رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية: الرقابة ضرورة في زمن ثورة الاتصالات

خالد المالك أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الصحافة عمل استثماري ومنتج ربحي لا يشترط أن ينطق باسم الدولة ومؤسساتها

خالد بن حمد المالك رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية
خالد بن حمد المالك رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية
TT

رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية: الرقابة ضرورة في زمن ثورة الاتصالات

خالد بن حمد المالك رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية
خالد بن حمد المالك رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية

يعد خالد بن حمد المالك رئيس تحرير صحيفة «الجزيرة» السعودية، من قدامى رؤساء التحرير في بلاده، حيث بدأ عمله رئيسا للتحرير منذ 45 عاما، وارتبط اسمه بنجاح صحيفته وعصرها الذهبي خلال مرحلتي رئاسته لتحريرها، حيث ترك كرسي رئاسة تحرير الجريدة مجبرا لمدة 14 عاما، ليعود إليها مجددا قبل 15 عاما، ويقود الجريدة إلى آفاق من النجاح والمنافسة القوية محليا، وتمكن المالك مع كوكبة من العاملين في مؤسسة «الجزيرة» الصحافية التي تصدر عنها الجريدة في إدارة الصحيفة بمواصفات مؤسساتية حقيقية جعلت الصحيفة تحقق السبق والتميز، بامتلاكها أقدم موقع إلكتروني، وأرشيف إلكتروني، يغطي الجريدة من أول صدورها قبل نصف قرن إلى اليوم، إضافة إلى امتلاكها باقات ومنتجات تقنية متعددة، وتسجيلها أنها أول من امتلك مقرا ومطبعة بين المؤسسات الصحافية المحلية، وتخريجها كوادر صحافية أصبح البعض منهم فيما بعد رؤساء تحرير، وآخرين تبوأوا مناصب قيادية في صحف أخرى داخل السعودية وخارجها.
«الشرق الأوسط» حاورت خالد المالك وخرجت بهذه الحصيلة من المعلومات.

* ماذا بقي في ذاكرتك عن صحافة الأفراد، وهل المقارنة بين صحافة الأفراد وصحافة المؤسسات عادلة بتفضيل الأولى على الثانية من ناحية الجرأة والمحتوى؟
- صحافة الأفراد لا يمكن أن تغيب عن الذهن، فهي بروادها ورموزها ومؤسسيها، وبالدور الطليعي الذي قامت به وتصدت له، إنما هي جزء من تاريخنا الثقافي والاجتماعي والسياسي والصحافي، مثلما كانت هي الصوت والمنبر ولسان حال شعب المملكة منذ بدء توحيدها على يد الملك عبد العزيز وإلى أن تم إيقافها بعد صدور نظام المؤسسات الصحافية.
ومقارنتها بصحافة المؤسسات مقارنة غير عادلة في كل شيء، إذ إنها تميل لصالح صحافة اليوم من حيث الإمكانات البشرية والفنية والمالية، بما في ذلك المحتوى، وما يتصل بالتقنية وثورة الاتصالات التي استفادت منها المؤسسات الصحافية، فقد كان ما يُسمى بصحافة الأفراد فقيرة في مواردها المالية، محدودة الإمكانات فنيا، ضعيفة تسويقيا، هي إلى الصحافة الأدبية المتخصصة أقرب منها إلى مفهوم الصحافة الحديثة، ومع هذا يسجل لأصحابها اقتحامهم لهذا الميدان مبكرا، وتفانيهم في إصدارها بقوالب مهنية تستجيب لتلك المرحلة من التاريخ، وتعبر عن ذائقة فنية وصحافية تلبي بها رغبات قرائها، حيث الأشعار والمقالات الأدبية والاهتمام بالثقافة، مع مساحة مقبولة من الحرية بما كانت تنشره من مقالات لكبار كتابها، لكنها لا تُقارن بالتأكيد بصحافة اليوم من حيث الإمكانات الكبيرة التي تخدم عملها وتساعد على تنوع ما يُنشر فيها، مع تمتعها هي الأخرى بمساحة معقولة من الجرأة في بعض ما يُنشر فيها.
* العاصمة السعودية يوجد بها جريدتان محليتان تتنافسان منذ عقود، هما «الجزيرة» و«الرياض»، فهل تحتاج المدينة التي تحتضن أكثر من 6 ملايين نسمة إلى أكثر من هاتين الجريدتين؟
- ربما كان هذا ضرورة حين صدرت هاتان الصحيفتان قبل نصف قرن، أما الآن فلا أعتقد، فالصحافة الورقية في العالم تعاني من مزاحمة ما يُسمى بالإعلام الجديد، وهناك صحف بالمملكة تأثرت كثيرا من منافسة الصحف الإلكترونية لها، ولا يزال الغموض يحيط بمستقبل الصحافة الورقية، ولهذا فإنَّ المجازفة بإصدار صحف ورقية جديدة سوف يكون هدرا للمال، دون أن يكتب لأي صحيفة ورقية جديدة النجاح، بدليل ما تعانيه الصحف التي صدرت أخيرا من شح في الإعلانات وفي الموارد المالية الأخرى، مع أنها تقدم عملا صحافيا جيدا، بل إن بعض الصحف القديمة بدأت هي الأخرى في التراجع إعلانيا، وتقلصت أرباحها عن ذي قبل، مما يعني أن الحاجة لم تعد قائمة لإصدار صحف ورقية جديدة.
* هناك عهدان لك مع رئاسة تحرير جريدة «الجزيرة» (العهد المالكي الأول، والعهد المالكي الثاني)، أيهما تراه عصرك وعصر «الجزيرة» الذهبي؟
- يفترض أن يوجه هذا السؤال لغيري، لكني لا أجد حرجا في الإجابة عليه، فـ«الجزيرة» في فترتي الأولى كما هي في الفترة الثانية بقيت دائما في الصف الأول من حيث المستوى والانتشار والأرباح وحجم الجهاز الصحافي والتأثير في المجتمع، وما كان هذا ليتحقق لولا دعم مجلس إدارة المؤسسة ومساعدة المدير العام وتعاون الزملاء من قيادات صحافية وإدارية وزملاء صحافيين وفنيين كثر بالمؤسسة.
* هل ما زلت مسكونا بهاجس إقالتك من كرسي رئاسة تحرير صحيفة «الجزيرة» قبل سنوات في حدث معروف للجميع، وهل ما زال الظرف الذي تسبب في هذه الإقالة ملازما لك ومؤثرا على عطائك وفضاء التحرك والرقيب في داخلك؟
- لم يبق من تلك الإقالة إلا الدروس التي تعلمتها والذكريات التي لن أنساها، وما عدا ذلك فأنا أمارس عملي وأتعامل معه كما كنت أفعل من قبل، أجتهد في أخذ القرار المناسب وبالشجاعة ذاتها والثقة والإيمان التي كنت وما زلت أحتمي بها في أسلوب عملي، بمعنى أن غيابي عن صحيفة «الجزيرة» أكثر من 14 عاما ثم عودتي لها منذ 15 عاما لم يغير من عطائي، ولا أشعر بما سميته في سؤالك تحرك الرقيب في داخلي إلا بمقدار ما يخدم صحيفة «الجزيرة» ويرضي ضميري وخدمة وطني.
* هل أنت راضٍ عن الأرقام التي تعلنونها يوميا عن إجمالي المطبوعات لأعداد الجريدة وصافي المبيعات والاشتراكات والنسخ المرتجعة؟
- أنا راضٍ كل الرضا عنها، فهي أرقام موثقة وتعلنها شركة محايدة وهي الشركة الوطنية للتوزيع التي تملكها المؤسسات الصحافية، لأنها تظهر مصداقية «الجزيرة» وشفافيتها بإعلان أرقام توزيعها يوميا دون بقية الصحف ولأول مرة في المملكة حيث يبلغ ما يطبع منها أكثر من 150 ألف نسخة يوميا، لكني أتطلع مع هذا الرقم الكبير أن نتمكن في المستقبل القريب من زيادة حجم المطبوع من الصحيفة لتلبية الطلب عليها.
* خضتم قبل سنوات معارك مع جارتكم «الرياض» وحصلت مناكفة بينكم وبين رئيس تحريرها تركي السديري حول حضور الجريدتين في البلاد وترتيبهما في الانتشار، وهي معارك غير معهودة من قبل، هل ترى أن هناك وجاهة لقيام مثل هذه المعارك؟
- السوق تتسع لـ«الجزيرة» و«الرياض» ولباقي الصحف السعودية والوافدة، فهناك قارئ وهناك معلن وهناك كاتب وكل من هؤلاء يختار صحيفته المفضَّلة، ولا قيمة أو تأثير لأي معارك من هذا النوع تقوم بين المسؤولين في الصحف في تغيير مسار وجهات نظر هؤلاء، لكن الإنسان يكون أحيانا في موقع الدفاع عن صحيفته حين يأتي من يجادل أو يسيء إليها فيخوض مضطرا معارك لا يؤمن بها، وبالتالي فأنا أنصح الصحافيين الشباب باعتبار أي معارك كتلك التي أشرت إليها في سؤالك إنما هي توجه لا يخدم العمل الصحافي ولا يضيف له أي قيمة يعتد بها، فالتعايش والتعاون وترك الحكم للقارئ في مستوى واختيار أي صحيفة هو الأسلوب الأمثل للمنافسة الشريفة.
* هيئة الصحافيين التي كنت نائبا لرئيس مجلس إدارتها لدورتين، هناك إجماع بأنها ولدت ميتة، وهذا الرأي لم يأت من فراغ.. أين يكمن الخلل في الهيئة وكيف لمست أداءها؟
- هذا كلام صحيح وواقعي، وأنا شريك في المسؤولية عن هذا الانطباع خلال مرحلة التأسيس وفي الدورتين اللتين كنت فيهما نائبا لرئيس مجلس الإدارة، ولهذا لا أملك إلا الاعتذار للزملاء لأننا لم نحقق شيئا يستجيب لتطلعاتهم، وبنظري فإنَّ الخلل يكمن في عدم تفرغ القائمين على الهيئة، وبالتالي ضعف الاهتمام بها، مع أن تنشيطها لا يتطلب إلا جزءا من أوقات أعضاء مجلس الإدارة، لو صاحبه حماس وسماع لوجهات نظر الصحافيين، كما أنني لا أعفي أعضاء الجمعية العمومية من المسؤولية، فالزملاء لم يقدّموا مقترحات تساعد المجلس على تبني الجيد منها.
* كرئيس تحرير لصحيفة ورقية، هل تراهن على صمود مثل هذا النوع من الصحافة أمام الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي؟
- لا أحد يراهن على المستقبل، فهذا في علم الغيب، ولكن في ظل المعطيات يمكن القول إن الصحافة الورقية ستبقى صامدة ما بقيت مساحات الإعلان فيها كما هي الآن، مستمرة طالما ظلت الصحافة الإلكترونية فقيرة إعلانيا، أراهن على استمرار الصحافة الورقية إذا ما استمرت الصحافة غير الورقية تعتمد على الاجتهادات والعمل الفردي غير المؤسساتي، وكذلك إذا ما استمر محتواها ضعيفا مقابل المحتوى الجيد في الصحافة الورقية، ومع هذا فإنَّ فرصة التعايش بينهما يمكن أن تستمر لسنوات قادمة وإلى أن يتغيّر الحال عمَّا هو عليه الآن.
* لماذا أغلب رؤساء التحرير لدينا في السعودية يعمرون في هذه المناصب؟
- إذا ما استثنينا 3 من رؤساء التحرير في 3 صحف، فإنَّ التدوير بين رؤساء التحرير في بقية الصحف هو السائد، بل وللحقيقة فإنَّ الصحف التي أمضى رؤساء تحريرها سنوات طويلة هي الصحف الأكثر نجاحا في الانتشار والإعلان وحجم الأرباح، وهي بميزانياتها الضخمة وعدد الصحافيين الكثر فيها هو ما جعلها تتمتع بهذا الوضع الصحافي المتميز ويبقى رؤساء تحريرها على رأس العمل كل هذا المدة الطويلة، ويجب ألا يغيب عن الأذهان أن المؤسسات الصحافية مؤسسات أهلية غير حكومية وإبقاء رؤساء التحرير أو الاستغناء عنهم تحكمه أسباب وقناعات تملك مجالس الإدارة والجمعيات العمومية بالمؤسسات الصحافية بناء عليها الإبقاء عليهم أو التفاهم على الاستغناء عنهم، ولو لم يكن أداء القدماء من رؤساء التحرير مرضيا ومنتجا لما بقوا كل هذه المدة الطويلة التي أشرت إليها في سؤالك.
* الدول المتقدمة لا يوجد بها حقيبة وزارية للإعلام، فهل تؤيد بقاء وزارات الإعلام في الدول العربية ودول العالم الثالث، أم ترى أن هناك ضرورة لإلغائها؟
- حتى الآن لا أجد أمامي مبررات مقنعة لإلغائها، وربما كان بقاؤها أفضل من إلغائها، على أن يواكب استمرارها تفعيل دورها في تطوير وسائل الإعلام وخدمة الإعلاميين، ضمن مواكبة وتفاعل ومتابعة للمستجدات والمتغيرات في مجال الإعلام، مع ملاحظة أن التشكيل الوزاري وعدد الحقائب الوزارية وتخصصاتها تختلف من دولة لأخرى ولا يقتصر ذلك على وزارات الإعلام فقط.
* أيهما أصعب عليك كرئيس تحرير (الرقابة الذاتية) أم الرقابة (الرسمية)، وهل يحتاج الواقع اليوم أمام ثورة الاتصالات والمعلومات المتوافرة بسهولة إلى رقابة؟
- لم أجرِّب الرقابة الرسمية بتفاصيلها ومتطلباتها منذ بدء عملي رئيسا للتحرير قبل 45 عاما، وبالتالي لا أملك ما أجيب به عن سؤالك، لكني أستطيع القول إن الرقابة الذاتية التي مارست فيها دور الرقيب كرئيس للتحرير كانت ولا تزال تعتمد على الخبرة والشعور بالمسؤولية، والبعد عن كل ما يشوه رسالة الصحيفة باجتهادات تصيب أحيانا وتخطئ أحيانا أخرى، وأعتقد أنه مع ثورة الاتصالات تكون وسائل الإعلام وبينها الصحف أكثر حاجة إلى مراجعة وتدقيق ما ينشر فيها، والتأكد من أنها تلتزم بأخلاقيات المهنة والسمو بالكلمة، حتى تحتفظ الصحيفة باحترام القراء لها وتحافظ على مصداقيتها، ومن دون أن تتخلى عن دورها ومسؤولياتها التي صدرت الصحيفة من أجلها.
* دخلت عالم التأليف وأنت رئيس تحرير في عهدك الثاني أيهما أصعب عالم التأليف أم رئاسة التحرير، وهل ثمة عامل مشترك يجمع بينهما؟
- التأليف كما العمل الصحافي مسارهما واحد، الفرق بينهما أن رئاسة التحرير تجعلك مسؤولا عن كل ما ينشر في الصحيفة لغيرك، في حين أن الكتاب هو بقلمك وجهدك الشخصي دون مشاركة فيه من آخرين، ولكل منهما خاصيته في الجهد والعمل، وكلاهما يمكن أن يوصف بالصعب إذا ما أراد رئيس التحرير (المؤلف) أن يرضي ضميره ويقدّم عملا يقتنع به ويقنع به غيره، والعامل المشترك بين أن تكون رئيسا للتحرير أو مؤلفا أو تجمع بينهما أنك تتعامل مع ثقافة وفكر وصحافة وتقدّم نفسك لقرائك بما يتحدث به كتابك أو صحيفتك.
* هل يُفترض أن تكون الصحافة في بلادنا ناطقة باسم الدولة ومؤسساتها، ومعبرة عن آلام وآمال مواطنيها، أم أنها منتج إعلامي ربحي؟
- لا يُفترض بالصحافة غير الحكومية، كالصحف السعودية، أن تكون ناطقة باسم الدولة ومؤسساتها، وهي كذلك بالنسبة للمملكة؛ إذ إن الناطق باسمها هي وسائل إعلامها الحكومية. أما أنها معبرة عن آلام وآمال المواطنين فهذا جزءٌ من رسالتها؛ وينبغي أن تقوم بذلك. وهذا لا يلغي أن الصحافة غير الحكومية عمل استثماري ومنتج إعلامي ربحي، كشأن كل استثمار في الإعلام في جميع دول العالم، كما لا يمنع أن تكون الصحافة غير الحكومية داعما ومساندا لتوجهات الدولة، بما يعزز أمنها واستقرارها وتقدمها.
* تميزت مؤسسة «الجزيرة» الصحافية بتبنيها كراسي بحثية في الجامعات.. ما الجدوى من هذه الكراسي وانعكاساتها على الطرفَيْن؟
- جاءت مشاركة «الجزيرة» بالكراسي البحثية في الجامعات السعودية دعما وتشجيعا منها لهذا التوجُّه الجميل من الجامعات، مع ما يكلفه ذلك من مال كثير، يُصرف من أرباح مؤسسة «الجزيرة» السنوية. وفائدة «الجزيرة» من الكراسي البحثية في الجامعات وجودها وحضورها بين القراء (النخبة) في الجامعات وبين طلابها وكوادرها حصريا. وفائدتها للجامعات أنها تستفيد من وسيلة إعلامية قوية وناجحة ومنتشرة في تبني بعض الأفكار والفعاليات الثقافية والعلمية، بما في ذلك إصدار الكتب، وإقامة ورش العمل، وتنظيم الندوات والمحاضرات، بحسب تخصص كل كرسي في كل جامعة. وهذه الشراكة تمكِّن صحيفة «الجزيرة» كما أشرت من اختيار النخبة ليكونوا من بين قرائها، وتمكِّن الجامعات من إيصال رسالتها عبر صحيفة «الجزيرة»، والاستفادة من الدعم الذي تقدمه الصحيفة لخدمة توجُّه الكراسي ضمن تخصصها. ويدخل ضمن هذا تبادل وجهات النظر بين الجامعات وصحيفة «الجزيرة»، وتبني بعض الأفكار، والعمل على تسويقها وإنجاحها.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.