فرانز بواس أزاح تأويل الاختلافات البشرية من علم الأحياء إلى حقل الثقافة

كان يؤمن بوجود «ثقافات بشرية متعددة والإنسان واحد»

فرانز بواس - غلاف الكتاب
فرانز بواس - غلاف الكتاب
TT

فرانز بواس أزاح تأويل الاختلافات البشرية من علم الأحياء إلى حقل الثقافة

فرانز بواس - غلاف الكتاب
فرانز بواس - غلاف الكتاب

ثمّة فكرة (أراني متفقة معها تماماً) سائدة في أوساط الإنتلجنسيا العالمية مفادها بأن مبحث الأنثروبولوجيا الثقافية (أو الاجتماعية؛ إذ لا فرق) هو الأصل الذي يمكن منه اشتقاق كل المباحث السائدة في الإنسانيات (أدب - شعر - تاريخ - جغرافيا - علم اجتماع - سياسة، اقتصاد... إلخ). الاشتقاق هنا بمعنى أن الأصول الأولى للمبحث المقصود في الإنسانيات يمكن معاينة بداية نشأتها بتوجيه البؤرة البحثية نحو موضوعة محددة في الأنثروبولوجيا الثقافية. وعليه؛ فإن الإحاطة ببدايات نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ستكون شرطاً لازماً لكل المشتغلين في حقل الإنسانيات، وفي الوقت ذاته لكل الشغوفين بمباحث الأنثروبولوجيا والثقافة.
يتناول تشارلز كينغ (Charles King) نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية والشخوص المؤسسين لها في كتابه الذي اختصّه بعنوان: «آلهة المثابات العليا (Gods of the Upper Air)» الذي نشرته دار نشر «Doubleday» عام 2019. ويعمل كينغ أستاذاً للشؤون الدولية في جامعة جورج تاون الأميركية، وهو مؤلف العديد من الكتب التي تناولت أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق.
الكتاب في جوهره تجميعة لرؤى كتّاب متعدّدين بشأن سيرة «فرانز بواس Franz Boas (1858 – 1942))» الذي وضع الأسس الراسخة للأنثروبولوجيا الثقافية - بوصفها حقلاً أكاديمياً له أصوله القائمة - في الولايات المتحدة، فضلاً عن سيرة أربعة من تلاميذ بواس: روث بينيدِكت Ruth Benedict، وزورا نيل هرستون Zora Neale Hurston، وإيلّا كارا ديلوريا Ella Cara Deloria، ومارغريت ميد Margaret Mead. يجادل كينغ في كتابه هذا بأنّ هذه الشخصيات الثقافية كانت تعمل «في الجبهات المتقدّمة للحرب الأخلاقية العظمى في زماننا، والمقصود بهذه الحرب هو سيادة مفهوم أنّ الإنسانية كينونة واحدة لا تقبل التجزئة بصرف النظر عن الاختلافات السائدة في لون البشرة، والجندر، والقدرات الجسدية والعقلية، والعادات الثقافية والمعيشية».
يرى كينغ أنّ الأنثروبولوجيين الثقافيين استطاعوا تغيير توجّهات الناس مثلما استطاعوا تعديل سلوكياتهم، وهو يكتب في هذا الشأن:
«لو أنّ الأمر صار في عداد البداهة المقبولة من غير مساءلة في أن يقرأ طالب جامعي كتاب الـ(باغافاد غيتا Bhagavad Gita) في برنامج دراسي جامعي يتناول الكلاسيكيات الكبرى في العالم، وأن يتمّ رفض العنصرية واعتبارها إفلاساً أخلاقياً وغباوة يمكن كشفها ذاتياً، وأن يتمّ تعزيز القدرات الفردية في أماكن العمل بعيداً عن الاعتبارات الجندرية والعرقية، فهذه كلها - مع أمور أخرى سواها - لم تكن نتاجاً لتطلعات طموحة لتنظيم المجتمع، وصارت اليوم أموراً بديهية بقدر ما كانت نتائج طبيعية لأفكار بطولية قادها بواس وتلامذته؛ لذا علينا جميعاً إبداء آيات الشكر والتقدير له ولمُريديه الخُلّص».
إنّ العمل المتفرّد لبواس ومُريديه يكمن في أنهم أزاحوا تأويل الاختلافات البشرية من حقل البيولوجيا (علم الأحياء) إلى حقل الثقافة.
وُلد بواس وتعلّم في بروسيا Prussia، ثمّ هاجر إلى الولايات المتّحدة عام 1886 عندما كان في الثامنة والعشرين، وبعد عقد من الزمن وعقب محاولات كثيرة لم تُصِب نجاحاً يذكر تمكّن بواس من أن يشغل موقع أستاذ جامعي (بروفسور) للأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا، وقد كان هناك عُرضة لحروب عديدة شغلت سنوات ليست بالقليلة، وكان أحد أسباب تلك الحروب - في الأقلّ - معاضدته سياسات الأجنحة اليسارية.
تمكّن بواس، بشكل من الأشكال، من تدريب جيل كامل من الأساتذة المتميزين في حقل بحثي كان حتى أعقاب الحرب العالمية الثانية تخصصاً أكاديمياً في نطاقات ضيقة. كان بواس كاتباً ذا قدرة مهولة على الكتابة، وهو بهذا يشابه اثنين من البروفسورات المؤثرين المعاصرين له: جون ديوي John Dewey، وثورشتاين فبلن Thorstein Veblen؛ لكنه يتمايز عنهما في أنه لم يسمح للخوف بأن يتسلل إلى روحه، فضلاً عن امتلاكه طاقة عجيبة على العمل وشخصية كاريزمية ساحرة.
ثمة مأثورة تتردّد في الأوساط الأكاديمية جوهرها أنّ مهنة الأستاذ الجامعي ليست سوى حواشٍ تدور في مدار أطروحته الأكاديمية، وهذا أمرٌ يصدق على حالة بواس بشكل أو آخر. كان بواس باحثاً تجريبياً اعتاد جمع البيانات وتدقيقها بحثاً عن الخروج بنموذج شامل يجمعها، ولم يكن يرى في نفسه ميلاً نحو التخمينات النظرية؛ لكنه، رغم هذه الخصيصة المتأصلة في نفسه، آمن دوماً بأنّ الحقيقة الجوهرية بشأن الكائنات البشرية تكمن في أنّ كلّ الحقائق المعروفة عنهم تتغير لأنّ الظروف التي يعيشونها تتغير هي الأخرى. رأى بواس أنّ حيواتنا قد تكون محكومة بطائفة من المؤثرات: الجينات، والبيئة، والثقافة؛ لكنّ هذه المؤثرات ليست محدّدة بصورة مسبّقة.
لم تكن مكتشفات بواس مما يرغب في سماعه العلماء والسياسيون البيض عام 1911. شهد بواس في حياته تشريع قانون «جم كرو Jim Crow» الذي أشاع قبولاً واسع النطاق بالداروينية الاجتماعية وعلم تحسين السلالات البشرية (Eugenics)، والتوسّع الاستعماري (بما فيه الاحتلال الأميركي للفلبين)، والتقييدات القاسية للهجرة إلى الولايات المتحدة، وتنامي حركة الـ«كوكلاكس كلان (Ku Klux Klan)» العنصرية، وصعود سلطة أدولف هتلر. كان العلم حتى ذلك الوقت يُعامل على أنه المسوّغ المقبول للاستعمار الكولونيالي، والفصل العنصري، والتمييز العرقي، والنبذ السكّاني، والتعقيم القسري. كرّس بواس حياته لكي يثبت للناس أنّ العلم الذي كانوا يعتمدونه في تسويغ ممارساتهم السابقة إنما كان علماً سيئاً. «آمن بواس بأن العالم ينبغي أن يكون آمناً يتسع لكل الاختلافات البشرية»؛ هذا ما كتبته روث بينيدكت عقب وفاته.
إذا كانت الاختلافات البيولوجية لا تصلحُ مسوّغاً لتلك الطائفة الواسعة من الممارسات والأدوار المتباينة السائدة بين المجموعات البشرية، والتي نلاحظها في العالم، فينبغي حينئذ توقّع وجود أمر آخر يفعل فعله. فكّر بواس في وجود مجموعة من المؤثرات الأخرى، وأحدُ تلك المؤثرات هو «الثقافة Culture».
تحتاجُ مفردة الثقافة هنا شيئاً من إعادة تعريف: كانت مفردة الثقافة في القرن التاسع عشر تُعامَلُ بشكل عام كأنها أقربُ إلى حيازة شيء ما. كانت شيئاً تكتسبه المجتمعات في سياق عملية تطورها المستديم، وهي بهذا تُعدُّ طوراً في عملية نمو الحضارة المدنية. كان بواس من الشخصيات التي أشاعت بيننا التعريف الإجرائي للثقافة عندما نتحدث عن الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي؛ بمعنى أنّ الثقافة تعني طريقة محدّدة في الحياة. كانت إحدى المساهمات الكبرى لبواس في هذا الشأن هي أن يُرينا الكيفية التي حازت بها المجتمعات ما قبل الحديثة (البدائية Primitive كما تسمّى في الأدبيات الأنثروبولوجية) ثقافاتٍ بالطريقة ذاتها التي تحوز بها المجتمعات الحديثة ثقافاتٍ خاصة بها.
انتهى بواس إلى حصيلة استنتاجية مفادُها بوجود ثقافات بشرية عدّة بدلاً من واحدة، وابتدأ منذ ذلك الحين الإشارة إلى «ثقافات» بصيغة الجمع، بدلاً من ثقافة جامعة واحدة. كان بواس مهتماً بـ«علم الأجناس البشرية Ethnography»، وكان مسكوناً بقناعة راسخة أنّ عمل المختصّ بعلم الأجناس البشرية إنما هو في حقيقته دراسة للأنماط الثقافية السائدة في أي مجموعة بشرية قيد الدراسة: أن نفهم - على سبيل المثال فحسب - من داخل الجماعة البشرية ما الذي تعنيه الذكورة أو الأنوثة، وما الذي يعنيه منحك هدية لأحد ما أو قبولك لها، وما الذي يعنيه دفن جثة ميت. كان على المختص بعلم الأجناس البشرية، كما يرى بواس، أن يفهم الطبيعة الدلالية الدقيقة للمُزحات السائدة في جماعة بشرية ما، وهذا يعني أن يترك المرء مواضعاته الثقافية بعيداً عنه. «الثقافات متعددة، والإنسان واحد»؛ هذا ما كتبته إيلّا ديلوريا في ملاحظاتها على واحدة من محاضرات بواس.
«أفضلُ طلابي نسوة»؛ هذا ما أسرّه بواس لصديق أنثروبولوجي له عام 1920. لم تكن «كلية كولومبيا» حينئذ تقبل النساء فيها (كانت كولومبيا آخر جامعة بين جامعات النخبة (Ivy) الأميركية تقبل بالتعليم المختلط عام 1983!)؛ لكنّ «مدرسة الدراسات العليا» و«كلية المعلّمين» كانتا تقبلان النساء. كان بواس يدرّسُ في «كلية برنارد»، وكانت على الجهة الثانية من الشارع والمقابلة لـ«كلية كولومبيا» (أصبحت جامعة فيما بعد).
لن يخفى على القارئ الشغوف ملاحظة أنّ هذا الكتاب يكشف عن كثير من التفاصيل المثيرة رغم أنها تتناول موضوعة محدّدة في الأنثروبولوجيا الثقافية، ومن هذه التفاصيل الكثيرة مثلاً:
- شكل التعليم الجامعي الأميركي في بدايات القرن العشرين، والتمايز الجندري فيه.
- الخصائص التقدّمية التي سادت الأنثروبولوجيا الأميركية بالمقارنة مع الخصائص المحافظة (الأقرب إلى الروح الاستعمارية) التي طبعت الأنثروبولوجيا الأوروبية.
- الأب المؤسس لحقل الأنثروبولوجيا الثقافية هو فرانز بواس. تلك حقيقة مؤكدة؛ لكن رغم ذلك؛ فإن الشخصيات الأربع الأكثر تميزاً بين تلامذته كنّ من النساء اللاتي لعبن دوراً متفرّداً في هذا الحقل البحثي وأنجزن أعمالاً متميّزة فيه، خصوصاً مارغريت ميد التي صارت شخصية أيقونية في الثقافة الأميركية.


مقالات ذات صلة

ملتقى دولي في الرياض يعزز التبادل الفكري بين قراء العالم

يوميات الشرق يجمع «ملتقى لقراءة» محبي أندية القراءة والمهتمين بها لتعزيز العادات والممارسات القرائية (هيئة المكتبات)

ملتقى دولي في الرياض يعزز التبادل الفكري بين قراء العالم

تنظم هيئة المكتبات «ملتقى القراءة الدولي» الهادف لتعزيز العادات القرائية، من 19 إلى 21 ديسمبر (كانون الأول) بقاعة المؤتمرات في «مركز الملك عبد الله المالي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.