«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم

حرب أهلية وانقسامات وصدام بين «المهاجرين» والمحليين بشأن الاستراتيجية والقيادة

«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم
TT

«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم

«الفتنة» الداخلية في «داعش».. إنذار بزوال التنظيم

منذ ظهر تنظيم «داعش» في سوريا ثم في غرب العراق وشماله خلال السنوات القليلة الماضية وهو موضع تساؤلات وتخمينات وتحليلات عن الظروف التي أوجدته، والجهات التي يمكن أن تكون قد «ابتكرته» لكي يخدم لها مصالحها الاستراتيجية إقليميا ودوليا، وانتهاء بتركيبته ومصادر تمويله وشبكة العلاقات التي تتيح له التحرك والتوسع داخل بيئة يفترض بها أنها معادية له.
وفي المقالة التالية يلقي الباحث والمحلل السياسي يوسف الديني نظرة فاحصة، تلي مراجعة تاريخية، إلى واقع التنظيم في أعقاب إعلان المجتمع الدولي الحرب عليه، ردا على الفظائع المتنقلة التي ارتكبها حيثما حل. ويركز الباحث على أوضاعه الداخلية وما يتهدده بنيويا من تفسخ وانقسام.

ليس أبو بكر البغدادي أبا الحسن الصبّاح ليمزج لأتباعه الداعشيين خمرًا ومخدرات ثم يأمرهم بقتل أنفسهم بعد إصابة العدو، كما أن أتباع «داعش» يبحثون عن مغانم كثيرة أولها خلافة تجمع شتاتهم عبر العالم لتضعهم في أتون حرب واحدة وجودية لا عودة فيها، وهو الأمر الذي جعل المهاجرين (كل من جاء من خارج مناطق التوتر) يصطدمون بالسكان المحليين المنضمين لـ«داعش» لأسباب تختلف عن قياداته ورموزه وكوادره الآتية من أماكن نائية وبعيدة.
شرارة البدء في الخلاف كانت منذ ما قبل تشكل التنظيم على ما آل إليه الآن من فوضى عارمة، حيث مزيج من منشقي «القاعدة» وقيادات بعثية وفارّين من العدالة ومجموعات وأسراب من شباب يبحثون عن شيء مختلف لكل واحد منهم طريقته الخاصة في الخلاص الدموي، فأول خلاف بين «داعش» تعود جذوره إلى مصعب الزرقاوي الذي كان منشقًا بالمعنى العملي عن «القاعدة» في أوج شهرتها وسلطتها، لكنه كان ينتمي لها على مستوى «المرجعية الجهادية» العامة قبل أن تتراجع «القاعدة» بعد رحيل رمزها الأول لتتحول إلى تنظيمات محلّية صغيرة بمرجعية «القاعدة» في جزيرة العرب عاصمة القاعديين صوب جنوب اليمن.
لاحقًا، حدثت انقسامات كثيرة إلى أن جاء لحظة الاعتداء على مجلة «شارلي إيبدو» التي أعادت بها «القاعدة» وجهها وحضورها في ساحة العمل المسلح، وتزامن ذلك مع تعاطف كبير في الشارع الإسلامي بسبب تداخل موضوع احترام المقدسات ورموز الأديان مع استهداف المجلة، وإذا كان استهداف المجلة قد جوبه باستنكار كبير دولي وإقليمي من الدول والتنظيمات الإسلامية الرسمية وعدد من رموز القيادات الشرعية إلا أن الكتلة الأساسية المتعاطفة مع «القاعدة» باركت العمل بأساليب مختلفة في حين أن استنكار «داعش» وغضبها من الحادثة كان يعبر عن حسد تنظيمي أكثر منه موقفًا شرعيًا.
في البداية، حاولت «داعش» تبني الهجوم على المجلة، وجاء ذلك في إعلان خطباء «داعش» في الجمعة التي تلت الحادثة في مساجدهم على الشريط الحدودي وداخل مناطقهم بالعراق وسوريا، ومنهم الشيخ أبو سعد الأنصاري الذي يعمل كوزير أوقاف مسؤول عن خطباء التنظيم.
كما أن جمهور «داعش» على شبكات الإنترنت كان مباركًا للعمل على الرغم من استنكار القيادات، وهو ما جعل الكثيرين يرون في نقد «داعش» لـ«القاعدة» بحثًا عن هيمنة وسلطة «المجموعات المتشددة» أكثر من كونه خلافًا على أسلوب العمل، وهو الأمر الذي تنتقده «القاعدة» وشيوخها من أبو قتادة الفلسطيني وحتى أبو محمد المقدسي، المفرج عنه أخيرًا في الأردن، والذي ساهم في عودة عدد كبير من القاعديين عن تأييد «داعش» لما يملكه من ثقل «شرعي» عند الحركات العنفية بشكل عام.
تاريخيًا، أول انشقاق لـ«داعش» كان في ٢٠١٣ بعد أن انشقت جبهة النصرة التابعة لـ«القاعدة» عن قيادات وتنظيمات العراق المؤسسة لـ«داعش» وحدثت معارك طويلة كانت بمعزل عن الإعلام استمرت حتى بدايات ٢٠١٤، ومن هنا يمكن فهم تحولات «داعش» على مستوى المظلة التنظيمية فمن جماعة «التوحيد والجهاد» (مرحلة ما قبل الزرقاوي) إلى تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين (مرحلة أبو مصعب) في ٢٠٠٤ والذي بايع أسامة بن لادن وتبعته مجموعات عراقية كثيرة إلى الحد الذي كان ٢٠٠٧ عام دخول «المتشددين» أفواجًا في أحضان «القاعدة»، وكان إعلان أبو عمر عبد الله البغدادي البيعة العامة لمجاهدي العراق بمن فيهم الزرقاوي لابن لادن قبل أن تأتي مرحلة أبو حمزة المهاجر أحد أهم العلامات الحركية والأسماء الفاعلة في التنظيمات المتشددة، والذي أعلن عن «مجلس بيعة جديد وحل مجلس شورى المجاهدين» بعد مقتل الزرقاوي، مستغلاً الفراغ الكبير الذي خلفه، وهنا ولدت فكرة تنظيم «دولة العراق الإسلامية» الذي أنشئ أولاً بغرض تحرير العراق، لكن البغدادي وأبو حمزة المهاجر كانا يريان في هذا التغيير تمهيدًا لدولة خلافة، لكن أبو عمر البغدادي بايع آنذاك بن لادن، وهو الأمر الذي يؤكد انهيار جزء كبير من سلطة «القاعدة» بعد رحيل رمزها، وهو الأمر الذي ما فتئت «داعش» تنخر من خلاله في جسد «القاعدة»، معتبرة أن الظواهري لا يعبّر عن تعاليم بن لادن ولا يصدر عنها، وكان أول انشقاق لأسباب جيوسياسية وليس حرب أفكار أو شرعية كما كان يروج للأتباع، فالظواهري يرفع مبدأ ترك أهل الثغور على حالهم، بلغة «غير جهادية» وانحصار «العمل الجهادي» في مناطق التوتر على السكان الأصليين والتفرغ للقيادة والتدريب والتوجيه، وهو ما ترجمه إلى أتباعه بمنحه الشرعية لجبهة النصرة واعتبار أي تنظيم آخر لا يعبر عن «القاعدة».
نظرة «القاعدة» كانت عالمية، حيث يتحول التنظيم إلى شركة عابرة للقارات تفتتح فروعها في كل بلدان العالم، لكن زوال أي منها لا يعني زوال جسد التنظيم، في حين أن «داعش» يسعى إلى إقامة مركز للمتطرفين على الأرض يستقطب الكوادر من كل بلدان العالم، وهو ما أثر بالطبع على تنظيمات القاعدة في بلاد المغرب وليبيا والمهجر وأوروبا، بينما حظي تنظيم القاعدة بجماهيريته التقليدية في القرن الأفريقي واليمن وباقي الدول العربية، وبقيت تنظيمات مستقلة على موقعها كما هو الحال في الحركة العنفية بسيناء وليبيا ومالي.
استطاع الداعشيون ضم مجموعات قتالية شرسة أسهمت في ترجيح كفته، حيث انضم إلى تنظيم جند الخليفة الجزائري وأنصار بيت المقدس في سيناء عدا نشوء مجموعات وخلايا جديدة في أوروبا بدأت مشوارها العنفي عبر «داعش»، وهو ما يفسر حجم الانشقاقات بين «القاعدة» و«داعش»، فالأولى خرجت منها مجموعات كثيرة بسبب تحول مشروع «داعش» إلى خلافة، بينما المنشقون عن «داعش» كانوا أقل لأن أغلب الكوادر تعيش تجربتها العنفية الأولى.
العدو القريب والبعيد مفتاح فهم استراتيجية «القاعدة» بات لغزًا فيما يخص «داعش» فهي تحارب العدو «الأقرب»، حيث أكبر ضحايا «داعش» هم من أتباع التنظيمات الأخرى، حيث شن التنظيم حربا وجودية قاسية ساهمت في بعثرة عناصر «القاعدة» وعودة الكثير منهم لبلدانهم الأصلية وانحسار شعبية التنظيم داخل أوساط الإسلاميين قبل أن تعود الشعبية بعد إعلان الخلافة مرة أخرى.
المستقبل لـ«داعش» على المستوى الداخلي غامض جدًا، فمن يتابع الجدل في منتديات المتطرفين يدرك ارتفاع حدة الخلاف بين المقاتلين الأجانب الذين يملكون مواقع متقدمة وسلطة مؤثرة ومفاصل التنظيم المالية، بينما السواد الأكبر للمقاتلين من الداخل الذين لا يرون أي هدف غير تحرير الأرض وإن كانوا يعيشون حلم الخلافة بدرجة أقل، وهناك الكثير من التقارير من الداخل تتحدث عن انحسار ضم مقاتلين جدد وهو الأمر الذي يفسر العودة إلى استقطاب عناصر جديدة من الخارج وعبر شبكات التواصل الاجتماعي.
التمييز بين «المهاجرين والأنصار» هو الاتهام الأول الذي يواجهه قادة «داعش»، فالمقاتلون الأجانب محظيون، بينما كوادر التنظيم الداخلية تعاني من اضطهاد، وعادة ما يتم اختيارها للعمليات الانتحارية أو المرابطة في المناطق النائية والبعيدة، بل وفي المناطق الأكثر تعرضًا لهجمات التحالف.
وهناك على المستوى المعيشي تحديات كبيرة الآن بعد تراجع مدخولات «داعش» مقارنة بمصروفاتها، يمكن أن تقرأ في منشورات «داعش» والأخبار والتقارير المتناقلة الشكوى من الظروف المعيشية والخلاف على الأموال والمناصب وحتى المرجعيات الشرعية، كما أن ثقة الأهالي في المناطق المسيطر عليها من قبل أتباع التنظيم تراجعت إلى حدها الأقل بعد تحول جرائم «داعش» إلى صرعة وموضة بشاعة عالمية تملأ الشاشات وأقنية الإعلام.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟