يكشف كتاب «بلاغة الحِجاج في شعر أبي العلاء المعري» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للباحث الدكتور عماد شعير، أبعاد جديدة في حياته وتجربته الشعرية، وما تنطوي عليه من نزعه فلسفية، تكسر حاجز العمى والبيت اللذين عانى منهما ولقب بـ«رهين المحبسين».
الدراسة الجديدة عنيت، كما يقول المؤلف، بالتنظير التطبيقي، وتناولت شخصية المعري وما يثيره من جدل وبرهان، في الشعر والحياة، لافتاً إلى أن التعامل مع النص الشعري من خلال هذا المنظور يبدو «جديداً غير مطروق»، إذ إن الدراسات السابقة التي تناولت شعر أبي العلاء لم تتعرض لهذه النقطة البحثية، وهي الحديث عن فلسفة أبي العلاء في الحياة.
وهو يوضح أن صاحب «رسالة الغفران» يعتمد في إظهار حجته المبنية على الاستعارة وإقرارها على التشخيص، أو إضفاء الطابع الإنساني على الأشياء كما يقول محذراً من الخمر:
«توخ بهجر أم ليلى فإنها
عجوز أضلت حتى طسم ومأربِ
دبيب نمل عن عُقار تخالها
بجسمك شر من دبيب عقارب»
فالمعري هنا يربط الدعوة لهجر الخمر مع صورة العجوز. وهذا الربط «مناط تسبيب لهذه الدعوى، إذ للعجوز حال وللخمر حال والمتلقي هو الساعي إلى إحداث الربط بين الحالين من خلال استعارة المعري للأول المحذوف المشبه (الخمر) من الثاني المصرح به المشبه به (العجوز)»، كما أن إيقاع الشبه بين المستعار له والمستعار منه أشار إليه المعري بإسناده الضلال إلى العجوز، بعد أن بلغت من العمر أرذله، ومن ثم فإن حلقة الوصل الماثلة للمتلقي هي إضلال الخمر لشاربها مثلما يضل أرذل العمر لصاحبه.
وفي قضية هجر الدنيا وذمها يقول:
«خسست يا أمنا الدنيا فأف لنا
بنو الخسيسة أوباش أخساءُ
وقد نطقت بأصناف العظات لنا
وأنت فيما يظن القوم خرساءُ»
واعتاد المعري أن يجمع بين الدنيا والمرأة على نحو استغرق جزءاً كبيراً من «لزومياته»، إذ كثيراً ما يصور الدنيا على أنها حواء في مختلف تجلياتها.
وهنا يوضح العلاقة بين الإنسان والدنيا وهي علاقة ألفة وتلازم ولا سبيل إلى الفكاك منها رغم التوتر الحاصل بين الطرفين. وأراد تأكيد ذلك عند المتلقي فلجأ إلى العلاقة بين الأم وابنها من خلال الاستعارة، إذ جعل الدنيا أماً ونحن أبناؤها وجعل الجامع بينهما هو العلاقة الخفية بين الطرفين، فالاستعارة التشخيصية التي استخدمها تؤكد جعل الدنيا عين الأم من خلال قوله «نطقت» و«خرساء» فقد جعلها أماً ناطقة فعلاً، وخرساء ظناً. ورغم تلك العظات، فإن الدنيا تمارس على بنيها أشد أنواع القسوة. لكنهم لا يعزفون عنها ويتمسكون بها أشد التمسك!... وهو ما يؤكده أيضاً في ربطه الضحك بالسفاهة وقسوة الأيام:
«ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحقٌ لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد له سبكُ»
وهي دعوى صريحة تتضمن إنكاراً وتعجباً. ينكر ضحك الدنيا ويتعجب منه ويدعو إلى البكاء معللاً في البيت الثاني بأن الأيام لا تقدم لنا جبراً يسعدنا وإنما تحطيماً يتعسنا، ويؤكد تعليله بهذا التشبيه العقلي «كأننا زجاج». والطبيعي أن الزجاج عندما يتحطم لا يعود مرة ثانية لأصله.
ومن خواص شعرية المعري ورؤيته للحياة تفضيله للعقل، حسب المؤلف، فقد جعله إماماً يصدع لقراراته ويتقيد بأحكامه، كما كان يقدسه إلى أبعد الحدود ويراه الحكم الذي لا ترد أحكامه في أمور الطبيعة والرياضة وأيضاً في شؤون العقيدة وفي كل ضرب من ضروب المعرفة.
والشاعر يرى أن الأمور تختل إذا شذت عن سياق العقل، مثل قوله معبراً عن المفارقة، بين الأسماء ودوالها في الواقع:
«سمى ابنه أسداً وليس بآمنٍ
ذيباً عليه إذا أطل الذيبُ
والله حق وابن آدمَ جاهلٌ
من شأنه التفريطُ والتكذيبُ
واللب حاول أن يهذب أهله
فإذا البرية مالها تهذيبُ»
ويخلص المؤلف في نهاية الكتاب إلى أنه لم تكن الاستعارة عند أبي العلاء مقصودة لذاتها وإنا أتت عنده مرتبطة بأهدافه «الحجاجية» ومقاصده الإقناعية، ولذلك فهي استعارة حجاجية لا بديعية، تسهم بشكل واضح في تحقيق الإقناع عبر أطروحات شعرية مختلفة نوع فيها المعري في انتخاب الحقل الاستعاري الملائم لطبيعة القضية أو الفكرة المطروحة بكل أبعادها الفلسفية والإنسانية.
فلسفة أبي العلاء في الحياة من خلال شعره
كتاب مصري يهتم بـ«التنظير التطبيقي» عند صاحب «لزوم ما يلزم»
فلسفة أبي العلاء في الحياة من خلال شعره
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة