شاشة الناقد

جسر بين حضارات

راسل كراو وأولغا كرويلنكو في «معمّـد الماء» Water Diviner
راسل كراو وأولغا كرويلنكو في «معمّـد الماء» Water Diviner
TT

شاشة الناقد

راسل كراو وأولغا كرويلنكو في «معمّـد الماء» Water Diviner
راسل كراو وأولغا كرويلنكو في «معمّـد الماء» Water Diviner

الفيلم: The Water Diviner
إخراج: راسل كراو
النوع: دراما اجتماعية | أستراليا/ تركيا.
تقييم الناقد:(3*)(من خمسة)
«معمّد الماء» دراما تاريخية اجتماعية مع معالجة عاطفية ذات بعد إنساني يقدم عليها الممثل راسل كراو، كأول فيلم طويل من إخراجه بعدما كان حقق عددًا قليلاً من الأفلام القصيرة.
سيناريو مكتوب مباشرة إلى السينما من قِبل أندرو نايت وأندرو أناستاسيوس. كلاهما أستراليان والأول امتهن الإنتاج قليلاً بينما كتب الثاني للتلفزيون الأسترالي أكثر مما كتب للسينما. المادّة التي يوفرانها لهذا الفيلم شاسعة في جغرافيّتها كما في طموحاتها، وراسل مخرج ينجز معظم تلك الطموحات، وإن كانت يده ما زالت بحاجة إلى مران عندما يصل الأمر إلى استحواذ الفرص العاطفية المتاحة كما إلى معالجة مزدوجة ما بين الحاضر والماضي.
نتعرّف عليه لاعبًا دور رجل اسمه كونور، في مطلع الفيلم وهو يبحث عن مكان يحفر فيه ليستخرج الماء من تلك الصحراء المتمادية في الجنوب الأسترالي. هذا كان في العشرية الثانية من القرن الماضي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. طريقته في البحث لم تكن علمية، لكنه عادة ما تصيب. يتوقف عند نقطة محددة ويطلب من كلبه الانتظار ثم يحفر ويثبت القوائم الخشبية داخل الحفرة، وينفجر الماء وقد وصل كونور إليه.
لكن زوجة كونور نتاليا (إيزابل لوكاس) لا تعترف بأهمية ما قام به زوجها. تنبهنا إلى أصل مأساتهما عندما تقول له وهو يتعشّى: «أنت ماهر في البحث عن الماء، لِمَ لا تبحث عن أولادك؟». تصدمه. في المشهد التالي. تصدمه مرّة ثانية: لقد انتحرت.
يمضي كونور لينفّذ وصيتها. لقد انقطعت أخبار أولاده الثلاثة الذين زجّت بهم أستراليا في معركة غاليبولي في تركيا عام 1915. يختار كراو اللجوء إلى مشاهد «فلاشباك» ليقدم نتفًا من حكايتهم. هنا يفقد الفيلم بوصلته قليلاً. الفلاشباك حل مناسب للذاكرة، لكنه ليس حلاً سينمائيًا لحدث مروي من محور شخص لم يشهد ما يعمد الفيلم إلى إظهاره من أحداث ماضية.
يحط كونور في إسطنبول عام 1919، وهناك شغل رائع في تصميم الأمكنة وتفاصيلها من مصمم الإنتاج كريس كندي وتصوير جيّد من أندرو لسني. من المرفأ إلى فندق تديره أرملة اسمها عائشة (الأوكرانية أولغا كوريلنكو) لديها ولد صغير. لا يقع كونور وعائشة في الحب بقدر ما يتواصلان ضمن الهم الإنساني واكتشاف كل منهما لثقافة الآخر. كونور يريد أن يذهب إلى الموقع الذي دارت فيه معركة غاليبولي حيث مات أولاده وهو واثق من أنه سيجد المكان الذي دفنوا فيه كما يجد الماء: بالحدس وحده. دون ذلك عقبات ومشكلات وخط أحداث مواز (ومهم) بطله الجنرال التركي حسن (يلماز إردوغان الذي لفت الأنظار بحسن تمثيله في فيلم نوري بيلج شيلان «حدث ذات مرّة في أناضوليا»). البحث يقود إلى مغامرة عندما يوسع الفيلم إطار أحداثه ليشمل علاقة تركيا ببريطانيا من ناحية والحرب غير المعلنة رسميًا مع الميليشيات اليونانية.
«معمّد الماء» ليس فقط دراما في زمن الحرب وبعده، بل رغبة إنسانية للتواصل بين الثقافات والأديان. كونور المسيحي يكتشف كثيرا عن الإسلام وكراو يحسن تقديم صورته في فيلمه. هناك مشهد لدخول كونور/ كراو أحد مساجد إسطنبول العريقة تلحظ رقرقة الدمع في عينيه. ثم هناك المواقف التي تعكس تعاطفه مع الأتراك في حربهم وليس مع الغرب في حربه ضدّهم.



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).