تتداخل هموم الحب وهموم الكتابة في رواية «حبيبة كما حكاها نديم» الصادرة حديثاً عن دار «الكرمة» بالقاهرة للكاتب محمود عبد الشكور، وتنعكس على بطلها الذي يبدو قناعاً للكاتب نفسه، يتخفى خلف معاناته وحكاياته في محاولة للإمساك بخيوط اللعبة روائياً، وحسبما يقول «أردت كتابة رواية مُستلهمة من قصتين عشتهما، ولكن الرواية هي التي كتبتني وفضحتني».
- طوق الحمامة
تبدو حكاية الحب التي عاشها نديم لـ«حبيبة» مكرورة، إلا أنه التقط التجربة وقرر أن تكون خيطاً لتحويل الألم إلى فن بقوة الكتابة نفسها. خصوصاً أن هذا الألم الشخصي يحاصر فضاء الرواية منذ عتبتها الأولى التي تستلهم سطوراً من «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي: «اعلم - أعزك الله - أن الحب أوله هزل وآخره جد». ومن ثم يأخذنا السرد من «طوق الحمامة» إلى الأزمة الشخصية لبطل الرواية، مؤسساً علاقة توأمة بين الألم والكتابة: «هذا الألم عظيم. أريد أن أكتب التماساً للشفاء»، ثم ما نلبث أن نفهم من سياق سرد البطل بضمير المتكلم أنه كاتب مُحترف، مطلع على أمهات الكتب كوسيلة لفهم العالم بداية من ابن حزم الأندلسي مروراً بـ«آلام فيرتر» لجوته، وهيمنغواي، وقصائد الهايكو اليابانية، إلى جانب رصيد واسع من الفلسفة والسينما، ويوظف هذا الارتباط بشكل لا إرادي لمحاولة الوقوف على سياقات فهم فشله في الحب خلال السنوات الأخيرة من حياته: «فتحت تجربة الحب الأخيرة الباب على علامات استفهام مزعجة: ماذا فعلت لأستحق كل هذا؟ سؤال استدعيته من عنوان فيلم بديع لبيدرو ألمودوبار)».
- متكآت متنوعة
في هذا الجو تتسلل قصائد ومشاهد السينما، وفلسفة جوته وأرسطو داخل عقل «نديم»، لكنه في ظلالها يستعيد طرفاً من أطراف الحكاية وملمسها، موظفاً تلك المتكآت الفنية والأدبية في إعادة تفكيكه لتلك الحكاية وبنائها من جديد، وفق سياق أوسع من حكايات الحب ونهاياتها.
تستلب «حبيبة» بروحها الريفية الحسناء «المناكفة»، البطل تدريجياً، ويجدد ظهورها العفوي المشاكس الأمل في أن يتجاوز ندوب حبه الأول لـ«يمنى»، الكاتبة الحاذقة، التي امتد حبه لها لسنوات مرهونة بالوصال المتقطع، والمُحبِط، لكن البطل يجد نفسه يتداعى تحت مظلة الأمل تلك، ويعود أدراجه الأولى مع الفشل، وتصبح حكاية «حبيبة» مفردة في ميراث الأسى الذي تركه الحب لديه.
عبر الكتابة يحاول «نديم» أن يتخفف من عبء حكايته مع «حبيبة» وأصداء ذكرياتها، لكنه يفقد بوصلته هذه المرة رغم كونه كاتباً محترفاً، فالكتابة عن الألم الذاتي ثقيلة، فما جدوى الكتابة عن قصص الحب الفاشلة، كما يتساءل؟ ثم سرعان ما يجد نفسه في صراع بين صوت ذاته وذاكرته من جهة، ومراوغات السرد والفن من جهة أخرى: «لا تتجاهل ما يؤلمك، قُل كل شيء، أعرف أن كتابة الألم أصعب كتابة، ولكن نصاً عن الحب هو نص يجب أن يتأمل الحب أيضاً».
- نزق سوريالي
يتقاطع السرد على لسان «نديم»، ورسائل الحب، وإحباطات التواصل على «واتساب»، وجدار الفضاء الأزرق، جميعها تحمل وجوه الحكاية، وتجعل القارئ يشارك البطل انكساراته، وتساؤلاته التائهة بين ماضِ وحاضر: من أين يبدأ الكتابة؟
تحت وطأة السؤال تتنقل لغة السرد بين «ضمير المتكلم» الذي يعكس أجواء تلك الحالة المُتشظية داخل البطل، كما يبرز صوت العقل كراوٍ قابع في داخله، يغلب على نبرته طابع التأنيب والتوبيخ لصاحبه في تحريض مباشر له على الكتابة والتحرر من قيود ألمه، فيما يشبه المونولوج الداخلي الصاخب، ويعود السرد للسان الراوي العليم في المقاطع التي يكتب فيها نديم روايته، عاكساً فكرة تحرر الحكاية أخيراً من قبضة عقل صاحبه وذاكرته.
وبنزق سوريالي محض تظهر شخصية «كيوبيد» الأسطورية ورموزها المرتبطة بسهام الحُب وألاعيبه، ليلعب في السرد دوراً مراوغاً يبدو وكأنه يريد أن يُحكم سطوته على سيناريوهات الحب التي يضعها «نديم»، لتحريرها من رتابة الواقع «كان كيوبيد يُحلق في السماء مبتسماً، لأن الحكاية بأكملها قد رُويت بشكل خاطئ المنحاز لقوة السحر باعتباره يلعب دوراً خفياً وجذاباً في علاقات الحب، بعيداً عن قوانين أو معايير العقل».
وهو ما يجعل ساحة الرواية تبدو وكأنها انقسمت إلى أصوات وضمائر ومعادلات كالتي يفرضها صوت «كيوبيد» السحري، ليصبح هم البطل منصباً على البحث عن خيط بداية الحكاية، والتوصل لصوت خاص يقوده للكتابة أقرب لحالة المُخاض العسرة التي تتبعها ولادة يسيرة: «يعرف صاحبنا الآن أنه لن يعود أبداً مثلما كان من قبل، ولكنه يعرف أيضاً أنه سيكتب أخيراً حكاية عن الحب والفن والواقع، وأنه ليس مطالباً بفك ألغاز قديمة، ولكنه مطالب فقط بأن يضع النبيذ القديم في إناء جديد».
وهكذا، رغم أرضية الأمل واليأس المشتركة لحكايتي «حبيبة» و«يمنى» في حياة البطل الشخصية، إلا أنه يسعى لتخليص حكايتهما من غلافهما الواقعي، وإعادة تأملهما بعين روائية، وإخضاعهما لقانون السرد، وإعادة النظر لهما كشخصيتين فنيتين، محاولاً إيجاد عزاء في الفن على فشل النسخة الواقعية من الحكاية، وإن كان يؤمن بأن لا شيء يُعوض الحب، لكن يظل سحر الكتابة والفن يستحقان المعاناة مثل الحب: «ربما لأنهما يجعلان حكايات الحب أطول عمراً، ولو على الورق».