«جسد الحبيب»... قصائد في سحر الشعر والحب

الشاعر الأميركي جريجوري أور في ترجمة عربية لواحد من أهم دواوينه

«جسد الحبيب»... قصائد في سحر الشعر والحب
TT

«جسد الحبيب»... قصائد في سحر الشعر والحب

«جسد الحبيب»... قصائد في سحر الشعر والحب

يستقي الشاعر الأميركي المعاصر «جريجوري أور» فكرته الرئيسية التي اعتمد عليها في قصائد ديوانه «جسد الحبيب» من الأسطورة المصرية القديمة «إيزيس وأوزوريس»، خاصةً فكرة البعث وعودة الروح للجسد بعد الموت، ويتضمن الديوان الذي صدر حديثا عن داري الأدهم المصرية والعولمة الكويتية، في صيغة نشر مشترك، عدداً من القصائد التي نشرها جريجوري أور في أميركا عام 2005 بالاسم نفسه، وقسمها لخمسة أجزاء، كل قسم يضم عدداً من المقاطع الشعرية وبدون عناوين داخلية، وجميعها تعلي من فكرة انتصار الخير على الشر، والجمال على القبح. وتفيض بمحبة الإنسانية وإذكاء روح التسامح والود وترسيخ قيم العدل والحق والمساواة دون تفرقة بين جنس أو لون أو مذهب.
الديوان، قدم نسخته العربية المترجم المصري حسن حجازي، ويمكن ملاحظة أن أور يحتفي في القصائد بروح الكلمة، يتسامح مع ذكرياته القديمة التي ترسخت في روحه وقلبه وعقله، فالقصائد تعتبر سيرة ذاتية سابحة في الخيال وممزوجة بقصائد وأغنيات وجدانية كتبت بعفوية شديدة، وتسلط الضوء على مظهر مختلف من أحوال البشر، تستكشف الحب والضياع، واستعادة المفقود والضائع، مركزة على جمال العالم والمحبوب، وغموض الشعر وسحره.
ولم يتوقف أور عند حدود الكتابة الشعرية، فقد قام بتأليف العديد من الدراسات منها «الرحمة/الابتهال»، و«الشعر كوسيلة للخلود» و«البقاء» و«كتاب مقدمة للشعر»، كما أن له الكثير من الترجمات من اللغة الروسية والأوكرانية، ونال الكثير من الجوائز والأوسمة وحظي بأكثر من تكريم والعديد من درجات الزمالة والمنح، وتم تكريمه من قبل الأكاديمية الأميركية للفن والأدب، وكذلك من قبل ولاية فيرجينيا والكثير من الهيئات والمؤسسات العريقة.
ويعمل أور أستاذا للأدب في جامعة فيرجينيا، ويقوم بالتدريس منذ عام 1975 إضافة إلى كونه مؤسساً لبرنامجها الرائد في الكتابة الإبداعية، حيث كان يشغل وظيفة مدير قسم الكتابة الإبداعية بالجامعة، ويعيش مع زوجته الرسامة تريشا أور وابنتيه، وقد عمل كرئيس للتحرير لنشرة فيرجينيا الأدبية من 1978 حتى 2003، وقد لقب في عام 1998 بشاعر سان فرانسيسكو الأول.
ويتميز جريجوري أور بكتابة الشعر الغنائي الحر القصير، وهذا ما يتضح أيضاً في قصائد «جسد الحبيب»، وقد تناول في أعماله الأولى التي كتبها في بداياته الإبداعية الكثير من الأحداث الطائشة والمريرة التي تعرض لها في طفولته المبكرة، وكان أبرزها حادثة صيد ظل يعاني منها لسنوات، فقد قام عندما كان في الحادية عشرة من عمره بإطلاق النار من غير قصد على أخيه الأصغر وأرداه قتيلاً، بعده بفترة قصيرة تموت والدته بشكل مفاجئ، ثم يدمن والده للأمفيتامين ويلحق بها.
يقول أور في قصيدة: «ابتهال» وهو يتناول حادثة قتل أخيه، ويعلن ويقر بوضوح ما حدث:
«كنت في الحادية عشرة عندما قتلته
أحسست بأن عظامي تنتزع من جسدي».
وتعتبر هذه القصيدة واحدة من كتابات أور التي لجأ إليها لتجاوز آثار مقتل أخيه، فهو حسب قوله «يؤمن بقدرة الشعر في مواجهة ومقاومة وعلاج الاضطراب العاطفي والنفسي والارتباك الروحي والأحداث المفجعة التي تحدث أثناء حياتنا اليومية، وهذا يعني أن لديه إيمانا راسخا بقدرة الشعر خاصةً والكلمة بصفة عامة على الشفاء، وهو ما يفسر سر اهتمامه وولعه بجلال الدین الرومي، ومحبته لابن عربي رغم أنه يقول إنه ليس شاعره المفضل.
ويقول حجازي في مقدمته للديوان إن أور «يدعو من خلال قصائده إلى الاستمتاع بالحياة، وارتباط البشر بالعالم وبحياتهم العاطفية والوجدانية والروحية والاقتراب أكثر للطبيعة والفطرة والجمال، ولا تأخذ مخاطبة «أور» للحبيب صيغة محددة أو ثابتة فتارة تتم مخاطبته بضمير المذكر «هو» وتارة بضمير المؤنث «هي».
يقول أور:
«وضعت الحبيب
في صندوق خشبي
وأكلت النار جسده
والتهمت النيران جسد الحبيبة
وضعت الحبيب
في قصيدة أو أغنية
طويتها بين صفحتين من الكتاب». ومن هذه القصيدة القصيرة يمكن ملاحظة تأثر «أور» بشعر الرومانسيين حيث تبقى الذكرى عالقة بالذهن تستدعي أبهى وأسعد الذكريات، وربما أشدها قسوة، ولعل هذا ما يبرر ولعه بأشعار ويليام وردث ورث، وجون كيتس وبيرون وغيرهم من شعراء الرومانسية.
وتبدو عثرات ومزالق الحياة المعاصرة حسب رأي الناقد الأميركي «تيد جينوياز» جلية وواضحة على حافة قصائد جريجوري أور، لكن التركيز بصورة جلية وواضحة يتجه نحو المبهم الذي يتجاوز الحد، فهو يجعلنا ننزلق نحو زمن أقل فوضى وضجيجا حيث يتجلى واضحا محور شعر جريجوري أور ونبضه، ويظهر على الدوام من خلال الصورة والخيال الغامض والمبهم، والشعور الصوفي المتدفق، والحس الجسدي، والمعنى الساحر، كما تستدعي القصائد السابحة في النشوة والخيال روح جلال الدين الرومي في رحلة بحثه عن المحبوب واعتقاده وإيمانه العميق في الخصائص الشافية للشعر والفن والجمال.
وعبر مسيرته الشعرية الطويلة اعتبر «جريجوري أور» الشعر وسيلة ومخرجاً شخصياً من حزنه وسهده، وقد راح يخلق ويصنع ويبدع أحداثا يصعب تفسيرها، وذلك من أجل مواجهة أحداث أكثر مأساوية، وتعتبر تأملاته الشعرية بمثابة استجابات واضحة للخسائر والفجائع التي ألمت به في حياته، وهي تقدم له كما تقدم لقارئه معيناً لا ينضب في شكل خاص للعلاج والشفاء، فكلمة «الحبيب» تأخذ لديه شكل إنسان، وحيوان، وزهرة، وتظهر في معظم تلك القصائد كنغم ساحر تحمل الكثير من الدلالات، وكترنيمة شعرية عذبة وساحرة تنشر سحرها وعبيرها عبر صفحات الديوان وقصائده.
ويذكر حجازي أن قصائد «جسد الحبيب» تعد محاولة لجمع شتات النفس، فهي تدفع الشدو المشبوب بالنشوة والسابح في بحور الصوفية والوجد نحو تيارات ودوائر ملحمية رحبة، حيث يكتشف «أور» الحبيب ويجده في كل شيء، وفي كل مكان، ويربط قراءه بشدة وبقوة بحياتهم العاطفية ويجذبهم نحو الإحساس والشعور الصادق، فكل قصيدة تلقي الضوء على مظهر بارز وواضح للأحوال الإنسانية.
ولد «جريجوري أور» في نيويورك، وترعرع في هاديسون فالي، وقضى قرابة العام في أحد مستشفيات هايتي ليتلقى علاجا نفسيا مكثفاً عندما كان في الحادية عشرة من عمره، بعدما قتل شقيقه برصاصة طائشة عن طريق الخطأ، وحصل على البكالوريوس في الآداب عام 1969 ودرجة الماجستير في الآداب من جامعة كولومبيا عام 1972، وله العديد من المجموعات الشعرية المميزة منها «يا لجمال الحبيب» 2009، و«البومة الحبيسة» 2002، و«مدينة الملح» 1995، و«أورفيوس ويوريديس» 2001، و«البيت الأحمر»، و«جمع العظام معاً» 1975، و«إحراق الأعشاش الفارغة» 1973.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.