إشارات طهران توحي بأن رئيسي مرتاح للتصعيد مع الغرب

رغم أجواء المحاكمة الجارية في السويد

الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران
الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران
TT

إشارات طهران توحي بأن رئيسي مرتاح للتصعيد مع الغرب

الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران
الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران

عندما أُعلن فوز إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية الإيرانية يوم 19 يونيو (حزيران) الماضي، كان دبلوماسيون أوروبيون في العاصمة النمساوية فيينا يتهامسون سراً حول تأثير فوزه على مستقبل العلاقات مع الغرب. إذ إن الرجل موضوع على لائحة العقوبات الأميركية لدوره في إعدامات عام 1988 في إيران. ومع أن الاتحاد الأوروبي لم يصنفه بالشكل نفسه، فإن الدبلوماسيين هؤلاء كانوا يعرفون أن التعامل معه لن يكون سهلاً أو مقبولاً، على الأقل من الناحية الأخلاقية. غير أنهم، سرعان ما أدركوا بعد ذلك، بأنه سيكون عليهم التعامل معه ومع حكومته، على الرغم من إصرارهم آنذاك على الإحجام عن تهنئته بشكل مباشر له؛ نظراً لرفضهم الاعتراف بشرعية الانتخابات التي أوصلته إلى السلطة.
من ناحية أخرى، كانت المباحثات النووية مع الوفد الذي كانت أرسلته حكومة حسن روحاني إلى فيينا، قد انتهت بعد يوم على إعلان فوز رئيسي، أو قل دخلت في غيبوبة ما زالت مستمرة حتى اليوم بانتظار اتخاذ رئيسي قراراً باستئنافها. ومع استمرار هذه الغيبوبة، واستغلال إيران غياب مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية لبرنامج النووي للتقدم به، بدت الدول الغربية وكأنها قرّرت التغاضي عن تاريخ رئيسي الدموي، وبالتالي، مدّ يدها له. وفعلاً، بعث الاتحاد الأوروبي، الوسيط في المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن، بأنريكي مورا الذي يقود المفاوضات النووية، إلى طهران للمشاركة بحفل تنصيب الرئيس الجديد؛ عله يعود بوعود ثابتة لاستئناف المباحثات. ومع أن مورا عاد بوعد على ما يبدو باستئنافها في سبتمبر (أيلول) المقبل، فإن الصورة التي خرجت من حفل تنصيب روحاني قالت الكثير. فالمبعوث الأوروبي، وهو نائب مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد، كان يجلس في الصف الثاني وعلى الطرف. وأمامه، في وسط ومقدمة القاعة، جلس ممثلا حركة «حماس» و«حزب الله»، التنظيمان الموضوعان على لائحة الإرهاب الأوروبية («حزب الله» بذراعه العسكرية فقط). ولذا؛ تساءل عدد من المعلقين على الصورة، وما إذا كانت العلاقة بين الغرب وإيران في ظل حكم رئيسي ستكون شبيهة بتلك الصورة.
قد لا يكون من المبكر جداً الحكم على ما إذا كانت الدول الغربية ستسمح لإيران بالتحكم بشكل العلاقة أو وديناميكيتها بينهما. فحقيقة الأمر، أنه لم يمض على تنصيب إبراهيم رئيسي رئيساً جديداً لإيران بعد إلا أيام قليلة، ولكن، مع ذلك تشير تشكيلته الحكومية التي قدمها إلى البرلمان هذا الأسبوع للموافقة عليها، وبوضوح تام إلى الاتجاه المتشدد الذي يبدو أن إدارة رئيسي ستسير فيه.
حقاً، من الواضح بأن التشكيلة التي اختارها رئيسي لفريق عمله تحمل شيئاً من التحدي للغرب. ذلك أن نصف الوجوه في التشكيلة المقترحة وزراء سبق لهم أن خدموا في حكومة محمود أحمدي نجاد المتشددة. ومعلوم أن بين الوزراء المقترحة أسماؤهم، أحمد وحيدي الذي رشحه رئيسي لتولي منصب وزارة الداخلية مع أنه مطلوب على لائحة «الإنتربول» الحمراء لدوره في تفجيرات بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين عام 1994، ثم إنه كان رئيساً سابقاً لـ«فيلق القدس» في «الحرس الثوري». كذلك، اختار رئيسي لمنصب وزير الخارجية متشدداً آخر هو حسين أمير عبد اللهيان، الدبلوماسي المحافظ المدعوم من «الحرس الثوري»، والذي يتكلم العربية بطلاقة، وهو معروف بعلاقته الوثيقة من «حزب الله» اللبناني. وكان أمير عبد اللهيان قد خدم في وزارة الخارجية إبان فترة أحمد جواد ظريف... غير أنه ابتعد عن الوزارة في العامين الأخيرين إثر خلافات مع فريق ظريف.
- لا نية للتفاهم
بهنام بن طالبلو، الباحث في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» في العاصمة الأميركية واشنطن، يصف أمير عبد اللهيان في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» بأنه «أكثر تشدداً بكثير» من وزير الخارجية السابق طريف. ويرى بن طالبلو أن اختياره يشير إلى أن رئيسي «لا يشعر بالحاجة إلى إرضاء الغرب كما كان يفعل سلفه (الرئيس السابق حسن روحاني) عبر اختياره وزيراً للخارجية (ظريف) يتقن اللغة الإنجليزية ويستطيع التفاهم مع الغرب». ويعتقد ويرى الباحث الأميركي - الإيراني الأصل، أن اختيار أمير عبد اللهيان يثبّت الاعتقاد بأن إدارة رئيسي «مرتاحة مع فكرة التصعيد» مع الغرب بدرجة أكبر بكثير من إدارة روحاني.
على صعيد آخر، مع أن الرئيس في إيران ليس السلطة الأقوى في هرم السلطة، ولا يعود له القرار الأخير في القضايا الكبرى، فهو ما زال يحمل تأثيراً معيناً. وهنا يقول علي واعظ، الباحث في «مجموعة الأزمات الدولية» - وهو مقرّب من الدكتور روبرت مالي، المبعوث الأميركي إلى إيران، الذي يقود المفاوضات النووية في فيينا - شارحاً «... رغم ذلك، فإن الرئيس ووزراءه يلعبون دوراً كبيراً في إدارة المفاوضات وتمثيل إيران على الساحة الدولية». ويضيف فايز خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» بأن وصول «رئيسي المتشدد إلى الحكم يدعو للقلق» فيما يتعلق باتجاه السياسة الداخلية والخارجية لإيران. ويرى فائز «أن ماضي رئيسي وخطابه إبان الحملة الانتخابية وبعدها، ومن ثم تسلم المتشددين مقاليد السلطة في إيران، قد تكون كلها إشارات إلى مقاربة أكثر آيديولوجية وأقل براغماتية خاصة تجاه الغرب».
- ماضي رئيسي
وبالفعل، لا يظهر أن ماضي إبراهيم رئيسي ليس في وارد مفارقته. فهذا الماضي يطارده الآن في المحاكم الأوروبية، حيث افتتحت محكمة سويدية في استوكهولم مطلع الأسبوع محاكمة ضد مسؤول إيراني يدعى حميد نوري، كان قاضياً عندما ألقي القبض عليه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. وهو يحاكم اليوم بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، والتورّط بعمليات قتل جماعي، وتعذيب سجناء في إيران عام 1988. وترتبط هذه القضية بشكل مباشر بإبراهيم رئيسي الذي عرضت حتى صورته داخل قاعة المحكمة أمام قضاة سويديين، وعرّف عنه الادعاء الذي عرض صورته بأنه كان خلال عام 1988 أحد القضاة الأربعة في «لجنة الموت». وكانت هذه «اللجنة» - حسب تعريف الادعاء - قد أصدرت آنذاك «أوامر تعسفية بقتل مئات السجناء السياسيين من دون محاكمات وخلال بضع دقائق». ووفق كلام المدعي العام، فإن المتهم حميد نوري - الذي عمل آنذاك مساعد آمر سجن غوهرداشت، في ضواحي طهران - كان يصطحب السجناء إلى «لجنة الموت» ثم يقودهم إلى المشانق.
وعلى الرغم من أن رئيسي ليس هو من يخضع للمحاكمة، فإن توريط الادعاء السويدي إياه بجرائم القتل الجماعية تلك قد يكون له تأثير كبير على رئاسته. ولكن حول هذه النقطة يلفت علي واعظ إلى أن رئيسي «يتمتع بالحصانة الدبلوماسية؛ كونه رئيس دولة»، وهذا ما قد يمنع محاسبته في محاكم غربية تعتمد مبدأ الولاية القضائية العالمية، التي تسمح لها بمقاضاة أي شخص متورّط بجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في أي مكان بالعالم. غير أن فائز يعتقد بأن هذه الحصانة لن توقف عنه تأثيرات أخرى. ويشير إلى أن دوره في الإعدامات الجماعية التي نفّذت عام 1988 (يعتقد أنها أدت إلى قتل قرابة 5 آلاف سجين سياسي) «ستزيد بشكل كبير بالنسبة للحكومات الغربية التكلفة السياسية للانخراط الدبلوماسي مع حكومته».
من جهتها، تصف سنام وكيل، الباحثة في معهد تشاتام هاوس بالعاصمة البريطانية لندن، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، محاكمة السويد وما قد يخرج منها عن دور رئيسي بأنها «شديدة الإحراج بالنسبة إليه». وتضيف «ستكشف الرئيس الإيراني بطريقة خطرة للغاية، وهذا ما سيحد من قدرته على التعامل بشكل مباشر مع الدول الأوروبية». وتستطرد قائلة إنها «لا تتوقع» من رئيسي السفر إلى أوروبا أو أماكن معينة من العالم؛ تفادياً لأي إحراج أو حتى تفادياً لخطر القبض عليه. والجدير بالذكر، أن الشرطة السويدية كانت قد ألقت القبض على نوري عندما جاء إلى السويد عبر مطار ستوكهولم - أرلاندا الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، من دون أن يكون على علم بأن ثمة قضية مرفوعة ضده، وبأنه مطلوب في السويد. ولذا؛ فور خروجه من الطائرة أوقف وأدخل السجن، حيث يقبع منذ ذلك الحين.
ولكن التفاوض مستمر!
مع هذا، فإن أوروبا ما زالت حريصة على استقبال الوفد الإيراني المفاوض الذي لم يحدّده رئيسي بعد، لاستكمال المفاوضات النووية مع واشنطن في فيينا بهدف إعادة العمل بالاتفاق النووي كاملاً. ومعلوم، أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كانت قد أخرجت الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018.
وعلى ما يبدو، فإن الرئيس الإيراني أبلغ الاتحاد الأوروبي بأنه سيرسل الوفد في سبتمبر المقبل بعد تسميته لاستئناف المفاوضات غير المباشرة مع واشنطن. لكن عودة الوفد الإيراني المفاوض إلى فيينا، وهو سيكون وفداً جديداً من دون شك، لا تعني بالضرورة إكمال التفاوض بهدف التوصل لاتفاق. وهنا يقول فائز «مع وصول المتشددين إلى السلطة، فإن مناورة شفير الهاوية قد تحصد تأييداً في طهران كطريقة لسحب المزيد من التنازلات من واشنطن». ويتابع «غير أن هذا التقدير خاطئ للغاية»، ويمكن أن يؤدي إلى إعادة فرض كامل العقوبات على إيران. ويستبعد الباحث الأميركي - الإيراني أن يؤدي التشدد الإيراني إلى ليونة أميركية أكبر في المفاوضات، ويقول إن أي ليونة أميركية «سيُنظر إليها في طهران على أنها دليل بأن مقاربتهم الأكثر تشدداً تجبر الولايات المتحدة للتراجع، وتشجع بالتالي على المزيد من التعنت الإيراني».
مع هذا، أظهرت الولايات المتحدة حتى الآن ليونة غير قليلة في محاولاتها إقناع إيران بالعودة لالتزاماتها النووية. ويرى بن طالبلو أن «واشنطن حريصة على تقديم تنازلات لإيران... وهذا كان ظاهراً في الأشهر الماضية من خلال رفع الحوثيين عن لائحة الإرهاب مثلاً»، وتطرق أيضاً إلى الخطوات التي اتخذتها أو لم تتخذها واشنطن، مثل تفادي الرد على استفزاز واستهداف قواتها في العراق من قبل ميليشيات عراقية مدعومة من إيران، والامتناع عن الرد على اعتداء إيران على سفن في البحر الأحمر.
وبالتالي، يعتبر بن طالبلو أن السؤال المطروح الآن هو إلى أي مدى ستواصل إدارة بايدن منح إيران الفرصة تلو الفرصة والتغاضي عن التصعيد؟ وحول هذا الأمر يقول «الخطيئة الأولى لإدارة (الرئيس جو) بايدن أنها قبلت بأن تأتي المفاوضات للعودة للاتفاق النووي في المقام الأول، وكل شيء آخر يحل ثانياً». ويتابع، أن «هذا المبدأ يجعل من الصعب على الإدارة الأميركية الحالية أن تتراجع عن سياسة اليد إلى إيران لأنها بنت خطابها حول إيران حول انعدام جدوى سياسة الضغوط القصوى التي اعتمدتها إدارة ترمب».
- اجتماع فيينا المقبل
قد يكون الاجتماع المقبل لمجلس المحافظين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الاختبار الأول لـ«مدى طول صبر» إدارة بايدن مع إيران. فالاجتماع الدوري الذي سيعقد في منتصف سبتمبر المقبل في مقر الوكالة بفيينا، سيناقش الالتزامات الإيرانية النووية وخروق طهران المتزايدة لها، وتخصيبها اليورانيوم لدرجة تصل إلى 60 في المائة، علماً بأن الاتفاق النووي لا يسمح لها بالتخصيب بمستوى أعلى من 3.75 في المائة. ويزيد من كل ذلك، أن مفتشي الوكالة لم يعد لهم وصول كبير إلى المواقع النووية منذ فبراير (شباط) الماضي، كما لم تسلّم إيران أشرطة الفيديو من كاميرات المراقبة التي نصبتها الوكالة في المواقع النووية أيضا منذ ذلك الحين.
قبل أكثر من شهر، قال أمين عام الوكالة رافائيل غروسي بأنه ما عاد بإمكان الوكالة أن تعرف بالضبط ما الذي يحصل في برنامج إيران النووي، وأنها تعمل على التقديرات فقط من خلال الوصول المحدود المسموح لها الآن. وفي الاجتماع الأخير لمجلس المحافظين في يونيو الماضي، تفادى المجلس إصدار أي إدانة لإيران لأن الجولة السادسة كانت منعقدة آنذاك في فيينا.
بناءً عليه؛ يصف بن طالبلو اجتماع المجلس المقبل بأنه «سيكون حاسماً؛ لأن الجميع كان يظن أن تخصيب إيران اليورانيوم بمستوى 20 في المائة كان هو الحد الأقصى، ولكن إيران الآن وصلت لتخصيب اليورانيوم بمستوى 60 في المائة ولم يصدر أي رد فعل». وعندما أعلنت حكومة روحاني رفع التخصيب لهذا المستوى المرتفع في يونيو الماضي، اكتفت الدول الأوروبية بإصدار بيان يدعوها فيه للتراجع رغم إشارتها المهمة بأنه «ليس هناك سبب سلمي وجيه» يدعو لتخصيب اليورانيوم بهذا المستوى. وهنا يعتقد بن طالبلو، أن على الدول الأوروبية والولايات المتحدة اعتماد «سياسة الضغط المشتركة» لحث إيران على التراجع عن تصعيدها النووي.
هذه الضغوط الابتزازية المتزايدة من قِبل إيران على الدول الغربية، قد تؤدي إلى اقتناع الطرفين الأميركي والأوروبي بضرورة العودة لسياسة الضغوط القصوى على إيران. وحسب الباحث علي واعظ «في حال لم يعد العمل بالاتفاق النووي في نهاية العام الحالي، فإنه سيصبح عديم الفائدة على الأرجح... ويؤدي إلى عودة العقوبات الأممية والأوروبية على إيران؛ لأن خبراء أميركيين يقدرون أن نقطة اللاعودة عن التقدم في البرنامج النووي الإيراني باتت على بعد أسابيع أو أشهر قليلة».
- شهر مقبل حاسم بين إيران والقوى الغربية
> خلال الأشهر الماضية اكتسبت إيران من دون شك تكنولوجيا نووية يصعب عكسها، وهي نقطة كانت تقلق المفاوضين الأوروبيين والأميركيين في فيينا.
لقد نجحت إيران في تحقيق هذا التقدم بعدما أعلنت في فبراير (شباط) الماضي وقف التعاون بالبروتوكول الإضافي للاتفاق النووي؛ وهو ما كان يكفل للمفتشين الدوليين وصولاً واسعاً وغير محدد إلى المواقع النووية الإيرانية. وحينذاك، أوقفت طهران أيضاً تسليم الوكالة الدولية أشرطة الفيديو من المواقع النووية، وقالت إنها ستسلمها إياها فقط في حال حصل اتفاق سياسي مع واشنطن لرفع العقوبات عنها، وإلا فستتلف الأشرطة؛ ما يعني بأن الوكالة الذرية ستبقى في الظلمة حول تقدم برنامج إيران النووي. ثم زاد الوضع تعقيداً رفض إيران في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، تمديد اتفاق مؤقت كانت توصلت إليه مع رافائيل غروسي (أمين عام الوكالة) إثر تعليقها العمل بالبروتوكول الإضافي، بعدما مددته مرة واحدة. وحتى الآن من غير المعروف ما إذا كانت إيران قد أطفأت كاميرات المراقبة الخاصة بالوكالة وأتلفت أشرطة الفيديو التي تسجل النشاطات داخل المفاعل النووية منذ قرابة سبعة أشهر، أم أنها ما زالت تبقي عليها بانتظار التوصل لاتفاق.
هذا التصعيد الإيراني في مواجهة الغرب قد يكون اقترب من «الانفجار». فالشهر المقبل سيكون حاسماً في تحديد العلاقة بين الطرفين، سواءً كان في المفاوضات النووية التي يعتقد مسؤولون أميركيون بأن التوصل لاتفاق فيها بات أبعد، أو في اجتماع مجلس المحافظين التابع للوكالة الذي قد يشهد تبنيه قراراً يدين تصرفات إيران النووية ورفضها التعاون مع الوكالة. وبغض النظر عن أي طريق ستختارها إدارة إبراهيم رئيسي في التعاطي مع الغرب، فإن العلاقة بين الطرفين ستكون «وعرة» بأقل تقدير – حسب تعبير الخبير بهنام بن طالبلو - الذي يرى أن لدى رئيسي «كل الحوافز للتصعيد مع الغرب بهدف تقوية موقفه». ويضيف، أن إيران «ستصل إلى نقطة ترى فيها أن سلطة الولايات المتحدة بدأت تتضاءل» في حال استمرت بتقديم تنازلات لها، وفي حال رفض الغربيون الالتزام عملياً بتعهدهم بمحاسبة إيران فيما يتعلق بحقوق الإنسان، خاصة، في ظل المحاكمة الجارية في السويد.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.