تونس: أي دور للمؤسسة العسكرية في «الجمهورية الثالثة»؟

وسط ترحيب واسع بخطوة سعيّد... والتشديد على الفصل بين السلطات ومدنية الدولة

تونس: أي دور للمؤسسة العسكرية في «الجمهورية الثالثة»؟
TT

تونس: أي دور للمؤسسة العسكرية في «الجمهورية الثالثة»؟

تونس: أي دور للمؤسسة العسكرية في «الجمهورية الثالثة»؟

بعد عقود من إبعاد القيادات العسكرية عن مؤسسات صنع القرار السياسي في تونس، ضاعف الرئيس قيس سعيّد دور المؤسسة العسكرية الأمني والسياسي والاجتماعي. وانحازت قيادة الجيش إلى الرئيس سعيّد في معركته مع معارضيه وخصومه داخل الحكومة والبرلمان و«اللوبيات» السياسية والمالية، فدعمت قراره بإسقاط حكومة هشام المشّيشي وتجميد البرلمان.
وعلى الرغم من الانتقادات الحادة التي كان سياسيون وحقوقيون من عدة تيارات يوجهونها للرئيس سعيّد بسبب ما سموه «إقحام المؤسستين العسكرية والأمنية في خلافات السياسيين»، نجح الرئيس في الحصول على دعم قيادة الجيش للقرارات السياسية غير المسبوقة التي اتخذها يوم 25 يوليو (تموز) والتي وصفها خصومه ومعارضوه بأنها «انقلاب». ومن ثم، يتساءل المتابعون الآن الدور المتوقع للمؤسسة العسكرية في المرحلة المقبلة من تاريخ تونس، بعدما أطلق بعض الخبراء عليها تسمية «الجمهورية الثالثة» إيذاناً بطي صفحة «الجمهورية الثانية» ومرحلة حكام ما بعد «ثورة 2011».
خلافاً للتوقعات وللتصريحات القديمة المعارضة لإشراك قيادات الجيش في الحياة السياسية بتونس، تعاقبت خلال الأيام تصريحات التنويه بدعم المؤسسة العسكرية للرئيس قيس سعيّد وقراراته التي تهدف إلى «تصحيح مسار الثورة».
بل إن غالبية الأحزاب والمنظمات الحقوقية والنقابية، التي وصفت تلك القرارات أول الأمر بـ«الانقلاب على الدستور» و«الانقلاب على نتائج انتخابات 2019»، عدلت خطابها بسرعة، فنوّهت بالمؤسسة العسكرية وحيادية الجيش التونسي منذ تأسيسه عام 1956 عقب استقلال تونس عن فرنسا، وتشكيل الحكومة الوطنية الأولى بقيادة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة.
- مساندة علنية
ولقد تصدّر المرحبون بدعم الجيش لقرارات الرئيس قيس سعيّد، وفي مقدّمها إسقاط الحكومة وتجميد البرلمان «مؤقتاً» عددا من كبار القادة المتقاعدين للمؤسستين العسكرية والأمنية، بينهم الجنرال كمال العكروت المستشار العسكري والأمني للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وأمير اللواء محمد المؤدب المدير العام السابق للأمن العسكري وللقمارق (الجمرك)، والعميد مختار بن نصر رئيس المؤسسة الوطنية لمكافحة الإرهاب السابق، والعميد هشام المؤدب الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الداخلية... الذي عُرف بعد تقاعده بكثرة انتقاداته للرئيس سعيّد وبدفاعه عن مواقف خصومه.
كذلك رحّب عدد من وزراء حكومات الرئيسين السابقين بورقيبة وزين العابدين بن علي، وأيضاً حكومات ما بعد «ثورة 2011»، بينهم أحمد نجيب الشابي ومحسن مرزوق وسلمى اللومي، بقرارات رئيس الجمهورية وبتعاونه مع قيادات المؤسسة العسكرية، وذكّر هؤلاء بحيادها خلال انتفاضة نهاية 2010 ومطلع 2011، وإحجامها عن التورط في قمع المتظاهرين ضد حكم بن علي. وعادت وسائل الإعلام إلى نشر صور تبادل الورود والقبلات في «ثورة 2011» بين الشباب المتظاهر وعدد من الضباط العسكريين التونسيين، والتقاطهم صوراً تذكارية معهم ومع رئيس أركان الجيوش الثلاثة وقتها الجنرال رشيد عمار. وللعلم، كان عدد من كبار السياسيين والقادة العسكريين، بينهم الجنرال عمار، قد صرحوا مرارا بأن قيادة الجيش تلّقت دعوات لتسلم السلطة بعد إسقاط حكم بن علي لكنها رفضت. وما يستحق الإشارة أنه سبق للرئيسين السابقين الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي ورؤساء الحكومات المتعاقبون حمادي الجبالي وعلي العريض والمهدي جمعة والحبيب الصيد ويوسف الشاهد أن أثنوا على «حيادية الجيش» خلال الانتخابات التي نظمت في 2011 و2014 ثم في 2019.
- «الإنقاذ» و«تصحيح المسار»
ومن جهة ثانية، كان لافتاً للانتباه أن أبرز المحللين السياسيين والعسكريين في معظم وسائل الإعلام التونسية قد اصطفوا بسرعة وراء الرئيس سعيّد وقراراته ومشروعه لـ«الإنقاذ» و«تصحيح مسار الثورة» ومحاربة «الفساد المالي» وفتح تحقيق حول مصادر تمويل الأحزاب السياسية وحملاتها الانتخابية، وخاصة حزبي «حركة النهضة» (إسلامي) و«قلب تونس» (ليبرالي).
وفي السياق ذاته، نوّه العميد المتقاعد مختار بن نصر الرئيس السابق للجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب بكل الإجراءات التي اتخذها رئيس الجمهورية يوم 25 يوليو وما بعدها، بما في ذلك عزل رئيس الحكومة وعدد كبير من كبار المسؤولين في الحكومة والقيادات الأمنية والعسكرية. واعتبر بن نصر أن تلك الإجراءات يمكن تفسيرها بـ«شرعيته الانتخابية والسياسية» وصلاحياتها باعتباره رئيساً للدولة وقائداً عاماً للقوات المسلحة والمسؤول الأول عن إنقاذ البلاد. وتوقع الجنرال بن نصر «تفعيل» كل القرارات التي أصدرها الرئيس سعيّد وسط ترحيب شعبي «لأنه حافظ منذ انتخابه على اجتماعات التشاور والتنسيق مع القيادات العليا للجيش وللمؤسستين الأمنية والعسكرية». بينما اعتبر الجنرال المتقاعد كمال العكروت أن «غالبية الشعب والنخب والقيادات العسكرية والأمنية فرحت بقرارات 25 يوليو، لأنها لم تكن راضية عن التجاذبات السياسية داخل البرلمان والحكومة».
- «خريطة طريق»
في الأثناء تعاقبت الاقتراحات الصادرة عن بعض رموز المؤسستين العسكرية والأمنية، بينهم جنرالات وكوادر في «نقابات الأمنيين». ودعا بعضهم رئيس الجمهورية إلى إعلان «خريطة طريق» تضمن تطبيق قراراته التي تهدف إلى «إنقاذ البلاد من خطر المتطرفين دينياً وسياسياً»، وأن يكون من بين أولوياتها تحقيق الفصل بين السلطات وإرسال رسائل طمأنة الى الداخل والخارج، خاصة فيما يتعلّق بضمان الحريات والحقوق والمسار الديمقراطي. وكذلك إلى أن يكون رئيس الحكومة الجديد قادراً على تشكيل حكومة أزمة تدير شؤون البلاد وفق برنامج وأهداف واضحة ومدروسة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والوبائية، وسط التفشي الكبير لفيروس «كوفيد - 19» في تونس.
هذه التصريحات والمواقف تلتقي كلها مع اقتراحات مماثلة قدمها عدد من كبار الخبراء المدنيين بينهم محمد المنصف شيخ روحه، الخبير الاقتصادي والمالي الدولي ورئيس لجنة المالية في البرلمان سابقاً. إذ شدد شيخ روحه على ضرورة أن «تستفيد الحكومة المقبلة من توصيات الأكاديميين والخبراء وأوساط المال والأعمال بهدف تحقيق تنمية اقتصادية اجتماعية شاملة... تؤدي إلى تحسين موارد البلاد وفرص الادخار والاستثمار والشراكة بين المؤسسات المدنية والعسكرية في حفظ الأمن الوطني وتحسين مناخ الأعمال». وفي المقابل، حذر أمير اللواء محمد المؤدب المدير العام للأمن العسكري ولمصالح القمارق من «التسويف» ومن التلكؤ في تفعيل قرارات 25 يوليو. وحث، من ثم، الرئيس على خطوات عملية تشاركية بين العسكريين والمدنيين «للإنقاذ والإصلاح والتصحيح ووضح حد للفوضى وللصراعات بين كبار المسؤولين في الدولة».
- من «التهميش» إلى تصدّر المشهد
في سياق موازٍ، لوحظ أن جلّ بيانات المنظمات الحقوقية والنقابية والأحزاب اليسارية والليبرالية الصادرة بعد قرارات 25 يوليو طالبت بـ«احترام الصبغة المدنية للدولة والفصل بين السلطات» وفاءً للمبادئ التي نص عليها دستور الجمهورية الأولى في 1959 ثم دستور الجمهورية الثانية في 2014. إذ صدرت عن منظمات القضاء المدني والمحامين والصحافيين والعمال والفلاحين بلاغات نوّهت بخطوات قيس سعيّد الجديدة، بالتوازي مع تأكيدها على ضرورة «استئناف المؤسسات الديمقراطية» دورها في أقرب وقت، بما يعني رفع التجميد عن البرلمان والمجالس البلدية المنتخبة. وحقاً، تفاعل سعيّد مع هذه المطالب، عندما أعلن في كلمة ألقاها خلال اجتماعه بممثلي «المجتمع المدني»، وبثها الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية والتلفزيون التونسي، أنه سيحترم الصبغة المدنية للدولة، والحريات العامة والفردية، ومسار الحوار السياسي مع المعارضين من «دون إقصاء». ونفى أن يكون ما جرى يوم 25 يوليو انقلاباً.
لكن هذه المتغيرات والأحاديث عن «دور أكبر للمؤسسة العسكرية» جاءت بعد سنتين عقد خلالهما قيس سعيّد، بصفته رئيساً للدولة وقائداً عاماً للقوات المسلحة، اجتماعات بالجملة مع قيادات الجيش والأمن داخل قصر الرئاسة، وفي الثكنات وداخل مقرات وزارتي الداخلية والدفاع.
والجدير بالذكر، أن شعبية سعيّد تزايدت منذ استفحال جائحة «كوفيد - 19» نتيجة إشراكه المؤسسة العسكرية في تطعيم المواطنين في الأرياف والمناطق الفقيرة، وكذلك في إنشاء «مستشفيات عسكرية ميدانية» جديدة في معظم المحافظات بعد تلقي تونس مساعدات كبيرة وصلت إلى البلاد عبر جسور جوية وبرية وبحرية من عدة دول عربية وغربية. وهكذا نجح الرئيس في وضع حد لـ«التهميش» الذي كانت قيادات من الجيش تشكو منه إبان السنوات الـ60 الماضية، تكريسا لمقولة الحبيب بورقيبة «الجيش في ثكناته».
- نعم... ولكن
جدير بالذكر، أن الجيش التونسي نزل إلى الشوارع بكثافة منذ سقوط بن علي يوم 14 يناير (كانون الثاني) 2011. ثم تزايد دوره خلال العشرية الماضية بعد تعاقب العمليات الإرهابية في المحافظات الحدودية مع الجزائر وليبيا، ثم داخل العاصمة تونس. ولقد تسببت تلك العمليات في مضاعفة قيمة موازنة وزارتي الدفاع والداخلية 3 مرات مقارنة بموازنات ما قبل ثورة يناير 2011.
وعلى الرغم من تغيير القيادة العليا للجيش مراراً إبان العشرية الماضية، فقد نجح قادتها في لعب دور سياسي مركزي عبر مؤسستي «مجلس الأمن القومي» و«المجلس الأعلى للجيوش» اللتين تضاعف دورهما منذ وصول قيس سعيّد إلى قصر قرطاج الرئاسي بعد انتخابات 2019. ويذكر أن الجيش الوطني التونسي، الذي همش دوره السياسي في عهد الرئيسين بورقيبة (1956 - 1987) وبن علي (نهايات 1987 – يناير 2011) عاد فانخرط بقوة في السياسة الخارجية لتونس خلال السنوات القليلة الماضية عبر إحداث آليات مشتركة مع الجيش الأميركي وقوات عسكرية أوروبية دولية للتنسيق العسكري والأمني حول ملفات لبيبا والجزائر ودول الساحل والصحراء «سين صاد».
- عسكريون في عالم السياسة
وعطفاً على ما تقدم، فإن إشراك القوات المسلحة التونسية في الشأن العام برز منذ أواخر سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عندما شهدت تونس أحداثا دامية بمناسبة إضراب عام عن العمل في يناير 1978، ثم بعد مهاجمة مجموعة «كوماندوس» مدعومة من دول مجاورة جنوب تونس خلال يناير 1980 في محاولة للإطاحة بالنظام التونسي.
وفي حينه، لجأ بورقيبة إلى الجيش، وخاصة، إلى الجنرال زين العابدين بن علي، فعينه مديراً عاماً للأمن الوطني، ثم وزيراً للداخلية في أعقاب مظاهرات دامية ضمن ما سُمّي «ثورة الخبز» في أواخر 1983 ومطلع 1984.
منذ تلك الأحداث تضاعفت قيمة الإنفاق العسكري أربع مرات. وعندما قرر الجنرال بن علي والمقربون منه الإطاحة بحكم الحبيب بورقيبة في أواخر 1987، فكّروا في تعطيل العمل بالدستور وتشكيل «لجنة إنقاذ» تضم عسكريين ومدنيين، إلا أنهم سرعان ما عدلوا عن ذلك، وحافظوا على «الصبغة المدنية للدولة» و«النظام الجمهوري».
بعدها، عيّن بن علي في أول عهده بالرئاسة جنرالات في مواقع سياسية عليا، بينهم الحبيب عمار الذي عيّنه وزيراً للداخلية ثم الاتصالات. كذلك عيّن الجنرال عبد الحميد بالشيخ وزيراً للخارجية ثم سفيراً في باريس، والجنرال مصطفى بوعزيز وزيراً للعدل ثم وزيراً لأملاك الدولة.
ثم عين بن علي جنرالات من رئاسة الأركان سفراءً، وأسند لبعضهم رئاسة مؤسسات عليا في الدولة بينها شركات النقل الجوي والحديدي الحكومية. لكنه في المقابل، أبعد غالبية قيادات الجيش عن المسؤوليات السياسية منذ الإعلان عن «محاولة انقلابية» نظمتها ضده مجموعة من العسكريين والأمنيين محسوبة على «حركة النهضة» عام 1992. ولكن، على أي حال، اعتمد بن علي طوال حكمه على عسكريين كبار في بعض المهمات الاستراتيجية مثل الإدارة العامة للأمن الوطني والإدارة العامة للأمن الرئاسي اللتين تداول عليهما طوال 23 سنة الجنرال علي السرياطي.
مع هذا، شاءت الأقدار أن يتهم السرياطي، مطلع 2011، بأنه لعب دوراً مهماً في الإطاحة بحكم بن علي لأسباب عديدة من بينها الصراعات التي انفجرت داخل مؤسسات الحكم عموماً، ومنها الصراع بينه وبين قيادات الجيش في وزارة الدفاع الوطني بزعامة الجنرال رشيد عمار رئيس أركان جيش البر، والجنرال أحمد شبير رئيس المخابرات العسكرية.
- الورقة الدولية
إلا أن المتغيرات في المشهد السياسي ودور المؤسسة العسكرية في تونس من الأمور التي ستبقى رهينة عوامل كثيرة، من بينها تطورات مواقف الدول المؤثرة في القرار السياسي والعسكري في تونس، وعلى رأسها الجزائر وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا.
كذلك ستتأثر، حتماً، بطبيعة الحكومة الجديدة وشخصية رئيسها والمشرفين على وزارات الدفاع والداخلية والعدل والخارجية. ولا سيما، إذ ما كانوا سيُختارون من المدنيين والحقوقيين - مثل معظم وزراء الحكومتين السابقتين -، أم سيكون بينهم عدد من الضباط العسكريين والأمنيين.
وفي هذه الحالة، وتلك، ستتأثر مشاورات تشكيل الحكومة المقبلة والمواقف من دور المؤسسة العسكرية بنتيجة مشاورات «الكواليس» بحثاً عن اتفاق سياسي يضمن استئناف البرلمان والمجالس البلدية وكل المؤسسات المنتخبة لمهامها، في ظرف شهر أو اثنين. وهذا أمر حيوي كي لا تتدهور الأوضاع الأمنية فيها خلال مرحلة زمنية تتعثر فيها مسارات التسوية السلمية لأزمة ليبيا لأسباب عديدة من بينها «لعبة المحاور الإقليمية والدولية».
- الجيش التونسي اقتحم تجربة التصنيع الحربي
> طوّر الجيش التونسي بعد ثورة 2011 قدراته العلمية واللوجيستية وخبرته في التصنيع والحرب بالشراكة مع جيوش عدد من دول الحلف الأطلسي «ناتو»، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وتركيا. ولقد زار الرئيس قيس سعيّد يرافقه وزير الدفاع وكوادر عسكرية مؤسسة نجحت في إنتاج آليات عسكرية متوسطة بقدرات وطنية. وكشفت مصادر من وزارة الدفاع الوطني التونسي، خلال جلسة استماع سابقة أمام لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح في البرلمان، أن «القوات العسكرية التونسية، نجحت في صناعة عربة عسكرية، تخطت مختلف التجارب».
أيضاً، كشف وزير الدفاع المعزول مؤخرا عن أن «القوات التونسية، دخلت أيضاً مجال التصنيع البحري وصنعت ثلاث قطع بحرية، وأصبح بالإمكان تجهيزها بالأسلحة ووسائل الاستطلاع والاستعلام، وذلك في إطار شراكة بين وزارة الدفاع والقطاع الخاص». وأضاف قائلاً إن «وزارة الدفاع تنوي المضي قدماً في هذا المجال بتصنيع وحدات بحرية أخرى».
هذا، وجاء خوض المؤسسة العسكرية مغامرة التصنيع العسكري بهدف «الضغط على الكلفة»، حيث تشير الإحصاءات إلى توفير مبالغ مالية كبيرة، وخلق فرص عمل للشباب ومن بينهم أصحاب الشهادات العليا في اختصاصات عدة، وتثمين التكوين العسكري، الذي يتلقاه الضباط في الداخل والخارج، واكتساب الخبرة في مجال التصنيع العسكري في مختلف وحدات الجيش. حسب وزير الدفاع السابق.
وخلال مايو (أيار) 2015 كانت قد نُظمت تظاهرة وطنية عُرضت فيها معدات صنعتها كفاءات تونسية، من بينها طائرة من دون طيار جُربت لأول مرة في عام 2013. ويبلغ طول هذه الطائرة ثلاثة أمتار، ووزنها 45 كيلوغراماً، وهي قادرة على بلوغ ارتفاع يصل إلى 2500 متر، وكما تصل مدة تحليقها إلى ثلاث ساعات.
أيضاً، عُرضت عينات أخرى من أجهزة تشغيل وتحطيم الألغام، وكُشف الستار عن رجل آلي مسلح مختص في القتال والتمشيط والاستطلاع وكشف الألغام، بالإضافة إلى منظومة لمتابعة التشكيلات العسكرية على الميدان في المهمات العملياتية، ورادار لكشف التحركات وأجهزة لاسلكية. وكل هذه مشاريع رائدة من شأنها أن تعزز قدرات الجيش التونسي على مجابهة مختلف التحديات الداخلية والإقليمية.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.