رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

صعوده يعكس التغييرات البنيوية التي يشهدها الحزب الجمهوري

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد
TT

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

قد يكون رونالد دي سانتيس حاكم ولاية فلوريدا الأميركية في طريقه ليكون أحد أبرز الشخصيات السياسية، التي سجلت اندفاعة صاروخية قياسية في المشهد الأميركي العام، والحزب الجمهوري بشكل خاص، خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.
عام 2018 عندما كان في الأربعين من عمره، أصبح دي سانتيس أصغر حاكم ولاية في الولايات المتحدة، عبر مسيرة قادته للصعود سريعا، من خدمته العسكرية كضابط ومحامٍ في مكتب المحامي العام للبحرية الأميركية، إلى مقاعد مجلس النواب الأميركي نهاية عام 2012. وفي الفترة الأخيرة برز اسمه كأحد أبرز المرشحين، لنيابة الرئيس الأميركي، في حال ترشح الرئيس السابق دونالد ترمب في انتخابات 2024. وهو ما أوحى به في أحد خطاباته الأخيرة، أو لمنصب الرئاسة نفسها إذا أحجم ترمب عن الترشح... وهذا، بعدما تمكن من تقديم نفسه كأحد أخلص ورثة «الترمبية»، متبنيا خطابا زايد فيه على معظم «يمينيي» الجمهوريين و«وسطييهم» على حد سواء.
تمكن رون دي سانتيس سريعاً من التموضع تحت شعارات دونالد ترمب، منذ أعلن الأخير خوضه انتخابات الرئاسة الأميركية صيف العام 2015. ثم تحول إلى أحد أبرز المؤيدين لخطابه السياسي الشعبوي، المتناغم تماماً مع أفكاره ومعتقداته التي وصفت بـ«المتطرفة»، في العديد من الملفات والقضايا الخلافية التي شهدتها ولا تزال الولايات المتحدة. واليوم يقول منتقدوه إنه يدرك تماماً بأن حظوظه السياسية، سواءً في حال أراد خوض انتخابات التجديد لمنصب حاكم فلوريدا عام 2022 أو انتخابات الرئاسة عام 2024، مرهونة بعلاقته بـ«صانع الملوك» ترمب في الحزب الجمهوري.
كانت لافتة جداً اندفاعة دي سانتيس الأخيرة لتبني العديد من التشريعات المتشددة الهادفة إلى تقييد حق التصويت في ولايته وعلى المستوى الوطني. إذ دعا إلى إلغاء صناديق الاقتراع خارج مراكز الاقتراع، فضلاً عن الحد من التصويت عن طريق البريد من خلال مطالبة الناخبين بإعادة التسجيل كل عام للتصويت بالبريد والمطالبة بأن التوقيعات على بطاقات الاقتراع بالبريد «يجب أن تتطابق مع أحدث توقيع في الملف». وفي موضوع كوبا، هناك من يقول إن حرص دي سانتيس على الحفاظ على العلاقات المتوترة والقطيعة مع كوبا بشكل خاص، يعادل الاحتفاظ بولاية فلوريدا في قبضة الجمهوريين. ولذا عندما أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما عن إعادة العلاقات معها، مع ما كان يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل النظام الشيوعي نفسه في كوبا، كان الجمهوريون أكثر المتوترين.
- سيرته الشخصية
ولد رون دي سانتيس يوم 14 سبتمبر (أيلول) 1978 في مدينة جاكسونفيل الكبيرة بشمال شرقي ولاية فلوريدا. وهو كاثوليكي، والده رونالد دي سانتيس من أصل إيطالي ووالدته كارين روجرز. وهو متزوج من كايسي بلاك، المذيعة التلفزيونية السابقة.
انتقلت عائلته إلى مدينة أورلاندو، ثم إلى دنيدن بفلوريدا، عندما كان عمره ست سنوات. وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية عام 1997، التحق بجامعة ييل العريقة، حيث كان قائد فريق البيسبول (كرة القاعدة) في الجامعة وانضم في العام نفسه إلى أخوية دينية كاثوليكية. وبعد التخرج في جامعة ييل عام 2001 بدرجة البكالوريوس في التاريخ بامتياز مع مرتبة الشرف، أمضى سنة علم للتاريخ في إحدى المدارس، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة هارفارد، العريقة أيضاً، وتخرج فيها عام 2005 مجازاً في القانون بامتياز.
وعام 2004 تلقى دي سانتيس دورة ضابط احتياط بحري، وعين في فيلق المحامي العام في مركز الاحتياط البحري الأميركي في مدينة دالاس بولاية تكساس، بينما كان لا يزال طالبا في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وأكمل مدرسة العدل البحرية في 2005. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عين مدعيا عاما في مكتب خدمة القيادة الجنوبية الشرقية في القاعدة البحرية «ماي فورت» بفلوريدا.
وفي عام 2006 رقي دي سانتيس إلى رتبة ملازم حيث عمل مع قائد «قوة المهام المشتركة» في قاعدة غوانتانامو، وعمل مباشرة مع المحتجزين في المعتقل. وعام 2007 عين مستشاراً قانونيا للقوات الأميركية الخاصة «نافي سيل» المنتشرة في الفلوجة في العراق، حيث خدم لمدة سنة، ليعين مجددا بعد عودته من العراق في الخدمة القانونية للمنطقة البحرية الجنوبية الشرقية.
بعدها، عينته وزارة العدل كمساعد المدعي العام الأميركي في المنطقة الوسطى بفلوريدا، ثم محامي دفاع للمحكمة حتى تسريحه من الخدمة الفعلية في فبراير (شباط) 2010. وحصل خلال هذه المسيرة على وسام النجمة البرونزية، وميدالية تكريم سلاح البحرية وميدالية الحرب العالمية على الإرهاب وميدالية الحملة العراقية.
- مسيرته في الكونغرس
سجل دي سانتيس في مجلس النواب يشهد بالتزامه السياسي اليميني، إذ تبنى عام 2017 تشريعاً يلغي القيود على الرئيس لمنعه من إقالة المستشارين الخاصين، مستهدفاً المستشار روبرت مولر الذي حقق في تدخل روسيا بالانتخابات. وقبل ذلك عام 2016 تبنى تشريعاً يلزم وزارة العدل على تقديم تقارير ولوائح إلى الكونغرس، في حال امتنعت أي وكالة فيدرالية عن إنفاذ القوانين تقديمها لأي سبب من الأسباب، مستهدفاً الرئيس الأسبق باراك أوباما. أيضاً، تبنى عام 2018 تشريعاً يدعو إلى تقييد فرض ضرائب جديدة، خصوصاً على الشركات، يتضمن تصويت الغالبية العظمى لإبطاله، وعارض السماح للبالغين الأصحاء الذين ليس لديهم أطفال الحصول على خدمات برنامج الرعاية الصحية «ميديكيد».
أيضاً تبنى دي سانتيس تشريعاً يدعم الذين يحملون تراخيص بحمل أسلحة نارية بعرضها علانية بدلا من إخفائها. وبينما شجع عمداء الشرطة المحليون في فلوريدا، على التعاون مع الحكومة الفيدرالية في القضايا المتعلقة بالهجرة، عارض بقوة مشروع «داكا» الخاص بالمهاجرين «الحالمين» الذين قدموا إلى الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية عندما كانوا أطفالا. ووقع في يونيو (حزيران) 2019 قانونا يفرض على الشركات استخدام برنامج التأكد «إي فيريفاي»، الذي يفرض حظرا على مستوى الولاية لحماية الملاذات الآمنة للمهاجرين غير الشرعيين، علما بأن ولاية فلوريدا ليس لديها تشريعات من هذا القبيل، ما دعا المدافعين عن الهجرة إلى القول إن القانون دوافعه سياسية.
وهكذا، باختصار شديد يمثل دي سانتيس نموذجا مثاليا للشخصيات السياسية الإشكالية التي تتصارع، سواء مع الطبقة السياسية التقليدية داخل الحزب الجمهوري نفسه، أو مع الحزب الديمقراطي وتياراته المختلفة. وصعوده السياسي قد يشكل مثالا صارخا عن التغيير البنيوي الذي يمر به الحزب الجمهوري، الذي بات يطلق عليه اليوم «حزب ترمب»، مبتعدا عن وسطيته وتقاليده السياسية التي وفرت للحياة السياسية الأميركية توازنا دقيقا، ما قد يهدد بنمو قوى التطرف السياسي في المقلب الآخر، مع قيادات يسارية راديكالية باتت تفرض يوما بعد يوم حضورها القوي، رغم انضباطها حتى الآن تحت سقف المحصلة العامة لدى الديمقراطيين.
- نحو منصب الحاكم
عام 2012، أعلن درون ي سانتيس أنه سيخوض الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عن الدائرة السادسة لمجلس النواب في فلوريدا، حيث فاز على 6 مرشحين جامعاً 39 في المائة من الأصوات، ثم هزم مرشحة الحزب الديمقراطي هيذر بيفن في الانتخابات العامة بنسبة 57 مقابل 43 في المائة. وبقي في منصبه حتى العام 2018 ليترشح على منصب حاكم الولاية في ذلك العام.
خلال حملة انتخابات عام 2016 أعلن دي سانتيس ترشحه لمنصب عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، بعدما ترشح السيناتور الجمهوري من أصل كوبي ماركو روبيو لمنصب الرئاسة الأميركية في مواجهة دونالد ترمب. ولكن بعد خسارته الانتخابات التمهيدية أمام ترمب، أعلن روبيو نيته الترشح مجدداً لمجلس الشيوخ، الأمر الذي أجبر دي سانتيس على الانسحاب من السباق، بضغط من الحزب الجمهوري الذي كان يخشى تشتت أصوات الناخبين، وخصوصاً الكتلة اللاتينية ذات الأغلبية الكوبية، ما قد يعرضهم لخسارة مقعد عزيز في «ولاية جمهورية». ومجدداً، اختار دي سانتيس الترشح مجددا لمقعده النيابي في مجلس النواب حيث غدا واحدا من أشد مناصري ترمب.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2017، أعلن ترمب أنه سيدعم دي سانتيس إذا ترشح لمنصب حاكم ولاية فلوريدا. وبالفعل، في يناير (كانون الثاني) 2018، أعلن دي سانتيس ترشحه لخلافة الحاكم الجمهوري المنتهية ولايته ريك سكوت. وخلال الانتخابات التمهيدية للجمهوريين، شدد دي سانتيس على دعمه لترمب، عرض مقطعاً انتخابياً مصوراً يظهر فيه كيفية تعليم أطفاله «بناء الجدار» مع المكسيك. وردد شعار «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، كما ألبس أحد أبنائه قبعة حمراء مطبوعا عليها ذلك الشعار.
وفي أغسطس (آب) 2018 ربح الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لمنصب الحاكم، ليفوز في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) على منافسه الديمقراطي الأسود أندرو غيلوم، عمدة مدينة تالاهاسي، بعد إعادة فرز الأصوات. إلا أنه أثار لغطاً كبيراً لكلمات قالها زعم أنها عنصرية، حين قال إن «آخر شيء علينا القيام به هو محاولة رفع قرد يتبنى أجندة اشتراكية وزيادات ضريبية ضخمة وإفلاس الولاية». واعتبرت كلمة «قرد» عبارة عنصرية، لكون خصمه غيلوم أميركياً أسود من أصل أفريقي. وحظي الحادث بتغطية إعلامية واسعة، نفى بعدها دي سانتيس أن يكون تعليقه قد تعمد توجيه إشارات عنصرية.
وبعد ثلاثة أيام من تأديته اليمين الدستورية في 8 يناير 2019، أصدر عفواً عن أربعة رجال سود أدينوا زورا بالاغتصاب عام 1949، لينفي عنه تهمة العنصرية. ولكن في الأسبوعين الأولين له في المنصب، عين 3 قضاة، هم باربرا لأجوا وروبرت جيه لوك وكارلوس جي مونييز، لملء الشواغر الثلاثة في المحكمة العليا في فلوريدا، ما أدى إلى تحويل غالبية المحكمة من ليبرالية إلى محافظة.
- مواقفه من كوفيد ـ 19
لعل المبارزات السياسية الأكثر إثارة للجدل التي خاضها دي سانتيس، هي تلك المتعلقة بالتعامل مع جائحة كوفيد19. إذ قرر في مارس 2020، ألا يعلن حال الطوارئ في فلوريدا. وبعد إلغاء المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري عام 2020 في مدينة تشارلوت في أعقاب النزاع بين ترمب وحاكم ولاية نورث كارولينا روي كوبر، بسبب اعتراض الأخير على تنظيم تجمع كبير بغياب «بروتوكولات» للصحة العامة لمنع انتشار الفيروس. أطلق دي سانتيس حملة ناجحة لجعل مدينة جاكسونفيل في فلوريدا مكاناً بديلاً للمؤتمر، متنافسا مع ولايات جمهورية أخرى هي تينيسي وجورجيا. ولكن في النهاية، تقرر إلغاء الحدث بأكمله لصالح التجمعات عبر الإنترنت والتلفزيون.
ووفقاً لصحيفة «صن سنتينال»، فإن الرجل الذي يدين بمنصبه إلى الدعم المبكر من ترمب، فرض نهجا يتماشى مع آرائه وقاعدته القوية من مؤيديه. فلقد رفض دي سانتيس تنفيذ قرار ارتداء الكمامات الفيدرالي في ولايته، وتأخر في تطبيق قرار البقاء في المنازل «لأن الرئيس ترمب لم يصدر قراراً بعد»، في الوقت الذي كانت فلوريدا واحدة من أكثر المراكز العالمية التي ينتشر فيها الفيروس، حيث اتهم بتهميش خبراء الصحة والعلماء. وإبان حملة إعادة انتخاب ترمب، عمل على مساعدته في الفوز بفلوريدا، حيث حضر تجمعاته من دون ارتداء الكمامة، خلافاً لتوجيهات الصحة العامة في ذلك الوقت.
- سياسي يميني محافظ
كسياسي محافظ، يتبنى دي سانتيس مواقف يمينية تتراوح من معارضته الإجهاض وموانع الحمل، إلى «خفض الإنفاق بدلا من زيادة الضرائب لتقليل العجز في الميزانية الفيدرالية وتقليص حجم الدولة لتحفيز النمو الاقتصادي». وحقاً، صوت لمصلحة قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017. وقال إن مشروع القانون سيؤدي إلى «معدل ضرائب أقل بشكل كبير» و«إنفاق كامل للاستثمارات الرأسمالية» وضمان المزيد من الوظائف لأميركا.
أخيراً يعارض دي سانتيس برامج التعليم الفيدرالية مثل قانون «عدم ترك أي طفل وراء الركب»، بحجة أن سياسة التعليم يجب أن تقر على المستوى المحلي. وفي يونيو الماضي، قاد دي سانتيس جهدا لحظر تدريس نظرية العرق النقدي في المدارس العامة في فلوريدا، رغم أنها لم تكن أبدا جزءا من المنهج الدراسي في الولاية. وفي المقابل، قدم مواد جديدة لتعليم التربية المدنية، بما في ذلك دروس حول «شر الأنظمة الشيوعية والشمولية»، ما دعا منتقدو القانون، بما في ذلك جمعية فلوريدا التعليمية، إلى القول إنه سيكون له «تأثير مخيف على الحرية الفكرية والأكاديمية»، وأن مشاريع القوانين صممت لترهيب المعلمين وقمع التبادل الحر للأفكار.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.