لوحات وتوقعات وليالٍ تملؤها النجوم: هل يمكننا أن نعرف فان جوخ؟

يستمتع الزوار بالتواجد داخل إحدى أشهر لوحات فان جوخ «ليلة النجوم» عبر عرض ثلاثي الأبعاد
يستمتع الزوار بالتواجد داخل إحدى أشهر لوحات فان جوخ «ليلة النجوم» عبر عرض ثلاثي الأبعاد
TT

لوحات وتوقعات وليالٍ تملؤها النجوم: هل يمكننا أن نعرف فان جوخ؟

يستمتع الزوار بالتواجد داخل إحدى أشهر لوحات فان جوخ «ليلة النجوم» عبر عرض ثلاثي الأبعاد
يستمتع الزوار بالتواجد داخل إحدى أشهر لوحات فان جوخ «ليلة النجوم» عبر عرض ثلاثي الأبعاد

في عام 2017، ذهبت في رحلة إلى باريس، حيث التهمت بكل جرأة أكبر قدر ممكن من الفن. في إحدى الغرف العلوية المزخرفة من متحف «ميوزي دورساي»، كان معرض فينسنت فان جوخ، لأعماله الشهيرة («ليلة مرصعة بالنجوم على الرون»، و«غرفة النوم في أرل»، و«الكنيسة في أوفرس»، وعدد من لوحاته الشخصية)، الموضوعة على خلفية زرقاء مجردة بدلا من جدران المتحف الأبيض البسيطة المعتادة.
كان لدي ملصق «ليلة النجوم»، موهوبا لي من قبل صديق في الكلية، منذ أيام الدراسة الجامعية. إنه معلق في غرفتي اليوم. في متحف أورساي، كنت أحدق في سماواته وحقوله التي لا تعرف النهاية، ووقفت لفترات طويلة أمام صورته الذاتية، المتجمدة في مكانها من عمق نظرته. وبكيت - فجأة، وبقوة، ثم خرجت مسرعة، لم أشعر من قبل بمثل رد الفعل العنيف هذا بسبب لوحة، ولم أشعر به مجددا بعد ذلك.
ما الذي يعنيه بناء علاقة حميمة مع فنان - ذلك الفنان الذي يفصله عنك أكثر من قرن من التاريخ؟ وهل يمكن إعادة تصور عمل الفنان لإعطاء الجمهور في العصر الحديث علاقة معاصرة أكثر حميمية مع الفن؟
جالت بخاطري هذه الأسئلة أثناء زيارتي لمعرضين متنافسين على أعمال فان جوخ في مانهاتن بمدينة نيويورك: معرض «فان جوخ ألغامر» Immersive Van Gogh» في الجسر 36 على النهر الشرقي، ومعرض «فان جوخ: التجربة الغامرة» «Van Gogh: The Immersive Experience» في سكايلايت بشارع فيزي. وعلى العكس من المشاعر العاطفية العالية التي انتابتني في متحف أورساي، جعلتني هذه العروض أشعر بعدم اكتراث إلى حد كبير، وفي الحقيقة، كان أقوى رد فعل عبارة عن إحساس قلق بالتطفل وارتباط مخادع بالفنان وعمله.
الأعمال الفنية التي تعتمد تقنية متطورة (غامرة) -وخصوصاً في المسرح - تحفز شعوري باللعب، وتنشط أحاسيس الناقد والفنان في داخلي. هناك فرق كبير بين الفن الذي ينطلق من مفهوم غامر، وبين فن يتم إدخاله قسرا في إطار التجربة ألغامرة.يستمتع الزوار بالتواجد داخل إحدى أشهر لوحات فان جوخ «ليلة النجوم» عبر عرض ثلاثي الأبعاد
ولكن في البداية كانت هناك ترجمة جميلة لفان جوخ: كان سقف الدخول إلى مركز المعارض «بيير36 في نيويورك» وهو عبارة عن إعادة ابتكار ثلاثية الأبعاد ومبدعة للوحة «ليلة النجوم» بواسطة المصمم ديفيد كورينز، والتي تضم الآلاف من فرش الرسم المطلية، والتي تبدو وكأنها تكريم لطيف - لفنان يستلهم أفكار فنان آخر في عمل يدعو إلى منظور جديد، مع توجيه أسلوب العمل الأصلي ورموزه من دون السعي لأن يكون نسخة طبق الأصل.
ومع ذلك كان ذلك مجرد مقبلات للعرض الرئيسي، سلسلة من الغرف المتصلة حيث يستلقي الناس، ويجلسون ويشاهدون مقطع فيديو من أعمال فان جوخ يعرض في كل أركان الغرفة، وهذا جعلني أشعر بالخمول. ولم يلفت انتباهي الشابات الصغيرات اللاتي يلتقطن الصور الذاتية، أو السياح الكبار في السن الذين يتجولون كما لو كانوا على شاطئ دافئ من الرمال، أو الأطفال المتململون الذين يتسلقون أعمال كورينز التجريدية الكبيرة، وأسطحها المنعكسة التي تلتقط جميع أزهار ونجوم الشمس، لقد واجهت الكثير من مثيلاتها في معارض المتاحف التقليدية لأعمال فان جوخ الفنية.
كان اختصار اللوحات في تسلسل الفيديو - ومدى سرعة ظهورها واختفائها. وكانت الرسوم المتحركة - سطوعها القوي الذي يبرز من ظواهر الضباب بحيث تعمل على انعكاس سحر العمل بصورة حرفية. لا يوجد مجال للدقة أو للتضمين في هذا السياق. كان جمال الاستيعاب من خلال إسقاطات حقول فان جوخ ذات الألوان المتعددة خافتا للغاية بسبب إهمال الترجمة. ولقد وقفت بجانب إحداها لأتفحص الإسقاطات ولم ألحظ ضربات الفرشاة القوية وتدرجات الألوان الدقيقة في غموض وضبابية الرقمنة.
سرعان ما أدركت أنه بالنسبة لعدد كبير من الحاضرين، فإن هذه التفاصيل غير مهمة. وكان الهدف هو استخدام الفن كخلفية لنوع من التجارب المسرحية.
كانت هذه التجربة على وجه التحديد هي التي نزعت مني الشعور بالراحة. كيف تصنع التجربة المسرحية من الفن الذي تم احتواؤه بشكل واضح وشخصي من منظور فان جوخ؟ ورغم كل الألوان والشخصيات في أعماله، إلا أنه من غير الدقيق أن يعاد رسم لوحاته كمشاهد طبيعية على الأرضية الشبيهة بالمسرح التي تخلقها هذه المعارض أمام الجمهور لاستكشافها، ليس كمعجبين، وإنما كمشاركين نشطين.
وعلى نحو مماثل، استخدم معرض فان جوخ في شارع فيزي الإسقاطات إلى جانب التفكيكات ثلاثية الأبعاد للوحاته، وشعرت بقدر أكبر من الارتياح إزاء عمليات إعادة الإنشاء الرائعة بحجم الحياة للأعمال الفنية، مثل «غرفة النوم في أرل»، في معرض وصف نفسه بأنه «متحف افتراضي». لكن عيني كانتا تتلألآن حول إعادة استنساخ القماش للعمل ذاته، وهي أدنى في حقيقتها من اللوحة الأصلية: إذ كانت الألوان قاتمة، والأنسجة غير موجودة، وألياف القماش لامعة بشكل مصطنع في أضواء المعرض.
هي ليست أعمال فان جوخ كما أذكرها، ولكن كان الفن متواجدا هنا على الأقل، قائما بذاته ومن تلقاء نفسه. وكان هنا الفنان - في تسلسل زمني يتناول حياته، مع نبذة موجزة عن حياته المهنية. لكنني وجدت الجزء الأخير من المعرض - رحلة عبر الواقع الافتراضي وعبر بعض المناظر الطبيعية التي استندت إليها لوحاته - غير مؤكدة من البداية. في هذا العالم الرقمي، طفت في منزل فان جوخ، ثم خرجت إلى الشارع بين الناس الذين يتجولون، ويعملون، ويدردشون. بين الحين والآخر، كان يظهر إطار أمام مجال رؤيتي، والمشهد يتحول ليتطابق مع نظيره المرسوم. لقد كان مقصودا أن نرى الفرق بين العالم الحقيقي وعالم فان جوخ كما يراه الرسام القارئ للأفكار. ولكن هل يستطيع أي مصمم للمناظر الطبيعية حقا أن يتخذ المكان الحقيقي للفنان؟ هل من الأفضل لبعض الغرف المجهولة في ذهن الفنان أن نتركها من دون أن يمسها أحد؟
* خدمة {نيويورك تايمز}



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».