يعتبر الفيلم الوثائقي الجديد حول أنتوني بودرين ويحمل اسم «رودرنر»، واحداً من المشروعات الكثيرة المخصصة لتناول حياة بودرين، الشيف والكاتب والمذيع التلفزيوني صاحب النفوذ والشعبية الهائلة. إلا أن الفيلم قد نجح في جذب اهتمام يفوق حجمه لأسباب منها اعتماده الذكي على تكنولوجيا الذكاء الصناعي.
وبالاعتماد على سجلات لصوت بودرين تمتد لساعات عدة، نجحت شركة برمجيات في خلق تسجيل صوتي له مدته 45 ثانية من أجل الفيلم الوثائقي. ويبدو الصوت الذي أنتجته تكنولوجيا الذكاء الصناعي متطابقاً تماماً مع صوت بودرين وبدا وكأنه يتحدث إلينا من العالم الآخر. وفي لحظة من لحظات الفيلم، قرأ بودرين بصوته رسالة بريد إلكتروني كان قد بعث بها قبل انتحاره عام 2018.
وعلق مورغان نيفيل، مخرج الفيلم الوثائقي خلال مقابلة أجراها مع «ذي نيويوركر»: «إذا ما شاهدت الفيلم، فإنه بخلاف السطر الذي ذكرته، ربما لن تتمكن من معرفة أي السطور الأخرى قرأتها تكنولوجيا الذكاء الصناعي، وربما لن تعرف الإجابة عن هذا أبداً. ويمكن أن نعقد لجنة بخصوص أخلاقيات الأفلام الوثائقية لتناول هذا الأمر في وقت لاحق».
وربما يكون الوقت المناسب لعقد هذه اللجنة قد حان الآن، نظراً لأن الموتى يجري بعثهم رقمياً على نحو متزايد، وذلك في صور رقمية مختلفة منها صور مجسمة ثلاثية الأبعاد وإسقاطات ثنائية الأبعاد. جدير بالذكر هنا أن صورة مجسمة لمغني الراب توباك شاكور ظهرت على المسرح في كوتشيلا عام 2012، بعد 15 عاماً من وفاته. كما أن صورة مشابهة لأودري هيبورن وهي في التاسعة عشر من عمرها كانت بطلة لإعلان شوكولاته «غالاكسي» عام 2014. كما أن كاري فيشر وبيتر كوشينغ شاركا بالتمثيل بعد وفاتهما في الجزء الأحدث من فيلم «حرب النجوم».
إلا أن واحداً من أكثر الأمثلة التي حظيت باهتمام شديد كان العرض الذي قدمه كاني ويست عبر تكنولوجيا «الهولوغرام» أو الصور المجسمة إلى كيم كاردشيان ويست بمناسبة عيد ميلادها، أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما قدم صورة والدها المتوفى، روبرت كاردشيان.
ومثلما حدث مع صوت بودرين في الفيلم الوثائقي حول حياته، فإنه جرى تدريب تكنولوجيا صوتية على تسجيلات صوتية حقيقية لكاردشيان الأب لينطق في النهاية أثناء حفل عيد الميلاد عبارات لم ينطقها كاردشيان الحقيقي قط، وبدا وكأنه يبعث برسالة من العالم الآخر. وأعربت الصورة المجسمة للأب التي ظهرت في حفل عيد الميلاد عن فخره بمساعي كاردشيان لنيل درجة علمية بمجال الحقوق، بينما وصف ويست بأنه: «أكثر أكثر أكثر أكثر أكثر رجل عبقري في العالم كله».
من جهته، قال دانييل رينولدز، الذي تولت شركته، «كاليدا»، إنتاج الصورة المجسمة الناطقة لكاردشيان الأب، إن تكلفة هذه النوعية من المشروعات تبدأ من 30 ألف دولار وقد تتجاوز 100 ألف دولار عند حساب تكلفة النقل والعرض.
ورغم أن عمليات إعادة إنتاج أصوات وصور لأناس رحلوا عن عالمنا دارت حول شخصيات عامة، فإن هذا الأمر يحمل دلالات حتى لأولئك الأقل شهرة منا، ذلك أن كل فرد منا تقريباً لديه هوية على شبكة الإنترنت والتي ستستمر لفترة طويلة بعد وفاته. وربما تكون مسألة ما الذي ينبغي عمله لهذه الذوات الرقمية واحدة من أكبر المسائل الأخلاقية والتكنولوجية في عصرنا الحالي.
من يملك هذه البيانات؟
منذ تضمين الإنترنت في الاتصالات والعمل والترفيه، زادت كمية البيانات التي يخلقها البشر يومياً باطراد. وفي كل دقيقة، يدخل الناس ما يزيد عن 3.8 مليون سؤال للبحث عبر محرك «غوغل» كل دقيقة، ويرسلون أكثر عن 188 مليون رسالة بريد إلكتروني، في الوقت الذي تجري مراقبته من قبل شتى صور المراقبة الرقمية. الحقيقة أنا ننتج قدراً هائلاً من البيانات لدرجة أن بعض الفلاسفة اليوم يعتقدون أن الشخصية لم تعد مجرد معادلة بين الجسم والعقل، وإنما يجب أن تأخذ في اعتبارها الكيان الرقمي كذلك.
وعندما نتوفى، نخلف وراءنا جثث معلوماتية تتألف من رسائل بريد إلكتروني ووسائل نصية وصفحات عبر شبكات التواصل الاجتماعي واستفسارات جرى طرحها عبر محركات البحث وأنماط سلوك التسوق عبر الإنترنت. من جانبه، قال كارل أومان، المعني بالمسائل الأخلاقية الرقمية، إن هذا الأمر يشكل تحولاً اجتماعياً هائلاً، ذلك أنه على مدار قرون كان فقط الأثرياء والمشاهير هم يجري توثيق حياتهم بالكامل.
وتشكل البيانات المجمعة حول الموتى عبر شبكات التواصل الاجتماعي أرشيفاً يحمل قيمة إنسانية كبرى، ويمثل مصدراً تاريخياً أساسياً على نحو لم يسبق وأن تركه أي جيل آخر خلفه. من جانبه، يعتقد د. أومان أنه يجب التعامل مع هذه المخزونات من البيانات على هذا النحو.
ودعا أومان إلى ضرورة تصنيف الرفات الرقمية على نحو يشبه البقايا الأثرية - أو «وصفها بأنها جزء من التراث الإنساني الرقمي» - بحيث يتمكن العلماء والباحثون من حمايتها من الاستغلال والتردي.
خصوصية المشاهير
قال جان بول سارتر ذات مرة: «عندما يموت المرء، يتحول إلى فريسة للأحياء». وما يزال فلاسفة يتناولون هذه الفكرة حتى اليوم. ويرى الكاتب باتريك ستوكس، صاحب كتاب «الأرواح الرقمية»، أن هذه الفكرة على صلة مباشرة بالرفات الرقمية.
وأعرب عن اعتقاده بأن خلق نسخة رقمية من شخص متوفى يتطلب أخذ سمات من هذا المتوفى تحمل أهمية للأحياء - مثل محادثات دارت بينهم وقيمة الترفيه - وترك الباقي.
وقال ستوكس، المحاضر البارز في علم الفلسفة لدى جامعة ديكين: «لقد اقتحمنا مجال استبدال الموتى، واقتحمنا مجال إيجاد سبيل مفعم بالحياة لتذكرهم، لكن بدلاً عن ذلك عثرنا على سبيل لسد الفجوة في الوجود التي خلفوها وراءهم بموتهم».
في حالة الشخصيات العامة، هناك حافز مالي واضح وراء محاولات خلق نسخ رقمية منهم، الأمر الذي يفسر خضوع صورهم لحماية حقوق الدعاية بعد الوفاة لفترة زمنية معينة. في كاليفورنيا، تصل هذه الفترة إلى 70 عاماً بعد الوفاة. أما في نيويورك، فإنها بدءاً من ديسمبر (كانون الأول) 2020. أصبحت 40 عاماً بعد الوفاة.
الملاحظ أن هناك بعض الفنانين الذين يعربون صراحة عن رغباتهم في هذا الشأن. على سبيل المثال، نجد أن روبين ويليامز، الذي توفي عام 2014. قدم طلباً رسمياً يمنع استخدام صورته أو أي صورة شبيهة به لمدة 25 عاماً بعد وفاته كطبقة إضافية من الحماية بجانب قوانين كاليفورنيا.
أيضاً، يفصح العملاء عن آرائهم. مثلاً، قررت شركة «بيس هولوغران»، التي سبق وأن نظمت حفلات بتقنية الهولوغرام أو الصور المجسمة لكل من روي أوروبيسون وبودي هولي وماريا كالاس، إلغاء خطط لاستخدام صور مشابهة لويتني هيوستون وآمي واينهاوس في جولة غنائية، بعد تعرضها لانتقادات بالاستغلال. وبذلك يتضح أنه كون مثل هذه الحفلات قانونية لا يعني بالضرورة أن الجماهير ستتقبلها باعتبارها أخلاقية.
تجدر الإشارة إلى أن القانون الفيدرالي الأميركي لا يعترف بحق المتوفى في الخصوصية، حسبما أوضح ألبرت غيداري، المحامي والمدير الاستشاري السابق لشؤون الخصوصية لدى «مركز ستانفورد للإنترنت والمجتمع». واستطرد موضحاً أنه: «لكن من الناحية العملية ونظراً لوجود هذا القدر الهائل من المعلومات حولك في صورة رقمية اليوم، لدى منصات التواصل الاجتماعي وغيرها، فإن قانون الاتصالات المخزنة يحمي بالفعل المعلومات من الإفصاح عنها دونما موافقة مسبقة».
ومن بين النتائج التي ترتبت على هذا القانون عجز أقارب المتوفين في الغالب من استعادة بيانات خاصة بهم على الإنترنت في حساباتهم الرقمية.
والملاحظ أن بعض الأشخاص عمدوا إلى خلق ذوات أخرى لهم بالاعتماد على الذكاء الصناعي عبر مجموعة متنامية من التطبيقات والخدمات.
وتركز بعض التطبيقات، مثل «هيرافتر»، على تاريخ العائلة. ومقابل ما يتراوح بين 125 و625 دولاراً، تعقد الشركة مقابلة مع العملاء حول اللحظات المحورية في حياتهم. وبناءً على هذه المقابلة، تخلق الشركة «روبوت دردشة» أو «تشات بوت». وإذا ما رغب أحفاد أحفادك، على سبيل المثال، في معرفة كيف التقيت زوجتك، فإن باستطاعتهم سؤال «الروبوت» والذي سيجيب بصوتك.
وهناك تطبيق آخر يدعى «ريبليكا» يصنع «أفاتار» يحاكي صوت المستخدم. وبمرور الوقت يتحول هذا «الأفاتار» إلى صديق متاح طوال الوقت عبر الاتصالات الصوتية أو الرسائل النصية (مجاناً). وحظيت هذه الخدمة بزخم كبير خلال فترة الجائحة، مع سعي الأشخاص الذين يعانون العزلة للتمتع بصحبة سهلة.
ويحدث كل هذا في خضم جائحة أحدثت تغييرات كبرى في المراسم المرتبطة بالموت، فقد كانت مراسم الوداع الأخير والجنازات لدى الكثير من الأسر افتراضية خلال عام 2020. وعندما تنضم التكنولوجيات الرقمية المرتبطة بما بعد الموت إلى التيار الرئيسي للتكنولوجيات المستخدمة على نطاق واسع، فإنها ربما تخفف من شعور الألم والفقد، وتعزز الروابط بين أجيال الماضي والحاضر وتشجع الأحياء على مناقشة ما يتعلق بالموت بقدر أكبر من الانفتاح مع بعضهم بعضاً.
* خدمة «نيويورك تايمز»