هل يمكننا العيش بلا دوغمائية؟

اليونانيون القدماء أول من رصد مفهومها على مستوى الفكرة التي نستعملها اليوم

غرامشي
غرامشي
TT

هل يمكننا العيش بلا دوغمائية؟

غرامشي
غرامشي

ليست الدوغمائيات، بصفتها أنظمة عقائدية أساساً لآيديولوجيا المجتمعات، بالأمر الطارئ في حياة البشر، بل إنها رافقت المراحل الأولى لنشوء الحضارات القديمة، وتحولت مع تعاقب العصور، وزيادة تعقيد الاجتماع الإنساني، إلى أداة هيمنة لا غنى عليها بيد النخب الحاكمة، من أيام الفراعنة الأوائل حتى الأنظمة الشمولية في القرن العشرين. و«الدوغما» هي حالة من الجمود الفكري والتعصب الشديد للأفكار والمبادئ والقناعات، لدرجة معاداة كل ما يختلف عنها، ورفض قبول ما قد ينقضها، وهي بالطبع لم تتوارَ يوماً، على الرغم من مغامرات الفكر والفلسفة والعلوم في النصف الثاني من القرن العشرين، لا سيما مرحلة ما بعد الحداثة التي لم تكد تُبقي من شيء لم تسائله أو تطرح الشكوك في مغزاه ومعناه وجدواه وقيمته الفعلية للحالة الإنسانية، إذ رافق كسر أصنام الحداثة موجة ردة فعل حادة أحياناً إلى التاريخيات والأصوليات المتوارثة السابقة لها، فيما استبدل آخرون بأصنامهم القديمة أقانيم الاستهلاك وأوهام الفردانية التي أينعت في ظل الرأسمالية المتأخرة.
والدوغمائية بحكم بنيتها تتغلغل في أذهان البشر تدريجياً، من خلال عمليات التنشئة المجتمعية بمختلف أشكالها، بيد أنها مع ذلك تبقى -بشكلٍ عامٍ- غير محسوسة ولا محددة بالنسبة للأفراد، وإن حكمت سلوكياتهم وأفكارهم، في وعيهم ولا وعيهم على حد سواء. وقد احتاج رصدها دوماً إلى حكمة وتجرد وتأمل مديد في الأحداث والأشياء لم يكن ليمتلكها تاريخياً سوى قلة من الفلاسفة ومحبي الحكمة والنابهين. لكننا مع ذلك الانتشار المتشظي لأدوات وتطبيقات التواصل الاجتماعي بين مليارات البشر خلال العقدين الأخيرين، أصبح باستطاعتنا -لأول مرة في التاريخ- القبض على الدوغمائيات متلبسة بجرائمها الجماعية، من خلال مراقبة تفاعل الأفراد والمجموعات فيما بينها حول مختلف المسائل، من النظريات الفلسفية إلى التحليلات الطبية، ومن أحداث العالم إلى الأفكار الدينية، ومن المواقف السياسية إلى أحدث منتجات الثقافة الشعبية. هنا، على هذه المنصات التي من المفترض نظرياً أنها أدوات تواصلٍ وتلاقٍ، غرقت البشرية في بحور من الدوغمائيات المتنافسة، بكل ما ينتج عنها من جمود فكري وتبعية عمياء وتخندقات متقاطعة وتعميق للاستقطاب وتصعيد للصراعات.
كان اليونانيون القدماء أول من رصد مفهوم الدوغمائية على مستوى الفكرة التي نستعملها اليوم. والكلمة عندهم مشتقة من الاعتقاد، وتشير إلى ما يمكن وصفه بمجموعة توجيهات السلطة الحاكمة. وفي دراسات العصور الوسطى، يتردد وصف «الدوغما» الرسمية للكنيسة التي كانت تؤدي مغامرة أي من الرعايا بإنكارها إلى تبرؤ وسطه الاجتماعي منه، هذا إذا كان محظوظاً ولم يعذب أو يحرّق بناء على قرارات إدانة من محكمة تفتيش.
وقد بدأت الكلمة تتجه لأن تكون أقرب لوصف انتقادي مع بدايات صعود البرجوازية (أو ما يعرف بالأزمنة الحديثة) التي كانت تعظّم المنهج التجريبي، وترفض الدوغما (العلمية) الأرسطية المتوارثة. وبذلك المعنى (التاريخي) للكلمة، قد تفهم الدوغمائية بصفتها اعتقادات لا يمكن الشك فيها، لكن الأمر في الواقع أعقد من ذلك. فهي ليست مجرد وجهة نظر قد يحبها المرء، أو يؤمن بأنها حقيقية، أو يُضحي شغوفاً بها، بقدر ما هي مرتبطة بشكل ما من أشكال السلطة، سياسية أو ثقافية أو اجتماعية لا فرق، وليست بالضرورة مفروضة قسراً، إذ إن هناك كل أنواع العقائد التي يتبعها الناس طواعية، أو يتهيأ لهم ذلك على الأقل، وبعضها ربما نشأ بصفته مجموعة من الأفكار -بسيطة كانت أو معقدة- المتصلة بنهج ما لمفكر بارز أو زعيم كاريزمي يقوم أتباعه بتحويلها إلى عقائد دوغمائية.
وهكذا، هناك اليوم تروتسكيون وماويون وهيغليون وديليزيون وجيجيكيون وأوباميون وترمبيون... والأخطر هنا دائماً أن الدوغمائيين يتبنون تلك المعتقدات المبنية على أساس سلطة قبلوها، وهم يفعلون ذلك لأنفسهم بأنفسهم دون تدخل مباشر بالضرورة من صاحب تلك السلطة، ويكونون مرتاحين في تقبل أي طروحات تأتي منه دون جدال.
ومن الجلي الآن أن بعض الدوغمائيات تُحتضن دون أدنى إدراك من الأفراد بأنهم يقدمون على ذلك، وتتحول إلى جزء من تكوين الأشخاص وطريقة عيشهم، فالأمر لا يقتصر على مسألة الأصوليات والأحزاب السياسية وما شابه، إذ تعددت مصادر السلطة في المجتمعات المعاصرة، لتشمل مختلف أشكال السلطات الاجتماعية والثقافية، تاريخية ومستجدة، محلية وعالمية في آن، ولكل منها إسقاطات دوغمائية تنعكس على تفكير الأشخاص وسلوكهم ونظرتهم لتجربتهم الوجودية في إطار ما يسميه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي بـ«الحس الجمعي السليم». ويصعب بالطبع تشخيص التفكير الدوغمائي عن طريق المنطق من دون الكشف عن سياقه الثقافي - الاجتماعي. مثلاً، هناك الاعتقاد الغادر بأنه يمكن نيل السعادة في الحياة الدنيا من خلال فعل ما يفعله الآخرون، أو بتحقيق حلم مادي نموذجي على مثال «الحلم الأميركي» العتيد، ليجد المرء أنه قد أفنى عمره في مطاردة أمور لم تجلب له السعادة أو الارتياح، أو يقضي وهو لم يحصل عليها بعد.
ولكن هل يمكن للفرد عملياً العيش بلا دوغمائيات؟ أوساط الفلسفة البرجوازية المعاصرة تتقبل النسبية الواضحة في تداول المفهوم، بصفته يعبر عن التمسك غير المبرر بالآراء والمواقف المؤسسة، مع الاعتراف الضمني بتطور الحياة وحركة الأشياء، إذ إن كل فكر حي مقبول في إحداثيات معينة من الزمان/ المكان لا بد أن يتقادم، ويصبح غير قادر على التعايش في إطار تلك الإحداثيات، فيجدر عندها استبداله فكر جديد به لا يلبث هو الآخر أن يصير قديماً، وهكذا دواليك. لكن البراءة التامة من الدوغما، وفق ذلك التصور، أقرب لأن تكون فقراً نظرياً، وفي هذا مفارقة بينة لا يسهل حلها فلسفياً، تدفع باتجاه تقبل حلول براغماتية (ذرائعية وفق المدرسة الأميركية) أو الاكتفاء بإدارة التوجهات وفق المعلومة المتوفرة لحظياً، دون انتظار تصورات كلية (كما في فلسفة التوجه الألمانية)، أو إدارة الظهر إلى العالم والانهماك في تفكيك ما وراء اللغة (عند أصحاب الفلسفة التحليلية الأنغلوفونية).
إلا أننا مع ذلك لا ينبغي أن نعتمد على الفلسفة لتجنب الدوغمائيات التي لا تقتصر حصراً على الآيديولوجيات السياسية والأصوليات الدينية، بل يمكنها ببساطة أن تلبس لبوساً فلسفياً في مكان/ لحظة ما عبر تحول فكر فلسفي معين إلى عقيدة ثابتة. ولا تساعد القراءة والمجادلات بدورها في كسر الدوغما بشكل فعال، إذ هما في النهاية مركزة للسلطة عند طرف دون الآخر، مما قد يعيدنا إلى الدائرة ذاتها حتماً، الأمر الذي يُبقي التفكير الذاتي وحده أمل الخلاص الممكن أمام الفرد في مواجهة العالم، شريطة أن يرتكز ذلك الفكر دائماً إلى منهج منطقي فلسفي –لا عقيدة فلسفية– في نقد الحجج، بغض النظر عن مصدرها: مبتدعة من التأمل، أو مستعارة من فلسفة مفكرين راحلين، أو ثمرة قراءة نصوص، أو نتاج تجربة مادية حسية شخصية. ومع ذلك، ربما نكون بذلك تحديداً ننشئ دوغما جديدة (ضد الدوغمائيات) وعقيدة (ضد العقائد)، لا سيما إذا كنا ننطلق في مشروعنا من وضع اجتماعي/ اقتصادي/ سياسي خاص مرتبط بلحظة تاريخية محددة.
وفي غياب الضمانات، قد لا يتبقى لنا سوى اتباع عوامل مخففة من غلواء الدوغمائيات، كقبول التعددية، ومبدأ تباين وجهات النظر حول المسائل المطروحة، دون الاعتماد على مصدر وحيد للمعلومات، فـ«الحكمة ضالة المؤمن؛ أنى وجدها كان أحق الناس بها»، وكذلك التخفف من الغلواء في تبني المواقف، أقله في المساحات غير الأساسية من الحياة الإنسانية، وديمومة النقد الذاتي، وتجنب مأزق الكسل الفكري، والانفتاح على إعادة بناء التوجهات وفق المعطيات الجديدة بعد تقييمها منطقياً. ومن قال إن العيش مهمة سهلة؟ إنها أمانة أشفقت منها الجبال، وحملها الإنسان.



مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).