كيف يكتب الشعراء الأهوال؟

الكتلة المتصاعدة في سماء ذلك اليوم الصيفي تعدّدت ألوانها كتدرّجات جهنم

«بيروت بعد المأساة» لوحة لحسن جوني
«بيروت بعد المأساة» لوحة لحسن جوني
TT

كيف يكتب الشعراء الأهوال؟

«بيروت بعد المأساة» لوحة لحسن جوني
«بيروت بعد المأساة» لوحة لحسن جوني

يسكن الشعراء الجنائز ويتمدّدون في مساحاتها. وفي حالات قصوى، كفاجعة مرفأ بيروت، تولد القصيدة مغطّسة بالدم، عالقة في المشهدية البغيضة. يضع الشاعر عقل العويط كتاباً ثانياً من رحم المشهد الجنائزي البيروتي، بعنوان «آب أقسى الشهور يشعل الليلكَ في الأرض الخراب» («دار نلسن»)، محوراً البيت الأول من قصيدة تي. إس. إليوت الشهيرة «الأرض الخراب»:

نيسان أقسى الشهور
يستولد الليلك من الأرض الموات
يصدر الكتاب اليوم، الأربعاء، في الذكرى السنوية الأولى للمجزرة الكبيرة. قصيدة طويلة، تلتحق بكتابه الجريح، «الرابع من آب 2020»، الصادر عن «دار شرق الكتاب» بعد أربعة أشهر من الجحيم. كيف يكتب الشعراء الأهوال؟ كيف يرسم الرسامون الرائحة؟ كيف يقود الموسيقيون أوركسترا الموت؟ عام على انفجار المرفأ، ومنذ ذلك اليوم، ثلاثاء الرابع من أغسطس، والفن القتيل، الصادق، النازف، المترفّع عن غايات وأجندات وصغائر، هو العزاء بعدما تحوّلت الأرض يباساً لا يزهّر سوى الوجع.
والشاعر عبدو وازن يسكب في القصيدة مواجع المدينة وإنسانها. هو وعقل العويط في فقاقيع النار، لا يهدّئان الشعر ولا يروّضان اللهب. يستلهم وازن من وسم (هاشتاغ) الذي ملأ مواقع التواصل، والذي يصف انفجار بيروت بجنون قنبلة هيروشيما. تلتقي الكارثتان بدمج المغرّدين الاسم والوَقع والغضب، فتخرج من الصميم الكسيح، مفردة «بيروتشيما». يستفزّ المعنى الشاعر، فتولد من عمقه قصيدته الطويلة: «بيروتشيما»: محاكاة لتساقط الجدران والسطوح والقراميد؛ ولنبتة الفطر الضخمة المرتسمة في الفضاء، «ماحية وجه السماء، ماحية خط الأفق عند الغروب».
«أي فاجعة لم تحلّ بعد بنا؟»، تساءل يومها الشاعر فوزي يمين. تتزلزل الأرض بإنسانها بعد الظن أنه آمن، وقد أنجز التخطيط للأيام المقبلة، مُخرجاً من حساباته الصفعة المفاجئة والضربة القاضية. ذلك الثلاثاء، تأكّد الإحساس بالزلزلة. لم تكن النجاة مطروحة على طاولة أحد. يتوقف العقل عن إعطاء إشارات المرور نحو الواقع والمنطق. تعمّه فوضى رهيبة، تشبه خبْط الانفجار في المنازل والمكاتب والأرواح والأفكار والقلوب المسحوقة. إنها «الاستباحة» التي تحدث عنها الروائي إلياس خوري. لم تكن تلك الكتلة المتصاعدة في سماء ذلك اليوم الصيفي الحار سوداء بالكامل كدخان هيروشيما، بل تعدّدت ألوانها كتدرّجات جهنم. يتوقف عبدو وازن عند انفلاشها، وهو انفلاش مروّع، كأنه ابتلاع للأرض ومَن فيها وما عليها وفي أعماقها وأحشائها وصمتها وصرختها. ابتلاع الحياة. هل حقاً نحن أحياء؟
يتوسّل عقل العويط بيروت: «يجب ألا تموتي. يجب أن تعبري جحيماً تلو جحيم». يصف المشهد وهو غريق فيه. يمكن الشعر أن يشكّل لحظة استعادة للحياة والميناء والبحر. العويط يفعل بالقصيدة ما تعجز عنه العدالة اللبنانية المشكوك بأمرها: يغطّي الجثث العارية، يحتضنها، ويدندن فوق هالتها لحن الوفاء. قد تعود الأرواح على هيئة غيوم ونسائم، فتتفقّد بيوتها وأجسامها المندثرة. هذه «العودة» لا تتم إلا بالشعر. هو الباب والمفتاح والطريق والعبور والوصول؛ وإن كان الواقع أقفالاً وأغلالاً وأكاذيب ودموع تماسيح. يسأل نوايا الشعراء الطيّبين في الكون الموحش: «هل الموت هو واحد حقاً؟ والقبر (المقبرة) هل هو واحد حقاً؟». لا! الموت ليس واحداً والقبر ليس واحداً، ولا نوارس البحر فوق الجثث واحدة، فهي غيرها المحلّقة فوق الموج المطمئنّ والرمل المذهّب والانشراح الجميل حيث نداء الأفق.
والرسامون يرسمون المقتلة. إنهم قافلة بديعة الجمال كحسن جوني وأيمن وأسامة بعلبكي وزينة عاصي وتوم يونغ وإميل منعم؛ راسم لوحة غلاف كتاب العويط الأول عن المذبحة. اللون أيضاً يشهد على الفجيعة، كالظل والشكل الهندسي والتمايل والانعكاس واللوحة المكتملة المولودة من لحم المدينة ودمها. «ماذا نساوي من دون بيروت؟»، تساءل حينها الروائي الراحل أخير جبور الدويهي. «بلد بلا مرفأ»، وصف حازم صاغية المصيبة. الدلالة كبيرة والغضب كبير، والقلب «لا يتحمّل شرايينه المتدفّقة على الرصيف»، ينزف عقل العويط.
تدافعت الأمواج إلى الوراء، وبدت الأرض كأنها انشقت، «كأنّ زلزالاً أطبق على وجهها». يستذكر عبدو وازن في «بيروتشيما» الطفلة الضحية ألكسندرا. «ماتت تحت لوح زجاج». ويكمل عدّ الأوجاع: «الفتاة بيسان سقطت تحت سقف التنك في الكرنتينا». ولو سلّم على كل ميت، لطالت القصيدة «حتى الينابيع»، بوصف أنسي الحاج. ولو وزّع الورد على الأضرحة لعرَّى الحقل. لكن ما الحيلة حين تنبثق ألسنة الجحيم ويهبّ النسيم فوق الأشلاء؟ وماذا يقال لمن فُقدوا تحت أكوام الحجارة؟ وللباكين على هذا الفقد؟ يستذكر وازن فيروز وهي تغني «لبيروت منديل العيون»: «سمعنا الأغنية في مطلع الحرب الأهلية وبكينا. نسمعها اليوم ولا نبكي. لم يجف الدمع في عيوننا، لكن مآقينا تحجّرت». وتحجّرت الروح.
لن ينقشع الضوء ليرى الشاعر مَن هو القاتل. يستعين بـ«حكاية الزورق الذي يعود من تلقائه إلى الميناء». وبعد تضرّج الضوء بالدماء، يستعين بـ«خبرة الميناء الذي يعرف الرسوّ من دون الارتطام بالرصيف»، يكتب عقل العويط «بهلع الارتجاف». كتابه الثاني عن الفاجعة استكمالٌ للجرح الذي يطير ليحطّ على كرسي مخلوع. «يا لهذه الساعة (...) كيف وبأي صوت أغطّي هذه الفاجعة؟» الشعراء قتلاهم لا يموتون.



«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
TT

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)
الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي»، بدولة قطر، مساء الثلاثاء، الفائزين في فئات الدورة العاشرة، وذلك خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد آل ثاني الممثل الشخصي لأمير البلاد، وشخصيات بارزة، وأعضاء البعثات الدبلوماسية، ونخبة من الباحثين والعاملين بمجال الترجمة.

وتهدف الجائزة إلى تكريم المترجمين وتقدير دورهم في تمتين أواصر الصداقة والتعاون بين شعوب العالم، وتقدير دورهم عربياً وعالمياً في مد جسور التواصل بين الأمم، ومكافأة التميز في هذا المجال، وتشجيع الإبداع، وترسيخ القيم السامية، وإشاعة التنوع، والتعددية والانفتاح.

الشيخ ثاني بن حمد لدى حضوره حفل تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

كما تطمح إلى تأصيل ثقافة المعرفة والحوار، ونشر الثقافة العربية والإسلامية، وتنمية التفاهم الدولي، وتشجيع عمليات المثاقفة الناضجة بين اللغة العربية وبقية لغات العالم عبر فعاليات الترجمة والتعريب، ويبلغ مجمل قيمة الجائزة في مختلف فئاتها مليوني دولار أميركي.

وقال الدكتور حسن النعمة، أمين عام الجائزة، إنها «تساهم في تعزيز قيم إنسانية حضارةً وأدباً وعلماً وفناً، اقتداءً بأسلافنا الذي أسهموا في بناء هذه الحضارة وسطروا لنا في أسفار تاريخها أمجاداً ما زلنا نحن اليوم الأبناء نحتفل بل ونتيه مفتخرين بذلك الإسهام الحضاري العربي في التراث الإنساني العالمي».

وأشاد النعمة بالكتاب والعلماء الذين ترجموا وأسهموا في إنجاز هذه الجائزة، وبجهود القائمين عليها «الذين دأبوا على إنجاحها وإخراجها لنا في كل عام لتكون بهجة ومسرة لنا وهدية من هدايا الفكر التي نحن بها حريُّون بأن نرى عالمنا أجمل وأسعد وأبهج وأرقى».

الدكتور حسن النعمة أمين عام الجائزة (الشرق الأوسط)

من جانب آخر، أعربت المترجمة والأكاديمية، ستيفاني دوغول، في كلمة نيابة عن الضيوف وممثلة للمترجمين، عن شكرها لجهود دولة قطر وجائزة الشيخ حمد للترجمة في تكريم المترجمين والمثقفين من كل أنحاء العالم، موجهة التحية لجميع الفائزين، وللغة العربية.

يشار إلى أنه في عام 2024، توصلت الجائزة بمشاركات من 35 دولة حول العالم، تمثل أفراداً ومؤسسات معنية بالترجمة، من بينها 17 دولة عربية. وقد اختيرت اللغة الفرنسية لغة رئيسية ثانية إلى جانب اللغة الإنجليزية، بينما اختيرت الهنغارية والبلوشية والتترية واليوربا في فئة اللغات القليلة الانتشار.

الفائزون بالدورة العاشرة

وفاز بالجائزة هذا العام «فئة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية»، في المركز الثاني رانية سماره عن ترجمة كتاب «نجمة البحر» لإلياس خوري، والثالث إلياس أمْحَرار عن ترجمة كتاب «نكت المحصول في علم الأصول» لأبي بكر ابن العربي، والثالث (مكرر): ستيفاني دوغول عن ترجمة كتاب «سمّ في الهواء» لجبور دويهي.

وعن «فئة الترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية»، فاز بالمركز الثاني الحُسين بَنُو هاشم عن ترجمة كتاب «الإمبراطورية الخَطابية» لشاييم بيرلمان، والثاني (مكرر) محمد آيت حنا عن ترجمة كتاب «كونت مونت كريستو» لألكسندر دوما، والثالث زياد السيد محمد فروح عن ترجمة كتاب «في نظم القرآن، قراءة في نظم السور الثلاث والثلاثين الأخيرة من القرآن في ضوء منهج التحليل البلاغي» لميشيل كويبرس، والثالث (مكرر): لينا بدر عن ترجمة كتاب «صحراء» لجان ماري غوستاف لوكليزيو.

من ندوة «الترجمة من اللغة العربية وإليها... واقع وآفاق» (الشرق الأوسط)

أما (الجائزة التشجيعية)، فحصل عليها: عبد الواحد العلمي عن ترجمة كتاب «نبي الإسلام» لمحمد حميد الله. بينما فاز في «فئة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية»، حصلت على المركز الثالث: طاهرة قطب الدين عن ترجمة كتاب «نهج البلاغة» للشريف الرضي. وذهبت الجائزة التشجيعية إلى إميلي درومستا (EMILY DRUMSTA) عن ترجمة المجموعة الشعرية «ثورة على الشمس» لنازك الملائكة.

وفي (فئة الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية) حصل على المركز الثاني مصطفى الفقي وحسام صبري عن ترجمة كتاب «دليل أكسفورد للدراسات القرآنية» من تحرير محمد عبد الحليم ومصطفى شاه، والثاني (مكرر): علاء مصري النهر عن ترجمة كتاب «صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس» لستانلي لين بول.

وفي «فئة الإنجاز»، في قسم اللغة الفرنسية: (مؤسسة البراق)، و(دار الكتاب الجديد المتحدة)، و«في قسم اللغة الإنجليزية»: (مركز نهوض للدراسات والبحوث)، و(تشارلز بترورث (Charles E. Butterworth)، وفي لغة اليورُبا: شرف الدين باديبو راجي، ومشهود محمود جمبا. وفي «اللغة التترية»: جامعة قازان الإسلامية، و«في قسم اللغة البلوشية»: دار الضامران للنشر، و«في اللغة الهنغارية»: جامعة أوتفوش لوراند، وهيئة مسلمي المجر، وعبد الله عبد العاطي عبد السلام محمد النجار، ونافع معلا.

من ندوة «دور الجائزة في الارتقاء بمعايير جودة الترجمة» (الشرق الأوسط)

عقدٌ من الإنجاز

وعقدت الجائزة في الذكرى العاشرة لتأسيسها ندوة ثقافية وفكرية، جمعت نخبة من أهم العاملين في مجال الترجمة والمثاقفة من اللغة العربية وإليها، تتناول الندوة في (الجلسة الأولى): «الترجمة من اللغة العربية وإليها: واقع وآفاق»، بينما تتناول (الجلسة الثانية): «دور الجائزة في الارتقاء بمعايير جودة الترجمة، وكيفية تطوير هذا الدور».

وخلال مشوارها في عشر سنوات، كرّمت الجائزة مئات العاملين في الترجمة من الأفراد والمؤسسات، في نحو 50 بلداً، لتفتح بذلك آفاقاً واسعة لالتقاء الثقافات، عبر التشجيع على الاهتمام بالترجمة والتعريب، ولتصبح الأكبر عالمياً في الترجمة من اللغة العربية وإليها، حيث اهتمت بها أكثر من 40 لغة، كما بلغت القيمة الإجمالية السنوية لمجموع جوائزها مليوني دولار.

ومنذ تأسيسها، كرمت الجائزة 27 مؤسسة ودار نشر من المؤسسات التي لها دور مهم في الترجمة، و157 مترجماً و30 مترجمة، حيث فاز كثيرون من مختلف اللغات الحية عبر العالم. حتى اللغات التي يتحدث بها بضعة ملايين بلغتها الجائزة وكرمت رواد الترجمة فيها من العربية وإليها. أما اللغات الكبرى في العالم فكان لها نصيب وافر من التكريم، مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألانية والصينية والكورية واليابانية والتركية والفارسية والروسية.

وشملت الجائزة كذلك ميادين القواميس والمعاجم والجوائز التشجيعية للمترجمين الشباب وللمؤسسات الناشئة ذات الجهد الترجمي، وغطت مجالات الترجمة شتى التخصصات الإنسانية كاللغوية والتاريخية والدينية والأدبية والاجتماعية والجغرافية.

وتتوزع فئاتها على فئتين: «الكتب المفردة»، و«الإنجاز»، تختص الأولى بالترجمات الفردية، سواء من اللغة العربية أو إليها، وذلك ضمن اللغات الرئيسية المنصوص عليها في هذه الفئة. وتقبل الترشيحات من قبل المترشح نفسه، ويمكن أيضاً ترشيح الترجمات من قبل الأفراد أو المؤسسات.

أما الثانية فتختص بتكريم الجهود الطويلة الأمد المبذولة من قبل الأفراد والمؤسسات في مجال الترجمة من اللغة العربية أو إليها، في عدة لغات مختارة كل عام، وتُمنح الجائزة بناء على عدد من الأعمال المنجزة والمساهمة في إثراء التواصل الثقافي والمعرفي.