«الموسيقى العربية»... من نمطية التطريب التقليدية إلى فضاء الحداثة

كتاب يتناول محطات مهمة في تاريخها وأبرز من أسهم في تطويرها

«الموسيقى العربية»... من نمطية التطريب التقليدية إلى فضاء الحداثة
TT

«الموسيقى العربية»... من نمطية التطريب التقليدية إلى فضاء الحداثة

«الموسيقى العربية»... من نمطية التطريب التقليدية إلى فضاء الحداثة

كان يوسف جريس من أوائل الرواد الذين طوّروا الموسيقى العربية فقدم لوناً جديداً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراث العالمي
يتناول الباحث د. إيهاب صبري أبرز محطات رحلة الموسيقى العربية في تحررها من أجواء التطريب التقليدية على الطريقة التركية إلى فضاء التجديد والحداثة عبر كتابه «الموسيقى بين الفن والفكر»، كما يتوقف عند عدد من صناع تلك الرحلة ودورهم في مزج القوالب الغربية بنظيرتها العربية، وكيف أسهم كل ذلك في التعبير عن متغيرات الحياة الحديثة.
الكتاب صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويستهله المؤلف بتناول دور الموسيقى في صناعة الحضارات والتقدم، لافتاً إلى أنها استطاعت أن تتخطى حواجز اللغة والأنماط السائدة لتعزيز التفاهم بين الشعوب وتحقيق الحوار الثقافي بين الحضارات.

- سيد درويش
ويرصد المؤلف بدايات تحرر الموسيقى العربية من الرتابة والتطريب التقليدي على الطريقة التركية العثمانلية و«أمان يالا لي» و«يا عين يا ليل» إلى الحداثة والتعبيرية، مشيراً في هذا السياق إلى الموسيقار سيد درويش (1892 – 1923) ودوره الكبير في تطوير الموسيقى لتصبح صورة صادقة لتصوير ما يجيش في صدور الملايين من أفراد الشعب. وطوّر أيضاً الموشّح والدور والمسرحيات الغنائية والأغاني الحماسية بشكل يجعل من الصعب القول بأن كل هذا التأثير ينبع من رجل واحد، بل يمكن القول إنه حرّر الموسيقى العربية من الالتزام بالنماذج القديمة التقليدية وتجاوب مع البيئة المصرية الصميمة فعبّر عنها في ألحانه عبر مسرحياته الغنائية. وعندما انتفض الشعب المصري مطالباً بالاستقلال كانت تلك الأعمال خير معبِّر عن أماني الأمة، بالإضافة إلى أنه قد لحّن بعض الأناشيد الوطنية استجابةً إلى رغبات القوى السياسية. ومن أشهر أغانيه نشيد «قوم يا مصري» من كلمات الشاعر بديع خيري، وقد لحّنه درويش في وقت كان الشعب المصري يكافح في سبيل استقلاله من الاحتلال الإنجليزي.

- جريس وخيرت
ويضرب المؤلف المثل كذلك بيوسف جريس (1899 – 1961) كنموذج للمؤلف الموسيقي المصري الذي يعد من الرواد الأوائل للموسيقى العربية المتطورة من خلال تزاوجها بنظيرتها الأوروبية الجادة لتقديم لون جديد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراث العالمي وفي نفس الوقت يظل طابعه العربي واضح المعالم والقسمات. ويذكر المؤلف أن جريس نجح في تقديم هذا اللون المتطور وشمل إنتاجه سيمفونيتين وأربع قصائد سيمفونية ومقطوعات عديدة للآلات المختلفة. ومن أهم مؤلفاته «ثلاث صور موسيقية» على النحو التالي: الصورة الأولى بعنوان «تمهيد» وكتبها جريس في عام 1944 وتبدأ باستهلال تؤديه آلة الفلوت في أسلوب غنائي يُبرز عطر الشرق وسحره. أما الصورة الثانية فعنوانها «البدوي» وهي صورة معبّرة عن شخصية البدوي وكتبها 1931 في أول الأمر للفيولينة المفردة ثم أعاد كتابتها للأوركسترا 1934، وخلال هذه الصورة يعرض لنا جريس صورة موسيقية للصحراء والبيئة البدوية وتبرز خلالها الإيقاعات العربية الراقصة. وتأتي الصورة الثالثة والأخيرة بعنوان «الفلاحة» حيث يستهلها بأداء منفرد من آلة التشيللو، ويلاحظ خلال هذه الصورة الموسيقية التوزان الكامل بين الأوركسترا وتلك الآلة كما يلاحظ تتابع الأوزان الثلاثية والثنائية حين يعبر المؤلف عن الريف وما فيه من سحر وجمال.
ويشير المؤلف إلى أن وجود ودعم أوركسترا الإذاعة المصرية كان له أثره الكبير في الحياة الموسيقية ليس في مصر فحسب ولكن في العالم العربي بصفة عامة، فقد كانت هذه الأوركسترا بمثابة النافذة الوحيدة التي يطلّ من خلالها المؤلفون العرب على الأنماط الموسيقية العربية في أساليب وقوالب لم تكن معروفة من قبل. من هنا أصبحت لدينا السيمفونية والكونشرتو والقصيد السيمفوني والمتتابعة الموسيقية والرابسودي وغيرها من القوالب البنائية التي لم تعد مقتصرة فقط على الموسيقى الأوروبية بل أصبحت تتصل كذلك بنظيرتها العربية.
ويذكر صبري أن المؤلف الموسيقي أبو بكر خيرت (1910 – 1963) استغل وجود هذه الأوركسترا الكبيرة وكتب أول أعماله السيمفونية وهي السيمفونية رقم (1) من مقام «فا» صغير وأطلق عليها اسم «سيمفونية الثورة» لكنه لم يقدمها في الحفلات العامة حيث كان النشاط الفني في ذلك الوقت مقتصراً على الإذاعة سواء البرنامج العام أو بالإذاعة الأوروبية المحلية. ويعد خيرت أول من وضع الموسيقى العربية في إطار سيمفوني، وأول من استخدم الألحان الشعبية المصرية في مؤلفات أوركسترالية.
ويوضح أن البدايات الأولى لخيرت ترتبط أشد الارتباط بالأسلوب الكلاسيكي في حركات السيمفونية الأربع التي تُستهل بحركة سريعة تليها حركة بطيئة ثم حركة ثالثة سريعة، ويُختتم العمل كالعادة بحركة سريعة. وتتميز هذه السيمفونية باللغة الهارمونية البسيطة إلى حد ما، فلم يعتمد خيرت على استخدام المتنافرات وتمسّك بالهارمونية الكلاسيكية، كذلك فهو يكتب للأوركسترا بأسلوب المجموعات طبقاً للنمط المعهود في موسيقى هايدن وموتسارت.

- الشوان وجرانة
ويذكر المؤلف أن مسرحية «عنترة» لأمير الشعراء أحمد شوقي (1868 – 1932) والتي تعد من أشهر أعمال مسرحه الشعري، لا يعرف كثيرون أنها كانت مصدر وحي وإلهام للمؤلف الموسيقي عزيز الشوان (1916 – 1993) حين استوحى «أوبرا عنترة» من هذه المسرحية. ورغم أن الشوان قد لحّن الأوبرا منذ مدة طويلة فإنه لم يقدم منها سوى الافتتاحية الموسيقية التي اعتمد في صياغتها على عدة ألحان مختارة من ألحان الأوبرا نفسها أعاد مزجها وتوظيفها ببراعة.
للشوان أيضاً «أوبرا أنس الوجود» التي كتب النص الشعري لها سلامة العباسي، مستوحياً شخصياتها وأحداثها من أجواء «ألف ليلة وليلة». عُرضت الأوبرا لأول مرة -على شكل كونسير موسيقي- على مسرح أوبرا القاهرة في يوليو (تموز) 1994 بقيادة المايسترو يوسف السيسي. أما حلم الشوان بتقديمها كعرض مسرحي متكامل فلم يتحقق إلا بعد مرور سنوات على رحيله لتكون أول محاولة لتقديم أوبرا عربية متكاملة العناصر فكراً وألحاناً وتقنية.
ويتوقف المؤلف عند تجربة محمد رفعت جرانة (1929 – 2017) والذي اشتهر بتوثيقه للأحداث الوطنية في مصر والعالم العربي عبر المؤلفات الموسيقية. ومن بين أعماله في هذا المجال «سيمفونية 23 يوليو» وهي تسجل أحداث تلك الثورة التي أسهمت في تغيير الحياة السياسية في الشرق الأوسط، والقصيد السيمفوني «بورسعيد» الذي يسجل من خلاله بطولات المدينة الباسلة خلال العدوان الثلاثي والقصيد السيمفوني «السادس من أكتوبر» والذي سجل فيه المؤلف وقائع أول انتصار عربي على إسرائيل، ورغم الطابع التصويري لسيمفونية الثالث والعشرين من يوليو فقد تمسك المؤلف بأسس الصياغة الموسيقية الكلاسيكية وصاغ الحركة الأولى كالعادة من نموذج الحركة السريعة للسوناتا التي تعبّر عن الثورة على الاستعمار. أما الحركة الثانية البطيئة فتجسد خروج الجيش البريطاني المستعمر من أرض مصر، يلي ذلك الحركة الثالثة وهي مصوغة من نموذج «السكرتسو»، وهي تفيض بالمرح، حيث تعبّر عن فرحة الشعب بالحرية وبالثورة. وأخيراً نصل إلى الحركة الرابعة والأخيرة وهي مصاغة من نموذج «الروند» حيث ترمز إلى القضاء الذي لا رجعة فيه على الاستعمار والإقطاع وانتصار الشعب.
ويذكر المؤلف أن أسلوب جرانة الموسيقي اتسم بالوضوح والتركيز، فخطوطه اللحنية تتابع في تسلسل منطقي ولغته الهارمونية تقدم مساندة فعّالة للخطوط اللحنية دون محاولة من المؤلف لاستخدام المقاطع المتنافرة. أما أسلوبه في الكتابة الأوركسترالية فهو يميل بطبعه إلى استخدام الأساليب الكلاسيكية، وهو يجيد الكتابة لآلات النفخ والوتريات على السواء حيث درس العزف على الترومبيت. وفي فجر حياته الفنية قدم رفعت جرانة السيمفونية الثانية من مقام «دو» صغير والمعروفة باسم سيمفونية الثالث والعشرين من يوليو في إحدى حفلات أوركسترا القاهرة بقيادة المايسترو الألماني خوزيه فريز.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات
TT

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر، وتصفية الخصوم، وعدم السقوط في براثن الثورات المضادة، من هنا تضحى المذكرات والسير المرافقة لوقائع التحول، داخل الأنظمة والدول، سردية لوعي الضحايا والهاربين والمنتصرين على حد سواء. ولا جرم بعد ذلك تتجلى تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي، وجوه متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، عن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة. إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، بعد الانتهاء من كتاب «قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران» (دار الساقي، بيروت، 2023) لبهروز قمري المؤرخ وعالم الاجتماع الإيراني وأستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون.

حمل الكتاب في الطبعة الإنجليزية (الأصل) عنوان «في تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية»، ولم يكن «أكبر» إلا الاسم الذي سعت السيرة إلى استعادة ملامحه الممحوة من شاشة الذاكرة، استنباته في تربة أخرى، لطالب الجامعة والمناضل الشيوعي، والحالم المشارك في يوميات الثورة الإيرانية، ثم المعتقل السياسي، المحكوم بالإعدام، ضمن المئات من المحكومين الآخرين، المنتظرين تنفيذ العقوبة في سجن إيفين الرهيب، الذي خصصه «الملالي» لتصفية خصومهم الآيديولوجيين، بعد تسلمهم الحكم.

لقد درج عدد كبير من الأكاديميين الإيرانيين على التأريخ للثورة، وتحولات المجتمع الإيراني في تلك السنوات المفصلية، من لحظة سقوط الملكية إلى استحواذ نظام الولي الفقيه على السلطة، على نموذج السيرة الروائية، فمن كتاب «آذر نفيسي» المعنون بـ«أن تقرأ لوليتا في طهران»، إلى كتاب «بردة النبي» لـ«روي متحدة»، تواترت نصوص سردية عديدة عن السنوات الثلاث الأولى للثورة الإيرانية، وما تخللها من صراع نكد بين فرقائها، من الشيوعيين إلى الليبراليين الديمقراطيين، ومن الاشتراكيين إلى القوميين والأقليات الإثنية، ومن رجال الدين إلى طلاب الجامعة الراديكاليين، ومن الملالي إلى «اليساريين الإسلاميين»، وغيرهم ممن انتهى بهم الحال إلى الدفاع عن قناعة امتلاكهم وحدهم «المعنى الحقيقي للثورة»؛ ومن ثم ستسعى تلك التخاييل السردية إلى محاولة فهم ما جرى من انقلاب في الاصطفافات النضالية، ومن صدام دامٍ، ومن تمزقات، وتحولات في المشهد، تكاد لا تستند لمنطق، وتحتاج للتعبير الروائي لتصوير مفارقاتها والتباساتها، ذلك ما سعى إليه مجدداً بهروز قمري في كتابه «قافلة الإعدام».

في الأسطر الأولى من السيرة يقول السارد ما يلي: «متُّ في السابعة والنصف من صباح 31 ديسمبر (كانون الثاني) 1984. لا أقول ذلك مجازاً، وإنما بالمعنى الحقيقي للوجود. في تلك اللحظة تماماً، وضعت قدماً في العالم الآخر مع توقيع متردد ذيل قرار الإفراج... هكذا متُّ، بالخروج من عالم لا يمكن تصوره، ودخول عالم مرتبك من التفاهات، تركت نفسي السابقة في مكان يوجد فقط في شروط مستحيلة» ص9-13. وعبر فصول الكتاب الـ26 تتخايل تدريجياً الحياة المنتهية للشخص الملتبس بالاسم الحركي: «أكبر»، الذي كان قبل أزيد من 4 عقود معتقلاً سياسياً أصيب بالسرطان، عالم جحيمي يركب مفصلاً عابراً في حياة لا تتجاوز 3 سنوات، داخل سجن سياسي بطهران، استضاف «أعداء الثورة» لاستراحة ما قبل الإعدام.

على هذا النحو تقدم لنا السيرة الروائية تفاصيل عودة «أكبر» (الاسم الحركي لبهروز)، من تجربة تنفيذ حكم الإعدام، بعد مضي عقود على خروجه من المعتقل «لأسباب صحية»، كان السرطان الذي تفاقم في جسم المعتقل اليافع، سبباً في الإفراج عنه، فقد كان شخصاً ميتاً، بحكم وضعه الصحي، ولا يحتاج لأن يحال على المشنقة. بعد خروجه وإثر مصادفات شتى انتهت به إلى الولايات المتحدة، وإلى علاج كيميائي قاسٍ، كلل بشفائه التام، وعودته من تجربة موت محقق. فتحول تاريخ خروجه في 31 ديسمبر من سنة 1984، إلى لحظة لاستعادة تفاصيل ما جرى في معتقل إيفين، وإلى استرجاع ملامح وأسماء وحيوات رفاقه في الزنازين، وفي تجربة الانتظار؛ انتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي يختصر في جملة يطلقها الحارس على حين غرة، منادياً اسماً معيناً، طالباً منه: «جمع أغراضه»، وعبر مساحات الاستعادة المرمّمة للوقائع والأحاسيس، والمتخيلة للكلام المنسي، تنبت تأملات في تحولات البلد والناس، كما تستدرج للسيرة سير أشخاص عاديين ممن واكبوا منعرجات الثورة في الشوارع والمصانع والجامعات والمقاهي والحانات، من حكاية الكحول والعمل النقابي وصناعة الأحذية، إلى حكاية الهروب من حظر التجول، إلى صور مناضلين ركبت أحلامهم الثورية على شغف بأشعار حافظ والموسيقى الأذربيجانية... على ذلك النحو انتسجت ملامح شخصيات: «علي» و«شاهين» و«غُلام» و«داوود» و«منصور» و«برهام» و«أصغر» و«صلاح»، ممن شيعهم «أكبر» مع بقج متاعهم الصغيرة إلى باب المغادرة النهائية.

«نصر الله»، «الخال حسين»، «ما العمل؟»، «المنزل الآمن»، «سيمفونية ميلر الأولى»، «التروتسكي»، على هذا المنوال صيغت عناوين فصول السيرة، المنطوية على حكايات لحظات وصفات وسجايا، وطرائف، سكبت في فجوات زمن التحقيق والتعذيب والمحاكمة، ومعايشة برودة زنازين المعتقل، وانتظار نداءات مدعي عام الثورة «أسد الله لاجوردي»، لتعيد الفصول تركيب صور حياة يومية مأخوذة من مفارقات الصخب الثوري، داخل فضاءات مغلقة تملأ بنقاشات الأسرى واسترجاعاتهم، في تلك الحكايات نتعرف على حكايات صناع الأحذية مع النقابات الممنوعة، والأدبيات الماركسية المتنقلة عبر الأيدي في نسخ صغيرة، مخبأة ككنوز مهربة، نكتشف مواسم القراءة تحت اللحاف في الليل بمصابيح عمال المناجم، كما نصاحب النقاشات السياسية المحمومة بين الخصوم/ الشركاء في الثورة، عن فائض القيمة والعنف الثوري، كما نلتقط شذرات الشعر الطليعي جنباً إلى جنب مع الأشعار الكلاسيكية، مع تخايلات موسيقية ومسرحية، وطبعاً حكايات الصمود أمام آلة التحقيق الجهنمية، ونوازع الانتقام البارد، وفناء الذوات في الحشود، والمواهب في الشعارات.

لكن ما يوحد مقامات تلك الفصول في الغالب الأعم هو انتظامها على إيقاع التحقيق والمحاكمة وانتظار دعوة الحارس للخروج النهائي، فعبر تلك الفواصل يكتشف القارئ أمزجة وطبائع بشرية شتى، وقدرات خارقة على الصمود، وضعف بديهي يفضي إلى التراجع والتنكر للقناعات وطلب العفو. بين تلك المدارات تتكشف قدرات تحويل المأساة إلى طاقة للهزل، والتخفف من رهاب الموت والتصالح مع قرار الذهاب إلى الإعدام، ذلك ما يفسر تلك القدرة على استنبات السخرية في فجوات الصمت والألم والعلة: «كانت الغرفة مليئة بدخان السجائر، نحن نصنع غرفة إعدام بالغاز، قال السيد الصالحي بمحاولة باهتة للمزاح».

كانت التفاصيل المفعمة حماساً وعمقاً وتشبثاً بالمعنى، واستحضاراً للأشعار والموسيقى، تُطل لتبديد سطوة الحراس والمحققين، وجعل الخروج النهائي مجرد إجراء عابر، مفرغ من الفجائعية، لهذا كانت محاولات الإقناع المتبادلة بين المعتقلين ليست عن الموت وإنما عن الحياة، عن السياسة والثورة والماركسية والفكر الإسلامي والعمال والحركة الطلابية وانتظارات الإيرانيين منهم، ومدى أخلاقية التراجع تحت وطأة التعذيب، ومصداقية التحولات الفكرية الأخيرة. كان النقاش بصدد ضمائر منذورة للحياة، لا بين أجساد ذاهبة لموت محتوم، يقول السارد في الأسطر الأخيرة من فصل يحمل عنوان «اعتراف»: «أعدمت منية هدائي بعد شهرين من رفضها سحب إنكارها لتراجعها. ألقى حسين روحاني اثني عشر خطاباً آخر، ظهر في ثلاثة منها كماركسي ولد من جديد يدافع عن سنواته في (بيكار)، وفي ثلاثة أخرى كماركسي رفض أجندة (بيكار) السياسية، لكنه دافع عن آيديولوجيتها الثورية. وظهر خلال محاضراته الستة الأخيرة كناقد إسلامي للماركسية وأعلن أنه أخيراً وجد الله بصدق. أعدم بعد وقت قصير من ذلك». (ص168)