رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

صعوده يعكس التغييرات البنيوية التي يشهدها الحزب الجمهوري

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد
TT

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

رون دي سانتيس حاكم فلوريدا ونجم «حزب ترمب» الصاعد

قد يكون رونالد دي سانتيس حاكم ولاية فلوريدا الأميركية في طريقه ليكون أحد أبرز الشخصيات السياسية، التي سجلت اندفاعة صاروخية قياسية في المشهد الأميركي العام، والحزب الجمهوري بشكل خاص، خلال فترة زمنية قصيرة نسبياً.
عام 2018 عندما كان في الأربعين من عمره، أصبح دي سانتيس أصغر حاكم ولاية في الولايات المتحدة، عبر مسيرة قادته للصعود سريعا، من خدمته العسكرية كضابط ومحامٍ في مكتب المحامي العام للبحرية الأميركية، إلى مقاعد مجلس النواب الأميركي نهاية عام 2012. وفي الفترة الأخيرة برز اسمه كأحد أبرز المرشحين، لنيابة الرئيس الأميركي، في حال ترشح الرئيس السابق دونالد ترمب في انتخابات 2024. وهو ما أوحى به في أحد خطاباته الأخيرة، أو لمنصب الرئاسة نفسها إذا أحجم ترمب عن الترشح... وهذا، بعدما تمكن من تقديم نفسه كأحد أخلص ورثة «الترمبية»، متبنيا خطابا زايد فيه على معظم «يمينيي» الجمهوريين و«وسطييهم» على حد سواء.
تمكن رون دي سانتيس سريعاً من التموضع تحت شعارات دونالد ترمب، منذ أعلن الأخير خوضه انتخابات الرئاسة الأميركية صيف العام 2015. ثم تحول إلى أحد أبرز المؤيدين لخطابه السياسي الشعبوي، المتناغم تماماً مع أفكاره ومعتقداته التي وصفت بـ«المتطرفة»، في العديد من الملفات والقضايا الخلافية التي شهدتها ولا تزال الولايات المتحدة. واليوم يقول منتقدوه إنه يدرك تماماً بأن حظوظه السياسية، سواءً في حال أراد خوض انتخابات التجديد لمنصب حاكم فلوريدا عام 2022 أو انتخابات الرئاسة عام 2024، مرهونة بعلاقته بـ«صانع الملوك» ترمب في الحزب الجمهوري.
كانت لافتة جداً اندفاعة دي سانتيس الأخيرة لتبني العديد من التشريعات المتشددة الهادفة إلى تقييد حق التصويت في ولايته وعلى المستوى الوطني. إذ دعا إلى إلغاء صناديق الاقتراع خارج مراكز الاقتراع، فضلاً عن الحد من التصويت عن طريق البريد من خلال مطالبة الناخبين بإعادة التسجيل كل عام للتصويت بالبريد والمطالبة بأن التوقيعات على بطاقات الاقتراع بالبريد «يجب أن تتطابق مع أحدث توقيع في الملف». وفي موضوع كوبا، هناك من يقول إن حرص دي سانتيس على الحفاظ على العلاقات المتوترة والقطيعة مع كوبا بشكل خاص، يعادل الاحتفاظ بولاية فلوريدا في قبضة الجمهوريين. ولذا عندما أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما عن إعادة العلاقات معها، مع ما كان يعنيه ذلك بالنسبة لمستقبل النظام الشيوعي نفسه في كوبا، كان الجمهوريون أكثر المتوترين.
- سيرته الشخصية
ولد رون دي سانتيس يوم 14 سبتمبر (أيلول) 1978 في مدينة جاكسونفيل الكبيرة بشمال شرقي ولاية فلوريدا. وهو كاثوليكي، والده رونالد دي سانتيس من أصل إيطالي ووالدته كارين روجرز. وهو متزوج من كايسي بلاك، المذيعة التلفزيونية السابقة.
انتقلت عائلته إلى مدينة أورلاندو، ثم إلى دنيدن بفلوريدا، عندما كان عمره ست سنوات. وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية عام 1997، التحق بجامعة ييل العريقة، حيث كان قائد فريق البيسبول (كرة القاعدة) في الجامعة وانضم في العام نفسه إلى أخوية دينية كاثوليكية. وبعد التخرج في جامعة ييل عام 2001 بدرجة البكالوريوس في التاريخ بامتياز مع مرتبة الشرف، أمضى سنة علم للتاريخ في إحدى المدارس، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة هارفارد، العريقة أيضاً، وتخرج فيها عام 2005 مجازاً في القانون بامتياز.
وعام 2004 تلقى دي سانتيس دورة ضابط احتياط بحري، وعين في فيلق المحامي العام في مركز الاحتياط البحري الأميركي في مدينة دالاس بولاية تكساس، بينما كان لا يزال طالبا في كلية الحقوق بجامعة هارفارد. وأكمل مدرسة العدل البحرية في 2005. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عين مدعيا عاما في مكتب خدمة القيادة الجنوبية الشرقية في القاعدة البحرية «ماي فورت» بفلوريدا.
وفي عام 2006 رقي دي سانتيس إلى رتبة ملازم حيث عمل مع قائد «قوة المهام المشتركة» في قاعدة غوانتانامو، وعمل مباشرة مع المحتجزين في المعتقل. وعام 2007 عين مستشاراً قانونيا للقوات الأميركية الخاصة «نافي سيل» المنتشرة في الفلوجة في العراق، حيث خدم لمدة سنة، ليعين مجددا بعد عودته من العراق في الخدمة القانونية للمنطقة البحرية الجنوبية الشرقية.
بعدها، عينته وزارة العدل كمساعد المدعي العام الأميركي في المنطقة الوسطى بفلوريدا، ثم محامي دفاع للمحكمة حتى تسريحه من الخدمة الفعلية في فبراير (شباط) 2010. وحصل خلال هذه المسيرة على وسام النجمة البرونزية، وميدالية تكريم سلاح البحرية وميدالية الحرب العالمية على الإرهاب وميدالية الحملة العراقية.
- مسيرته في الكونغرس
سجل دي سانتيس في مجلس النواب يشهد بالتزامه السياسي اليميني، إذ تبنى عام 2017 تشريعاً يلغي القيود على الرئيس لمنعه من إقالة المستشارين الخاصين، مستهدفاً المستشار روبرت مولر الذي حقق في تدخل روسيا بالانتخابات. وقبل ذلك عام 2016 تبنى تشريعاً يلزم وزارة العدل على تقديم تقارير ولوائح إلى الكونغرس، في حال امتنعت أي وكالة فيدرالية عن إنفاذ القوانين تقديمها لأي سبب من الأسباب، مستهدفاً الرئيس الأسبق باراك أوباما. أيضاً، تبنى عام 2018 تشريعاً يدعو إلى تقييد فرض ضرائب جديدة، خصوصاً على الشركات، يتضمن تصويت الغالبية العظمى لإبطاله، وعارض السماح للبالغين الأصحاء الذين ليس لديهم أطفال الحصول على خدمات برنامج الرعاية الصحية «ميديكيد».
أيضاً تبنى دي سانتيس تشريعاً يدعم الذين يحملون تراخيص بحمل أسلحة نارية بعرضها علانية بدلا من إخفائها. وبينما شجع عمداء الشرطة المحليون في فلوريدا، على التعاون مع الحكومة الفيدرالية في القضايا المتعلقة بالهجرة، عارض بقوة مشروع «داكا» الخاص بالمهاجرين «الحالمين» الذين قدموا إلى الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية عندما كانوا أطفالا. ووقع في يونيو (حزيران) 2019 قانونا يفرض على الشركات استخدام برنامج التأكد «إي فيريفاي»، الذي يفرض حظرا على مستوى الولاية لحماية الملاذات الآمنة للمهاجرين غير الشرعيين، علما بأن ولاية فلوريدا ليس لديها تشريعات من هذا القبيل، ما دعا المدافعين عن الهجرة إلى القول إن القانون دوافعه سياسية.
وهكذا، باختصار شديد يمثل دي سانتيس نموذجا مثاليا للشخصيات السياسية الإشكالية التي تتصارع، سواء مع الطبقة السياسية التقليدية داخل الحزب الجمهوري نفسه، أو مع الحزب الديمقراطي وتياراته المختلفة. وصعوده السياسي قد يشكل مثالا صارخا عن التغيير البنيوي الذي يمر به الحزب الجمهوري، الذي بات يطلق عليه اليوم «حزب ترمب»، مبتعدا عن وسطيته وتقاليده السياسية التي وفرت للحياة السياسية الأميركية توازنا دقيقا، ما قد يهدد بنمو قوى التطرف السياسي في المقلب الآخر، مع قيادات يسارية راديكالية باتت تفرض يوما بعد يوم حضورها القوي، رغم انضباطها حتى الآن تحت سقف المحصلة العامة لدى الديمقراطيين.
- نحو منصب الحاكم
عام 2012، أعلن درون ي سانتيس أنه سيخوض الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري عن الدائرة السادسة لمجلس النواب في فلوريدا، حيث فاز على 6 مرشحين جامعاً 39 في المائة من الأصوات، ثم هزم مرشحة الحزب الديمقراطي هيذر بيفن في الانتخابات العامة بنسبة 57 مقابل 43 في المائة. وبقي في منصبه حتى العام 2018 ليترشح على منصب حاكم الولاية في ذلك العام.
خلال حملة انتخابات عام 2016 أعلن دي سانتيس ترشحه لمنصب عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، بعدما ترشح السيناتور الجمهوري من أصل كوبي ماركو روبيو لمنصب الرئاسة الأميركية في مواجهة دونالد ترمب. ولكن بعد خسارته الانتخابات التمهيدية أمام ترمب، أعلن روبيو نيته الترشح مجدداً لمجلس الشيوخ، الأمر الذي أجبر دي سانتيس على الانسحاب من السباق، بضغط من الحزب الجمهوري الذي كان يخشى تشتت أصوات الناخبين، وخصوصاً الكتلة اللاتينية ذات الأغلبية الكوبية، ما قد يعرضهم لخسارة مقعد عزيز في «ولاية جمهورية». ومجدداً، اختار دي سانتيس الترشح مجددا لمقعده النيابي في مجلس النواب حيث غدا واحدا من أشد مناصري ترمب.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2017، أعلن ترمب أنه سيدعم دي سانتيس إذا ترشح لمنصب حاكم ولاية فلوريدا. وبالفعل، في يناير (كانون الثاني) 2018، أعلن دي سانتيس ترشحه لخلافة الحاكم الجمهوري المنتهية ولايته ريك سكوت. وخلال الانتخابات التمهيدية للجمهوريين، شدد دي سانتيس على دعمه لترمب، عرض مقطعاً انتخابياً مصوراً يظهر فيه كيفية تعليم أطفاله «بناء الجدار» مع المكسيك. وردد شعار «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، كما ألبس أحد أبنائه قبعة حمراء مطبوعا عليها ذلك الشعار.
وفي أغسطس (آب) 2018 ربح الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لمنصب الحاكم، ليفوز في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) على منافسه الديمقراطي الأسود أندرو غيلوم، عمدة مدينة تالاهاسي، بعد إعادة فرز الأصوات. إلا أنه أثار لغطاً كبيراً لكلمات قالها زعم أنها عنصرية، حين قال إن «آخر شيء علينا القيام به هو محاولة رفع قرد يتبنى أجندة اشتراكية وزيادات ضريبية ضخمة وإفلاس الولاية». واعتبرت كلمة «قرد» عبارة عنصرية، لكون خصمه غيلوم أميركياً أسود من أصل أفريقي. وحظي الحادث بتغطية إعلامية واسعة، نفى بعدها دي سانتيس أن يكون تعليقه قد تعمد توجيه إشارات عنصرية.
وبعد ثلاثة أيام من تأديته اليمين الدستورية في 8 يناير 2019، أصدر عفواً عن أربعة رجال سود أدينوا زورا بالاغتصاب عام 1949، لينفي عنه تهمة العنصرية. ولكن في الأسبوعين الأولين له في المنصب، عين 3 قضاة، هم باربرا لأجوا وروبرت جيه لوك وكارلوس جي مونييز، لملء الشواغر الثلاثة في المحكمة العليا في فلوريدا، ما أدى إلى تحويل غالبية المحكمة من ليبرالية إلى محافظة.
- مواقفه من كوفيد ـ 19
لعل المبارزات السياسية الأكثر إثارة للجدل التي خاضها دي سانتيس، هي تلك المتعلقة بالتعامل مع جائحة كوفيد19. إذ قرر في مارس 2020، ألا يعلن حال الطوارئ في فلوريدا. وبعد إلغاء المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري عام 2020 في مدينة تشارلوت في أعقاب النزاع بين ترمب وحاكم ولاية نورث كارولينا روي كوبر، بسبب اعتراض الأخير على تنظيم تجمع كبير بغياب «بروتوكولات» للصحة العامة لمنع انتشار الفيروس. أطلق دي سانتيس حملة ناجحة لجعل مدينة جاكسونفيل في فلوريدا مكاناً بديلاً للمؤتمر، متنافسا مع ولايات جمهورية أخرى هي تينيسي وجورجيا. ولكن في النهاية، تقرر إلغاء الحدث بأكمله لصالح التجمعات عبر الإنترنت والتلفزيون.
ووفقاً لصحيفة «صن سنتينال»، فإن الرجل الذي يدين بمنصبه إلى الدعم المبكر من ترمب، فرض نهجا يتماشى مع آرائه وقاعدته القوية من مؤيديه. فلقد رفض دي سانتيس تنفيذ قرار ارتداء الكمامات الفيدرالي في ولايته، وتأخر في تطبيق قرار البقاء في المنازل «لأن الرئيس ترمب لم يصدر قراراً بعد»، في الوقت الذي كانت فلوريدا واحدة من أكثر المراكز العالمية التي ينتشر فيها الفيروس، حيث اتهم بتهميش خبراء الصحة والعلماء. وإبان حملة إعادة انتخاب ترمب، عمل على مساعدته في الفوز بفلوريدا، حيث حضر تجمعاته من دون ارتداء الكمامة، خلافاً لتوجيهات الصحة العامة في ذلك الوقت.
- سياسي يميني محافظ
كسياسي محافظ، يتبنى دي سانتيس مواقف يمينية تتراوح من معارضته الإجهاض وموانع الحمل، إلى «خفض الإنفاق بدلا من زيادة الضرائب لتقليل العجز في الميزانية الفيدرالية وتقليص حجم الدولة لتحفيز النمو الاقتصادي». وحقاً، صوت لمصلحة قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017. وقال إن مشروع القانون سيؤدي إلى «معدل ضرائب أقل بشكل كبير» و«إنفاق كامل للاستثمارات الرأسمالية» وضمان المزيد من الوظائف لأميركا.
أخيراً يعارض دي سانتيس برامج التعليم الفيدرالية مثل قانون «عدم ترك أي طفل وراء الركب»، بحجة أن سياسة التعليم يجب أن تقر على المستوى المحلي. وفي يونيو الماضي، قاد دي سانتيس جهدا لحظر تدريس نظرية العرق النقدي في المدارس العامة في فلوريدا، رغم أنها لم تكن أبدا جزءا من المنهج الدراسي في الولاية. وفي المقابل، قدم مواد جديدة لتعليم التربية المدنية، بما في ذلك دروس حول «شر الأنظمة الشيوعية والشمولية»، ما دعا منتقدو القانون، بما في ذلك جمعية فلوريدا التعليمية، إلى القول إنه سيكون له «تأثير مخيف على الحرية الفكرية والأكاديمية»، وأن مشاريع القوانين صممت لترهيب المعلمين وقمع التبادل الحر للأفكار.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.