«الإسلام في القرن الحادي والعشرين»: ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية

ريتا فرح
ريتا فرح
TT

«الإسلام في القرن الحادي والعشرين»: ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية

ريتا فرح
ريتا فرح

ريتا فرج واعية كل الوعي بخطورة الموضوع. ولذلك فهي تقدم لنا صورة متكاملة عن النضال البطولي للنساء منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم
تواصل هذه المجلة الجديدة صعودها القوي في الساحة الباريسية والعربية أيضاً. كنا نتوقع أنها سوف تتعب، سوف تلهث، كما يحصل لمجلات عديدة، ولكن خاب توقعنا لحسن الحظ. فالعدد الثالث الصادر قبل أيام بدا لي مكثفاً، غزيراً، مليئاً بالأفكار الجديدة والإضاءات العديدة. تفتتح العدد الباحثة اللبنانية المعروفة ريتا فرج. وهي من خيرة العقول العربية حالياً، ليس فقط على مستوى النساء وإنما على مستوى الرجال أيضاً. أعتقد أن عدد المثقفين أو المثقفات اللواتي يرتفعن إلى مستواها ليس كبيراً جداً. فهي تمتاز بصرامة المنهج ودقة المصطلح وتقدمية الفكر أو استنارته. بمعنى أنها ليست تقدمية سطحية على طريقة الشعارات والكلام السهل الفارغ، وإنما بناءً على معرفة حقيقية بإشكاليات التراث والحداثة على حد سواء. عنوان البحث المطول الذي أتحفت به المجلة هو التالي: الإسلام النسوي وتحدي النظام البطريركي في الفقه التشريعي الإسلامي. لكن قبل أن نشرح هذا العنوان الصعب الذي قد يبدو غامضاً وعراً، قبل أن ندخل في صلب الموضوع، دعونا نقول كلمة مختصرة عن كاتبة البحث ريتا فرج. إنها باحثة لبنانية في علم الاجتماع وعضوة في هيئة التحرير المشرفة على مركز «المسبار» للدراسات والبحوث في دبي. وهو يمثل بؤرة تنويرية رائعة في قلب الإمارات العربية المتحدة، وفي نيويورك العرب! نضيف بأن الباحثة ريتا فرج حائزة شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية عام 2008 تحت إشراف المفكر الإسلامي الدكتور رضوان السيد. وكانت أطروحتها تحمل العنوان التالي الشديد الأهمية: «العنف في الإسلام المعاصر: معطى بنيوي أم نتاج ظرفي؟» هذا هو موضوع الساعة، ومن يجب على هذا السؤال يقدم أكبر خدمة للثقافة العربية المعاصرة. وأخشى ما أخشاه أن يكون الجواب متضمناً في الشق الأول من السؤال. ومن أهم كتبها اللاحقة نذكر: امرأة الفقهاء وامرأة الحداثة: خطاب اللامساواة في المدونة الفقهية. كما وساهمت ريتا فرج في إصدار كتاب جماعي عن تدريس الفلسفة في العالم العربي. صدر برعاية اليونيسكو.
الأطروحة الأساسية لهذا البحث الصعب والمكثف تتلخص في بضع كلمات: النظام البطريركي أو الأبوي هو الذي يهيمن على تاريخنا، بل وعلى تاريخ أوروبا حتى الثورة الفرنسية التي ألغته وأطاحت به. بعدئذ أخذت أوروبا تتحرر منه تدريجياً إلى درجة أنها قضت عليه نهائياً ولم يعد هناك نظام بطريركي متخلف في فرنسا أو عموم أوروبا. أما عندنا فلا يزال سائداً حتى الآن إلى حد كبير، وبخاصة في الأوساط التقليدية. والنظام البطريركي أو الأبوي هو نظام ذكوري يتحكم فيه الرجال بالنساء والأطفال. إنه نظام يعطي للرجال امتيازات عديدة في المجالات كافة، من سياسية وأخلاقية وقانونية. إنه نظام اجتماعي للرجال السلطة فيه على النساء. وأكبر مثال عليه شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة. إنه يمثل الأب البطريرك بكل أبعاده. والآن نطرح هذا السؤال: كيف يمكن للنساء العربيات أو المسلمات أن يتخلصن من هيمنة هذا النظام البطريركي المهيمن على مجتمعاتنا على مدار ألف سنة متواصلة أو يزيد؟ العملية ليست سهلة على الإطلاق، وريتا فرج واعية كل الوعي بخطورة الموضوع. ولذلك فهي تقدم لنا صورة متكاملة عن النضال البطولي للنساء منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. من أهم سيداتنا النهضويات العظيمات تذكر: عائشة تيمور، وزينب فواز، وملك حفني ناصف، وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وهدى شعراوي، ونظيرة زين الدين. وتقول لنا ريتا فرج بأن هذه الأخيرة تجرأت إلى حد المطالبة بحق المرأة في الاجتهاد الديني! وهذا شيء غير مسبوق. نقول ذلك وبخاصة أن المجتمع الأبوي البطريركي كان يقصي المرأة كلياً من هذا المجال. ما علاقة المرأة بالدين؟ والعياذ بالله! ألم يكن هذا النظام المتغطرس يعتبرها ناقصة عقلاً وديناً؟ وفي عصور الظلام أما كانوا يتساءلون: هل فيها روح يا ترى؟ إلخ. قصة طويلة إذن. ولكن التقدم الذي حققته المرأة العربية أو المسلمة كان كبيراً ورائعاً، وبخاصة في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة. بالطبع، لا تستطيع أن تغير العقلية البطريركية المهيمنة منذ مئات السنين في ظرف سنوات معدودات. وذلك لأن تغيير العقليات كما قال أحدهم أصعب من زحزحة الجبال! ولكن المرأة العربية أو المسلمة انتقمت لتاريخ طويل عريض من الإقصاء والتهميش عندما أصبحت مديرة ووزيرة وأستاذة جامعية وباحثة ومثقفة مرموقة إلخ في وقتنا الحاضر. هل هذا قليل؟ أين كنا وأين أصبحنا؟ أخيراً، من الواضح أن ريتا فرج واعية كل الوعي لخطورة المهمة وصعوبتها. فالواقع أن تحرر المرأة العربية المسلمة من أغلال الماضي وسلاسله يتوقف على شيء واحد: هل يمكن أن تنتصر القراءة التنويرية التقدمية للتراث على القراءة الرجعية الظلامية المهيمنة على العالم العربي والإسلامي كله منذ هزيمة المعتزلة والفلاسفة وكبار الروحانيين قبل 1200 سنة على الأقل؟
بعد دراسة الدكتورة ريتا فرج التي تفتتح العدد نجد دراسات مهمة عدة، من بينها دراسة ممتعة عن ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأوروبية وبخاصة الفرنسية والإنجليزية.
أخيراً، لا ينبغي أن ننسى أهمية الافتتاحيات المؤطرة لكل موضوع من هذه المواضيع. وهي افتتاحيات طويلة أحياناً ومليئة بالإضاءات والمعلومات المفيدة جداً. وقد قامت بها المؤرخة إيفا جانادان، نائبة رئيس التحرير. يمكن القول بأن هذه الباحثة المختصة في الدراسات الإسلامية هي الدينامو المحرك للمجلة كلها. إنها فعلاً مطلعة على موضوعها ومثقفة جداً. إنها مهتمة بالمجلة من أولها إلى آخرها. وأعتقد أن نجاح هذه المجلة يعود في قسم كبير منه إليها. أعطوا لكل ذي حق حقه.
سوف أتوقف قليلاً عند موضوع ترجمة القرآن الكريم. وهنا سوف أعترف للقارئ بمسألة شخصية قبل الدخول في صلب الموضوع. على الرغم من أني خريج كلية الآداب، قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، فإني مضطر أحياناً إلى استشارة الترجمة الفرنسية للقرآن لكي أفهم النص العربي جيداً. من يصدق ذلك؟ ولحسن الحظ؛ فإني أمتلك نسخة القرآن الكريم بكلتا اللغتين العربية والفرنسية: أي صفحة عربي ومقابلها صفحة فرنسي. وهكذا أستشير بسهولة الترجمة الفرنسية لكي أفهم جيداً نص القرآن. لحسن الحظ؛ فإن النسخة التي أمتلكها ممتازة وقد تمت مراجعتها من قبل العلامة الدكتور صبحي الصالح. وهذه النسخة الثنائية اللغة عربي - فرنسي ترافقني منذ أكثر من ثلاثين سنة. وعليها أعتمد في كل بحوثي ودراساتي. ولكن لماذا تستغربون الأمر؟ كان الفيلسوف الفرنسي جان هيبوليت أستاذ فوكو وكل جيله قد أمضى حياته في ترجمة رائعة هيغل: فينومينولوجيا الروح. ويبدو أن ترجمته كانت متقنة جداً، نقول ذلك وبخاصة أنه أمضى في تجديدها وتنقيحها عشرات السنوات. ويقال بأن المثقفين الألمان كانوا يستشيرون هذه الترجمة الفرنسية الرائعة لكي يفهموا النص الألماني! وذلك لأن هيغل مفكر صعب المراس ولا يعطي نفسه بسهولة. وبالتالي، فحذار من الاستخفاف بالترجمة والمترجمين، وبخاصة إذا كانوا محترفين وحريصين على إعطاء أفضل الترجمات الممكنة. الترجمة فعل إبداعي بالمعنى الحرفي للكلمة. وعليها أو على نجاحها تتوقف نهضة الثقافة العربية في السنوات المقبلة.
نعود الآن إلى الترجمات الفرنسية. أعتقد أن أهمها ثلاث. الأولى هي الترجمة التي قدمها المستشرق الكبير ريجيس بلاشير، أستاذ ميكل وأركون وكل ذلك الجيل. وهو مختص كبير في دراسة اللغة والآداب العربية. كما أنه مختص في الدراسات القرآنية والإسلامية. من هنا أهمية ترجمته وموثوقيتها.
أما الترجمة الثانية فهي تلك التي قامت بها الباحثة الكبيرة دنيز ماسون. وهي التي راجعها الدكتور صبحي الصالح وهي التي أمتلكها. ومعلوم أن هذه العالمة الكبيرة أمضت حياتها هنا في المغرب وفي مدينة مراكش تحديداً. رفضت أن تعود إلى باريس مسقط رأسها على الرغم من أنها من عائلة بورجوازية غنية. كانت تحب الإسلام والمسلمين ولا تريد أن تعيش إلا في كنفهم. والدليل على ذلك أنها عاشت في قلب المدينة القديمة وليس في الحي الأوروبي الراقي الواقع خارج المدينة. فضّلت أن تبقى في المغرب وتعيش في المغرب وتكتب في المغرب أبحاثها المتألقة. من يستطيع أن يقاوم جاذبية المغرب؟ كانت مهتمة جداً بالحوار الإسلامي - المسيحي على هدى أستاذها الأكبر المستشرق الشهير: لويس ماسينيون.
أما الترجمة الثالثة فهي بالطبع ترجمة أستاذ الأساتذة البروفسور جاك بيرك. وقد أمضى سنوات عمره الأخيرة في الاشتغال عليها وإعادة الاشتغال. وكان فخوراً بها كل الفخر ويتحدث عنها بمناسبة ومن دون مناسبة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».