«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

«الشرق الأوسط» تتجول داخل «رومية» في «زمن الانهيار»

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
TT

«الأزمة اللبنانية»... حراس السجن أكثر «تعاسة» من النزلاء

المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط)   ........  نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)
المدخل الرئيسي لسجن رومية (الشرق الأوسط) ........ نفايات رماها السجناء من زنزاناتهم إلى إحدى باحات السجن (الشرق الأوسط)

الهدوء في سجن رومية (أكبر سجن في لبنان) في ساعات قبل الظهر قد يوحي للوهلة الأولى أن السجن، المرتفع على إحدى التلال شرق بيروت، منفصل عن الواقع اللبناني «التعيس» الذي يعج بعشرات الأزمات التي تنفجر، واحدة تلو أخرى، من دون إذن مسبق. فالتراجع الكبير بعدد الزوار نتيجة عدم تمكن الأهالي الذين يسكنون في الأطراف والمناطق البعيدة من زيارة أبنائهم بشكل منتظم لعدم توفر مادة البنزين، كما للارتفاع الكبير بتكلفة المواصلات، يجعل الحركة فيه مقتصرة إلى حد كبير على عناصر الأمن.
في الحانوت، أي المتجر الصغير الذي يشتري منه الأهالي حاجيات أبنائهم، الملاصق للمبنى «ب» الشهير الذي يؤوي السجناء المصنفين خطيرين وإرهابيين، حركة خفيفة. فمعظم السلع تماماً كما هي الحال في المحال التجارية خارج السجن مفقودة. يقول السجين «ح.ح» الذي تحدثت إليه «الشرق الأوسط» والذي مضى على وجوده في رومية 26 عاماً كونه محكوماً بالإعدام، إنه لم يشهد طوال الأعوام الماضية ما يشهده اليوم من أوضاع صعبة. خلال تقليبه عدداً من الفواتير، يشتكي عدم توافر السلع وغلاء الأسعار.
في المبنى «د» - الذي يؤوي مزيجاً من السجناء، أي موقوفين لم يحاكموا بعد، إضافة إلى محكومين بجرائم قتل وسرقة، وبشكل أساسي تجار مخدرات، كما محكومين بتهم إرهاب، تم تخصيص طابق لهم كي لا يختلطوا بباقي السجناء وينقلوا إليهم أفكارهم المتطرفة، كما يشرح أحد عناصر الأمن - وصلت عند الساعة العاشرة والنصف من صباح الأربعاء الأغراض التي اشتراها أهالي السجناء وأقاربهم، فملأت المدخل الضيق حيث انصرف عدد منهم لتقسيمها تمهيداً لتوزيعها على سكان الزنزانات في الطوابق العلوية. صناديق كثيرة من المياه المعدنية، لحوم، زيت، فواكه، أكواز ذرة وغيرها كثير من المواد والسلع التي قد تبدو للزائر مفاجئة كماً ونوعاً. عند سؤالنا أحد السجناء عن «هذا الترف» خاصة أن كثيراً من اللبنانيين لم يعودوا يتناولون اللحم والفواكه منذ أكثر من عام بعد ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، يوضح أن كل هذه الأغراض تصل للسجناء الميسورين، وهم أقلية، أما الأكثرية ونتيجة الغلاء المستشري فباتت تأكل من طعام السجن الذي ما كانت تتناوله من قبل نظراً للنوعية السيئة والكمية الصغيرة التي تراجعت بشكل إضافي بعد الأزمة، لافتاً إلى أن كثيراً من الميسورين يتقاسمون طعامهم اليوم مع رفاقهم في الزنزانات. وأضاف: «ما يحصل في الخارج لا شك ينعكس علينا بشكل كبير. صحيح أننا هنا نتساعد فلا يجوع أحد، لكننا في النهاية في سجن صغير داخل السجن اللبناني الكبير حيث لا نفتقد فقط لحريتنا، وإنما أيضاً لكل ما يفتقده اللبنانيون في الخارج». ويشير إلى أن حال الكهرباء حالياً مستقرة بحيث يقتصر التقنين على 4 ساعات في اليوم بعدما بلغ مستويات غير مسبوقة خلال بضعة أيام نتيجة تعطل أحد المولدات، متحدثاً عن «أزمة في المياه بحيث نفتقد إليها بشكل دائم».
ولا يخفي العميد فارس فارس، المكلف بمتابعة ملف السجون في وزارة الداخلية والبلديات، أن هناك تراجعاً بكمية ونوعية الطعام الذي يقدم للسجناء، «فما يسري على اللبنانيين عامة خارج السجن، يسري على السجناء أيضاً، بحيث إنه قبل الأزمة الاقتصادية كان المبلغ المرصود سنوياً لغذائهم 10 مليارات ليرة لبنانية، أي 7.7 مليون دولار، عندما كان سعر الصرف 1500 ليرة للدولار الواحد، أما الآن ومع انهيار سعر الصرف فالمبلغ المرصود لم يعد يتجاوز 500 ألف أو 600 ألف دولار، وقد طلبنا من وزارة المالية زيادة الاعتمادات، وبعد جهد جهيد تمكنا من زيادة هذه الاعتمادات إلى 30 مليار ليرة لبنانية، لكن هذا المبلغ يبقى غير كافٍ، لأننا بحاجة شهرياً إلى وجبات غذائية ومواد أولية بقيمة 3 مليارات ليرة ونصف مليار، ما يعادل 40 مليار ليرة سنوياً».
ويشير فارس في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه وبعكس ما يتم تداوله: «لم نتوقف عن إطعام السجناء اللحم والدجاج، إنما خفضنا الكميات مراعاة للظروف المادية، فمثلاً بدلاً من حصولهم على اللحم والدجاج مرتين في الأسبوع بات ذلك يتم كل 10 أيام تقريباً».
ويشتكي سجناء رومية بأنه لا يسمح لأهاليهم، كما أهالي الموقوفين والمحكومين في سجون أخرى على الأراضي اللبنانية، بإدخال الطعام لهم، وبحصر ما يمكنهم الحصول عليه من مواد غذائية بموجودات الحانوت. ويرد العميد فارس على هذه المطالبات، قائلاً: «منعنا الوجبات من الخارج، وذلك بسبب محاولة الأهالي تهريب المخدرات من خلالها، ومن خلال أغراضهم الشخصية، كما عبر رجال الدين».
وتبلغ الطاقة الاستيعابية لسجن رومية 1050 سجيناً وهو يضم حالياً 3476 سجيناً، ما يعني نسبة اكتظاظ تتجاوز 324 في المائة. ويتألف سجن رومية المركزي وهو أكبر السجون اللبنانية من 6 مبانٍ؛ مبنى «ب»، ومبنى «د» للمحكومين، ويتألف كل منهما من 3 طوابق، ومبنى الأحداث، واللولب المركزي، ومبنى الخصوصية، والمبنى الاحترازي. واللافت أن 40 في المائة من السجناء في لبنان هم من غير اللبنانيين. ويشكو مسؤولون عن السجون عدم تجاوب منظمات الأمم المتحدة (unrwa وunhcr) مع طلبات رسمية لمساعدة السجناء السوريين والفلسطينيين.
وارتفع في الأشهر الماضية عدد الموقوفين حديثاً، بحسب أحد الضباط في سجن رومية، وهو ما يبدو منطقياً تماماً، في ظل الأرقام التي أعلنتها قوى الأمن مؤخراً، وأظهرت ارتفاعاً ملحوظاً في جرائم القتل والسرقة، نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة.

عناصر الأمن يشكون للسجناء!
لا يسمح للسجناء الخروج بشكل يومي إلى الباحة الخارجية، إذ تخصص 3 أيام للزيارات و4 أيام للوجود في الهواء الطلق لنحو 6 ساعات. الأربعاء الماضي، كانت الأكثرية في زنزاناتها. وحدها الملابس الملونة المنشورة من الشبابيك وأصوات أجهزة التلفزة تؤشر إلى وجود آلاف خلف القضبان. بعض الأصوات تعلو عند مشاهدة زائر لدعوته بالاطلاع على أحوالهم داخل الزنزانات.
للمفارقة أن أحوال السجناء لا تختلف كثيراً عن أحوال عناصر الأمن المخولين حراسة المباني. هم يبدون منهكين، وقد ترك الهم والضغط آثارهما بوضوح على ملامحهم التعيسة. فالحرارة المرتفعة خلال أشهر الصيف في لبنان، والتي تترافق مع الضغوط المعتادة التي يواجهونها، باعتبارهم يتعاطون مع أكثرية عنيفة من السجناء، إضافة إلى الضغوط المستجدة المرتبطة برواتبهم التي فقدت قيمتها مع انهيار سعر صرف الليرة، فأصبح راتب العنصر العادي يعادل أقل من 65 دولاراً أميركياً، مقارنة مع نحو 800 دولار قبل بدء الأزمة في صيف العام 2019، كلها عوامل جعلت السجناء يتعاطفون مع حراسهم! ففيما تتجنب عناصر الأمن أي حديث مع الإعلاميين وخاصة خلال دوامهم الرسمي، ينقل السجناء معاناتهم ويقول (ف. ن) لـ«الشرق الأوسط»: «كيف تتوقعون أن يكون حالنا، إذا كانت أحوال عناصر الأمن بهذه التعاسة. قصصهم قد تكون أقسى من قصصنا. فبعضهم لم يعد قادراً على تكبد تكاليف المواصلات... نحن نشكو لهم وضعنا، وهم يشكون لنا أحوالهم».
وتقر مصادر أمنية بالأحوال الصعبة التي يرزح تحتها الضباط والعناصر، وتقول إن البعض يقومون بمهمات خطيرة، كما في سجن رومية، حيث هم على تماس مع أشخاص خطيرين فتكون حياتهم مهددة في كل لحظة، معتبرة أنه إذا كان وضع مالية الدولة صعباً جداً والسلطة السياسية غير قادرة على زيادة رواتب كل الأمنيين فيفترض النظر بأوضاع ورواتب من يؤدون مهمات خطيرة على الأقل.
وإذا كانت وتيرة عمليات التمرد تراجعت بشكل كبير في السنوات الماضية، أو أقله تلك المعلن عنها، فذلك لا يعني أن المخاطر لم تعد موجودة وبشكل كبير. وللتأكيد على ذلك، يطلب أحد الضباط من أحد العناصر الإتيان بسكين كبير تم ضبطه مؤخراً، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أنه «صناعة رومية»، قائلاً: «نضبط عدداً كبيراً من هذه السكاكين التي يصنعها بعض السجناء من الطناجر ومن حاجيات أخرى ويهددون بها الضباط والعناصر في كثير من الأحيان».

شكاوى من الوضع الصحي
لعل أبرز ما يشكو منه السجناء اليوم هو الوضع الصحي. يقول السجين «ف.ح» لـ«الشرق الأوسط» إن «كل يوم أسوأ من الذي سبقه في موضوع نقص الأدوية. فبعد أن كانت الأدوية توزع من قبل إدارة السجن مجاناً، انقطعت الأدوية كلها وأصبح بعضها على حساب السجين. حتى أدوية الأعصاب وأدوية الأمراض المستعصية وأدوية مرض السكري كلها نبتاعها على حسابنا الشخصي... كما أن المشكلة الكبرى هي موضوع العمليات الجراحية والصور الطبية... كل هذا أصبح على حساب السجين بنسبة 20 في المائة». ويضيف «ف.ح»: «مثلاً في حال اضطر السجين لدخول المستشفى في حال الطوارئ فعلى أهله الحضور لدفع مبلغ من المال للمستشفى كي يسمح له بالدخول».
ويوضح العميد فارس أن ما يسري على السجناء بموضوع الأدوية والاستشفاء، يسري على كل اللبنانيين، باعتبار أن معظم الأدوية مقطوعة في الصيدليات كما أن المستشفيات لم تعد تستقبل مرضى الضمان حتى المرضى ذوي التأمين الصحي إلا إذا كانت حالتهم طارئة وترغمهم على دفع فروقات مالية كبيرة، لافتاً إلى أنهم يقومون بإجراءات كثيرة لإلزام المستشفيات على استقبال السجناء المرضى، كما يتم استقدام كثير من المساعدات من المنظمات الدولية والجمعيات. وبحسب العميد فارس، فإن الوضع تحت السيطرة تماماً بموضوع «كورونا»، بحيث أدت التدابير السريعة التي اتخذت مع تفشي الوباء في لبنان مفعولها، وبخاصة لجهة تخصيص مبنى في السجن لحجر المصابين، مشيراً إلى أن مجمل الحالات التي تم تسجيلها في «رومية» لم تتجاوز 1090 وقد شفيت جميعها، وليس لدينا اليوم في مركز الحجر إلا 6 حالات، وهي من خارج سجن رومية.

محاكمات في السجن و«أونلاين»
> يشكل تأخير المحاكمات والبتّ بالقضايا العالقة إحدى أبرز المشكلات التي يعاني منها السجناء، بحيث يقضي كثير منهم أشهراً وسنوات موقوفين بانتظار محاكمتهم. وللمفارقة فإن 51.50 في المائة من سجناء رومية موقوفون و48.50 في المائة محكومون.
وقد فاقمت الأزمات الأخيرة وبخاصة أزمة «كورونا» الأزمة التي يرزح تحتها القضاء اللبناني منذ سنوات لجهة البطء بالمحاكمات. وانكبت وزارة العدل منذ مارس (آذار) 2020 بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى ونقابة المحامين على تفعيل العمل القضائي إلكترونياً، فاتخذ قرار البتّ بالقضايا الضرورية والمستعجلة، وخاصة التي فيها موقوفون عبر الأونلاين، بحيث تحصل الاستجوابات عن بعد، خاصة أن القانون واضح لعدم إمكانية احتجاز الأشخاص الذين يتم توقيفهم بإشارة من النيابة العامة إلا لمهلة قصيرة، ما يحتم مثولهم أمام قاضي التحقيق بعد انقضاء المهلة المحددة.
ويتحدث العميد فارس عن «إنجاز كبير لوزارة العدل بعد السماح باستخدام قاعة المحاكمة التي أنشئت في رومية عام 2014 من قبل قضاة المحاكم الجنائية في جبل لبنان»، لافتاً إلى أنه تم عقد نحو 2000 جلسة فيها، في وقت يتم العمل حالياً على مشروع من قبل مجلس القضاء الأعلى لتوسيع صلاحيات محكمة رومية، لتشمل كل المحاكم، ما يسهل عملية محاكمة الموقوفين بدلاً من سوقهم إلى المحاكم في المناطق المختصة. ويشير فارس إلى أن وزيرة العدل افتتحت أيضاً الأسبوع الماضي المحاكمات التجريبية أونلاين في محكمة العدل في جبل لبنان - بعبدا، من أجل عمليات الاستجواب عن بعد وإخلاءات السبيل، موضحاً أنه «يتمّ إنشاء غرفة عمليات للقضاة بالتعاون مع وزارة العدل ونقابتي المحامين في طرابلس وجبل لبنان، وقد تم تجاوز جميع العوائق الفنية والقانونية كما يُعمل الآن على قوننة هذه الآلية». ويضيف: «ننكب حالياً على مكننة النظام القضائي الذي يتعلق بالمحكومين والموقوفين، وهناك ورشة عمل كبيرة جداً، على صعيد مكننة المحاكم، والسجلات، وتأهيل النظارات في قصور العدل، وعلى صعيد مكننة السجل الصحي للسجين».
وتتكل حالياً إدارة السجون اللبنانية على المساعدات من أي جهة أتت، سواء عبر منظمات دولية أو جمعيات أو مرجعيات دينية حتى أشخاص ميسورين للاستمرار بتأمين احتياجات السجناء، فكما تنصرف قيادات الأجهزة الأمنية لتأمين المساعدات للضباط والعناصر من دول شتى، مع التراجع الدراماتيكي في رواتبهم، فكذلك القيمون على السجون. ويقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف ننكب على (الشحاذة) للاستمرار والصمود!»



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.