كواليس الحياة اليومية للروائي الراحل جبور الدويهي

مارس التمثيل والتصوير الفوتوغرافي وأخذ عن أمه مهارة الحكواتي

كواليس الحياة اليومية للروائي الراحل جبور الدويهي
TT

كواليس الحياة اليومية للروائي الراحل جبور الدويهي

كواليس الحياة اليومية للروائي الراحل جبور الدويهي

شخصية الروائي الراحل جبور الدويهي البعيدة عن الاستعراضية، أبقت حميمياته متوارية عن عيون القراء، ممارسته الكتابة بخفر من دون كثير جلبة، جعلت رواياته هي المتداولة فيما بقيت المقابلات معه قليلة، وبوحه شحيح. لكن لجبور شخصية تستحق أن تروى، هو في حياته كما في كتاباته له مسار متشعب ومركّب يشبه لبنان نفسه. مما لا نعرفه عن جبور حبه للسينما وعلاقته بالمسرح وتعلقه بالتصوير الفوتوغرافي، قبل أن يصبح روائياً، ثم لجوئه للصور كمصدر بحثي في كتابة رواياته، وأشياء كثيرة أخرى تكشف للمرة الأولى.
هذا ما أتاحه لنا الشاعر والأستاذ الجامعي فوزي يمين، الذي التقى بجبور الدويهي وهو في عشريناته، وربطته به صداقة، حيث تعرّف معه على المسرح والسينما والحياة الثقافية في بيروت، ثم صاهره وبقي قريباً منه بحكم الرباط العائلي.
نبدأ مع د. يمين من الرواية الأخيرة لجبور الدويهي «سمّ في الهواء» التي تزامنت كتابتها مع مرضه، وصدرت قبل فترة قصيرة من وفاته. يروي لنا «كيف كان جبور يستعجل صدورها، ويحثّ الناشر على الإسراع. وحين كان لا يتمكن من الاتصال به بسبب الإنهاك، يطلب إلى أحد أفراد العائلة أن يفعل ذلك. أحب أن يراها قبل أن يغادر. وهذا ما حدث. فقد تسلم نسخاً منها وأرسلها إلى الأصدقاء، ثم رحل».
قبل سنتين بدأ جبور يشعر أن ثمة ما هو غريب. يصاب بالهزال رغم أنه يأكل كالمعتاد. «كان قد بدأ في كتابة (سمّ في الهواء). يذهب إلى المقهى في إهدن ليكتب ويحدثنا عنها. لم يوقفه القلق، حين عرف أنه يعاني من مشاكل في الدم، واصل بإصرار متخطياً كل الظروف، مستفيداً من هدنة يأخذها من الألم بين فترة وأخرى، إلى أن وضع النقطة الأخيرة». الشخصية الرئيسية في رواية «سمّ في الهواء» تتنقل بين طرابلس وزغرتا وبيروت. حكاية رجل يحب الأدب، ويعيش مع أهله، ويختار في آخر الرواية العزلة والاختفاء. «جبور أيضاً في السنتين الأخيرتين كان قد عزله المرض، وداهمت (كورونا) العالم، وفرضت عليه حجراً على حجر. كان ماركسياً هو الآخر كما بطله، ومن جيل تحطمت أحلامه الكبيرة، ووصل كما راوي الحكاية وبطلها إلى خاتمة عبثية».
جبور كان يكتب يومياً من التاسعة صباحاً وحتى الواحدة ظهراً، ثم يتوقف. هذه هي أوقات العمل الفعلية لديه. كل أعماله أنجزت صباحاً، أما بعد الظهر، فلا يكلّ من سماع الأخبار. «التلفزيون مفتوح طوال الوقت. يريد أن يعرف تفاصيل التفاصيل عما يحدث خاصة في لبنان وفرنسا. كان متابعاً حثيثاً لما يحدث هناك، ومعني أحياناً بدقائق مواضيع لا تخطر على بال. حين يكتب يفضل أن يكون محاطاً بالناس. يؤلف وهو يجالسنا، وصوت التلفزيون يلعلع، لا مشكلة لديه في ذلك. لا نعرف عنه أبداً أنه أغلق غرفته وعزل نفسه ليكتب. هو بحاجة إلى خلفية حية كي تأتيه الأفكار، خلفية فيها حرارة الحياة. في نفس الوقت هو رجل طقوس. يحب أن يكون لأيامه إيقاع ينظمها. فبعد الكتابة الصباحية وسماع الأخبار وقيلولة بعد الظهر، لا بد من لعب الورق، ذاك موعد ثابت لا يمكن تجاوزه ولا تأجيله، ومن بعده قد يلبي دعوة عشاء أو لقاء مسائي مع الأصدقاء».
إذا كان جبور الدويهي حكواتياً بارعاً، فذلك بفضل والدته ماريا، التي فارقت الحياة قبله بعشرة أشهر، عن عمر ناهز المائة عام. «بقيت المرأة فتية وحكّاءة، تروي دون كلل، وعنها أخذ مهارة القصّ. هي خزّان إرثه الشفهي النابض بالحكايات. وقد اشتغل جيداً على هذا الجانب، ونحته بوع تام منه. جلساته مع الأصدقاء، قربه من الناس وتفاصيلهم، كانت كلها غذاء لرواياته. اجتماعي حتى الثمالة، يجالس أشخاصاً من مختلف الأجيال والطبقات، لأنه كان بحاجة للاستماع»، يقول يمين. «ثم أي ذاكرة كانت له! إذا ما سمع قصة، يرويها لك بكامل تفاصيلها، ولو بعد مضي سنين. هذه مقدرة رهيبة. ذهنه مكتنز بالقصص والذكريات العفيّة، وله قدرة على التنقل بينها، ومزجها والخروج من قصة للدخول في أخرى. هذا سره ومفتاحه. له مقدرة فائقة على التخزين وإعادة الإنتاج على طريقته الروائية». ذاكرة جبور ليست سمعية فقط، بل بصرية كذلك. هو ابن المسرح والسينما. لهذا يضيف يمين: «جبور كان بالفعل كاتب الحياة اليومية اللبنانية، لأن أدبه مطعم بشعبية المجتمع، بالعادات والتقاليد. علاقته متينة بجذوره، وعلى دراية بالتاريخ، يتعامل معه بليونة وبقدر عالٍ من التخييل، ليأتي بفسيفساء، ليست بعيدة عن الفسيفساء اللبنانية. كأنه يدخل ما يعرفه في قناة، ويخرجه من جهة ثانية بعد أن يغربله ويصفيه ويضيف إليه نكهته الخاصة». عشقه كان ماركيز «أعجب بمهارته في المزج بين الواقع والخيال، وتحركه بين هذين العالمين بسلاسة مغرية».
قيل الكثير عن دور المكان في روايات جبور الدويهي. في «ريا النهر» كتب عن نهر المرداشية الذي يعرفه جيداً، حيث كان يرتاد مقاهي تلك المنطقة ويكتب هناك. وقبل أن يشرع في «حي الأميركان» وهو حي موجود في منطقة القبة في طرابلس، ويعرفه بدرجة أقل، استعان بأحد أصدقائه الطرابلسيين، وزاره بصحبته أكثر من مرة، كي يتعرف إليه عن كثب. أما «عين وردة» يقول يمين، فهي «حكاية بيت لفت جبور يوم كان طفلاً في الخمسينات، موجود على (تلة الخازن) قرب زغرتا، كانت تسكنه عائلة برجوازية تأتي من بيروت، وتقيم الحفلات الراقية التي تفتن الأهالي. لكن سرعان ما هجرت العائلة البيت».
قال جبور مرة: «المكان هو البطل، الأمكنة أساس، وكل أقدار العالم تدور حولها». وهي دائماً عند جبور موجودة على مفترق. في رواياته يتقاطع الريف مع المدينة، ويتقاطع المهاجر مع المقيم. «كان يفعل ذلك واعياً، ومدركاً، وليس صدفة. فهو من الذين اشتغلوا بشكل كبير على المجاز»، يشرح د. يمين.
ما لا يعلمه كثيرون أن هذا الروائي المغروم بالتاريخ كان عاشقاً للصور القديمة، يجمعها، يؤرشفها، يعود إليها ليتأملها وهو يعيد ترتيب عوالمه الروائية. «هي جزء من مصادر الوحي التي كان يركن إليها. بل هي أرشيف معلومات يستند إليه، ويجد فيها الكادر الزمني الذي تدور الأحداث ضمنه». يكمل دكتور يمين: «التصوير الفوتوغرافي أساساً هو هواية قديمة لجبور. مارسها باكراً وأحبها. الصورة بالنسبة له، شديدة الأهمية. سواء التقطها، أو اقتناها وأضافها إلى مجموعته. هذا غير البحث في الكتب القديمة التي تعني بتاريخ الأمكنة، وكان أيضاً يقتنيها ويعود إليها لتغذية الرواية. على أي حال، عمله على تاريخ الأمكنة جاء امتداداً لاهتمام مبكر، منذ كان يحضّر الدكتوراه عن أدب المستشرقين الذين اهتموا بجبل لبنان».
لم يتوقف صاحب «مطر حزيران» عن شراء الكتب، كانت في غالبيتها فرنسية. فهو من النوع الذي يقرأ بسرعة كبيرة. ومن ملاحظته بعد قراءة عشرات الروايات أنه وجد غالبيتها، إلا ما ندر تختتم بنهايات بائسة. هذه الخلاصة قد تفسر الحزن الشفيف الذي يغلف نصوصه كلها.
في مطلع شبابه، في ستينات القرن الماضي، انضم جبور الدويهي إلى «حركة الشباب الزغرتاوي»، حركة يسارية شيوعية ملتزمة بالنضال الفلسطيني، تطالب بحقوق اجتماعية. ثم ذهب طالباً جامعياً إلى بيروت كما بقية رفاقه في الحركة، انضم إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وحلم كما أبناء جيله بالعدالة والتغيير. ثم سافر إلى فرنسا ونال شهادة الدكتوراه، وحين عاد كانت الحرب الأهلية في انتظاره.
ذلك لم يمنعه من الانخراط في المسرح. أسس مع سيمون قندلفت وجان هاشم، ومثقفين آخرين «فرقة الديوان» المسرحية في زغرتا. قدموا أربع مسرحيات «مهاجر بريسبان» و«حكاية فاسكو» لجورج شحاده، «عرس الدم» للوركا و«الملك يموت» ليوجين يونيسكو. شارك جبور بحرارة في هذه التجربة مترجماً من الفرنسية إلى العامية اللبنانية وممثل عرف تجربة الوقوف على الخشبة. وقعت «مجزرة البحصاص» في طرابلس عام 1983 التي راح ضحيتها عدد من الشبان الزغرتاويين، بينهم الدينامو الفني للفرقة بيار فرشخ، لينتهي الحلم المسرحي. «هذا ما يفسر وجود شيء من روح المسرح في روايات جبور، بقي المسرح حاضراً في أعماله، ولم يغب أبداً»، يعقب فوزي يمين.
إلى جانب المسرح شارك جبور في تأسيس نادٍ للسينما عرض أفلاماً منتقاة من جنسيات مختلفة، وفتح المجال للحوار حول ما يعرض. يذكر د. يمين أنه كان لا يزال في العشرين حين حضر فيلماً يابانياً لأول مرة في حياته في هذا النادي، الذي كان لجبور فضل في تأسيسه.
كانت زغرتا، في تلك الفترة من الحرب الأهلية، التي نشط فيها جبور، مزدهرة اقتصادياً وثقافياً. فبسبب مجزرة إهدن التي وقعت عام 1978. خشي الزغرتاويون في كل من طرابلس وبيروت على حياتهم، وعادوا إلى بلدتهم طلباً للأمان وبينهم تجار وأدباء وفنانون، وأطلقوا المبادرات في منطقتهم.
بدأ جبور الدويهي الكتابة بالفرنسية، وبقي يكتب بها مقالاته الصحافية التي ثابر عليها. لكنه لحظ أن مواضيع روايته، يعبر عنها أفضل باللغة العربية، لأنها تحكي قصصاً محلية. تطورت جملته، واشتغل على أسلوبه. بدأ بـ«اعتدال الخريف»، التي تنقل جانباً من نشأته الأولى. هي أشبه بأوتوبورتريه. «مطر حزيران» جاءت أطول، وفيها نفس ملحمي. لم تكن عربية جبور ضعيفة يوماً. كان في الأصل قادراً على الكتابة باللغتين. حين يعرض نصوصه على أصدقائه قبل النشر، على جري عادته، يأخذ عليه بعضهم تلك التراكيب اللغوية التي تسربت إلى أسلوبه من الفرنسية. يعلّق د. يمين: «لكنني أرى هذا التطعيم قد تحول إلى ميزة في أسلوبه الروائي».
لم يندم أنه كتب الرواية متأخراً، ذلك سمح له ألا يأسف على كتاب نشره. يضيف يمين: «كان قد كتب أشياء مبكره، ولم ينشرها. ربما لم يجد الوقت لذلك. بعد تقاعده من التعليم الجامعي، صارت الفسحة أكبر. فهو من الصنف الذي يأخذه اللهو ويركن إلى الكسل. لعله لم يكن يأخذ نفسه كروائي على محمل الجد. تصرف كهاوٍ لفترة طويلة، إنما لحسن الحظ، وثق بعد ذلك أكثر بأهمية ما يفعل. وكان ذلك مفيداً جداً لتطوره الأدبي».
جبور الدويهي



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.