناءه الذهني وتوجهاته الفلسفية، منذ أن كان صبياً يافعاً وهو المعروف بنهمه المبكر للقراءة، وقد سرد الرجل في الفصل الافتتاحي الأول حكاية بداية عشقه للكتاب وتجميع الكتب حتى فاضت جدران منزله بها وصارت «مصدّات للشمس» على حسب تعبير زوجته!! عانى ويلسون حيرة عظمى بشأن الكتب التي يبتغي الحديث عنها في كتابه هذا، وهي حيرة لا بد عاناها كل من تصدّى لكتابة كتاب يحكي فيه عن الكتب التي أثّرت في بواكير تشكّل حياته الذهنية والمهنية، وتتعاظم الحيرة فيما لو كان الكاتب متفرّغاً للكتابة والكتاب وعالم الأفكار اللصيق بهما، وقد تحسّستُ في غير موضع من الكتاب مدى الحيرة التي ألمّت بالرجل وهو ينتقي الكتب التي شاء الحديث عنها في كتابه هذا، وأظنه اختار في نهاية الأمر نخبة من الكتب التي تشكّل توليفة متباينة سعى من ورائها لجعل القارئ يدرك الطيف الواسع من التخوم المتباينة التي يمكن أن يلامسها؛ وهكذا نقرأ في كتاب ويلسون عن أساطير متخيلة، مثل أسطورة «ويلسون» الذي شغل الناس طويلاً، أو عن أساطير أدبية حقيقية مثل «جويس» أو «برنارد شو» أو «دوستويفسكي» أو «الأخوان هنري ووليم جيمس» أو «سارتر» أو «هيمنغواي»، كما نقرأ عن شخصيات مؤثرة تم تجاهلها بطريقة محزنة للغاية مثل «أرتسيباتشيف»، ويمرّ بنا أيضاً عالم المغامرة الرفيعة وبطلها «جيفري فارنول» الذي يفرد له ويلسون فصلاً في الكتاب... إلخ، ولا ينسى ويلسون أن يخبرنا في سياق قراءاته للكُتّاب عن المواضع التي أثّرت فيه عميقاً أو تلك التي ارتأى أن ينأى بنفسه عنها في بواكير مراهقته؛ لذا يمكن اعتبار كتابه هذا أطروحة نقدية إلى جانب كونه فصولاً مكملة لسيرته الذاتية.
من الطبيعي أن يكون خيار ويلسون للكُتّاب والموضوعات في كتابه هذا مؤسساً على ذائقته الشخصية بالكامل، ولا يمكن أن يخفى على القارئ المدقق نشوة ويلسون وشغفه في تفنيد النزوع السلبي المقترن بالعبثية والعدمية غير المنتجتين واللتين صارتا السمتين الملازمتين لعقود عدة في القرن العشرين، «وبخاصة العقدين الخمسيني والستيني، ومن قبلهما الحقبة اللاحقة للحرب العالمية الأولى»، ولم يدّخر ويلسون جهده في توضيح أساس هذه النزعة السلبية التي نمت جذورها في الفكر الوجودي الوارث لتقاليد الرومانتيكية الأوروبية في القرن التاسع عشر، التي ركّزت المفاهيم الذاتية والأنوية السلبية وجعلتها تستحيل أوهاماً ذهانية خطيرة.
كتاب «الكتب في حياتي» تجربة تبعثُ على السعادة والانتشاء، وبخاصة لدى كلّ من تمرّس في قراءة كولن ويلسون، وأدرك الخفايا الثرية التي تنطوي عليها كتبه، وآملُ أن تكون ترجمة هذا الكتاب دافعاً إضافياً لترجمة كتب ممتازة أخرى له غير معروفة في العالم العربي.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.