هبة القواس... تتّسع روحها في الصحراء وتحلم بتوثيق التراث السعودي

السوبرانو اللبنانية هبة القواس
السوبرانو اللبنانية هبة القواس
TT

هبة القواس... تتّسع روحها في الصحراء وتحلم بتوثيق التراث السعودي

السوبرانو اللبنانية هبة القواس
السوبرانو اللبنانية هبة القواس

أولاً «هابي بيرث داي»، وثانياً كيف الحال؟ «شكراً شكراً» بامتنان وابتسامة، ردُّ السوبرانو هبة القواس على المعايدة... و«لبنان مؤلم جداً»، ردُّها على الأحوال وانشغال البال. «العُمر بالغ الأهمية»، فتخبر «الشرق الأوسط» معناه: «هو مخزون الوعي واللاوعي. لحظة ولادتنا هي الاتصال المثالي مع السرّ الكبير. يوماً بعد يوم، نفقد ذروته. العُمر هو كيفية استعادة لحظة الولادة الفضلى، تضاف إليها مكاسبنا على الأرض». تتحدث المؤلفة الموسيقية ومغنية الأوبرا عن التجذّر والارتفاع. ولادتها في صيدا الساحلية في الجنوب اللبناني، شرّبتها روح الموسيقى المتوسطية العربية، فاجتهدت لتقدّمها بأدوات وتقنيات عالمية بمعنى علم الموسيقى الموحّد: «أنا رائحة هذا المكان». تستهويها الصحراء و«المرمغة» في رمالها، وتجمعها بالسعودية رابطة عشق. جسر موسيقي بين الشرق والغرب، تدهشها لعبة الحضارات والتواصل الإنساني بين الشعوب. الكون حدودها.
ترافقت بدايتها في التسعينات مع صعوبة التأسيس، واليوم تشدّد: «تعبتُ جداً. الوصول لم يكن سهلاً». صحيح قولها أننا في بلد يرغمنا على التأسيس من جديد مرات ومرات. تصف ذلك بـ«الجلخ»، وتضيف مزيداً من الوصف: «الطحن». «كل ما حولنا يجلخنا ويطحننا. ما يجري فوق طاقات التحمّل. الإيمان ينقذنا من فقدان الأمان».
يحبطها البناء المتواصل لِما تدرك أنه مهدّد بالسقوط على الرأس. جنون النار اللبنانية تجعل البعض يخجل إن لفحه مجرّد وهجها، فيما آخرون يتقلّبون في الشواء. تتستّر هبة القواس عن آلام تسببها الأوطان المتفحّمة، وتترفّع أمام الإفصاح عن العذاب. كثيرة الأسفار، لكن الجذور تصدر أنّات كلما طال البقاء في الخارج.
المرء، بإنسانيته، يمحو الحدود. يقرّبها السفر من الفن المختلف، ويتيح التواصل الإبداعي مع أوركسترات وموسيقيين عالميين. الحياة بهذه البساطة: «شجرة وعصفور يزقزق يعلّمانني الكثير. فكيف السفر والمعرفة والاختبارات الجديدة؟ كلها روافد تشكّل المخزون الإنساني. من هنا، تتلاشى الحدود، فلا تعود تخطر على بال أو تنتج بواسطة الشعور. عندها يأتي الجمال ويولد الإبداع».
إلى جانبها صديقتها الشاعرة ماجدة داغر، تصغي إلى الحديث. العام الفائت، وبعد تغلّب القواس على «الكوفيد»، استضافتها في لقاء افتراضي ودار نقاش حول مزج الثقافات بالصوت الكوني والجغرافيا. اليوم، تعود السوبرانو إلى المخزون و«نقطة الولادة» لتفسير مفهوم الاختلاف. كلاهما أساسي في التركيبة الجوهرية للعقل، مع ما يُضخّ إلى الداخل من خبرات وأسفار وتبادل معرفي. «يبقى كيف أتجذّر، فتضرب جذوري إلى ما لا نهاية. وهي جذور منتشرة، كالأشجار، ضاربة إلى ما لا نهاية في الأرض ومرتفعة إلى ما لا نهاية في الفضاء. هذا يُسمّى لحظة التميّز».
عادت مؤخراً من أبوظبي بعد مشاركة في تدريب مواهب موسيقية إماراتية بالتعاون مع «مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون». تساهم أكاديمية هبة القواس باكتشاف اللمعان الموسيقي و«فلترة» النوع. نسألها أي جيل موسيقي عربي لدينا اليوم وما رؤيتها الثقافية للمستقبل الفني؟ متفائلة، ولكن. بالنسبة إلى حاملة الماجستير بامتياز عالٍ في الغناء الأوبرالي والدكتوراه في التأليف الموسيقي، فإنّ «المستقبل واعد». تتطلّع إلى دعم الحكومات القادرة، مما يتيح تعزيز فرص الوصول إلى الشباب العربي الموهوب وصقله. لا تخفي علّة الاستسهال والتراخي، «فالسوشيال ميديا توهم شبان الجيل الجديد بأنهم مهمّون من دون بذل جهد. كثر لا يملكون الصبر للدراسة والمثابرة. يفضّلون الدروب المُعبّدة. قلّة مستعدة للسير على الوعر نحو وصولها المُستحقّ. هؤلاء، علينا التمسّك بهم وتوجيههم بدعم الحكومات القادرة. هم أمل الغد».
أسفارها وخبرتها تصبّ في هذا النبع. تؤمن هبة القواس بالعمل الأكاديمي للتخصص، وترفع نداء بناء مدارس وأكاديميات لـ«تدريب وتوضيب» المواهب استعداداً للإنتاج الكبير الحاضن للحظات الإبداع. «هناك فرص إن تلقّتها الدول المتمكّنة، ستُثمر. في انتظار بلوغ عصر نهضة الموهبة العربية».
قريب الخليج من قلبها، تحط في أماكنه فيغمرها النغم. يشهد «تويتر» على الحب، فقد غرّدت في عشق الصحارى ورمالها: «تبقى في قلبي المكان الذي أعود إليه لأستكين»، جميل! كيف تفعل بكِ الصحراء ذلك؟ «تستهويني وتُفرغ تعبي. تشعرني بالتوحّد مع الكون فأهدأ في جمالها». تراها ممتلئة بأسرار غير مُكتَشفة، وتفرح لشعورها بالحضور في المدى المفتوح. «روحي مرتبطة بالمكان. الجزيرة العربية في داخلي. لدي اعتقاد أنه ذات يوم سيكتشف العالم وجود حضارات في السعودية أقدم من كل الحضارات المعروفة. أحلم بإعداد دراسات توثّقها وتدوّنها موسيقياً. هنا تراثنا العربي».
عام على «هيروشيما بيروت»، و«كل يوم زلزال». تغضبها المقتلة اللبنانية وتمتص بعضاً من روحها. منذ 4 أغسطس (آب)، لحظة الانفجار عند السادسة وثماني دقائق، وشيءٌ لم يعد كما هو. لا تجد نسمة أمل في السيستم السياسي، وتصفه بقبح الوصف. ما الحل؟ «علينا إعادة تكوين منظومة الثقافة اللبنانية. الشطارة الحقيقية غيرُها الشطارة على طريقة اللبناني المُتحايل. مراجعة المفاهيم مطلوبة». ومن الآن حتى بلوغ هذه النفضة الداخلية شبه المستحيلة؟ «علينا انتظار معجزة».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».