الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن

مقتل 6 منهن في 2013.. والنيات الحسنة لا تكفي.. وتهديدات طالبان فوق رؤوس الجميع

الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن
TT

الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن

الشرطيات الأفغانيات على سطح صفيح ساخن

كادت بارفينا أن تنجو، لقد كانت في طريقها إلى منزلها بعد زيارتها وأطفالها لوالديها في شرق أفغانستان، وكانت بصحبة بعض النساء حين اقترب منهن رجلان ملثمان يستقلان دراجة نارية وسأل أحدهما وهو يتطلع في النساء المخبئة وجوههن خلف البراقع الزرقاء: «من هي بارفينا ابنة ساردار؟». لم يجب أحد، فاستخدم أحد الرجلين سلاحه في رفع البرقع الذي يغطي وجه أقرب النساء إليه، وبالنسبة إلى المجتمع الأفغاني المحافظ يعد هذا الفعل أشبه بفعل تجريدها من ملابسها علنًا. وردت بارفينا متسائلة: «من الذي يسأل؟»، وذلك بحسب رواية والدها وشقيقها. ورأى المسلحان وجهها وأطلقوا عليها 11 رصاصة.
قصة بارفينا، وهي واحدة من 6 شرطيات قُتلن عام 2013، حالة تمثل أسوأ ما يمكن أن يحدث، لكنها تكشف عن الأخطار والصعوبات التي تواجهها الشرطيات الأفغانيات، ومحاولات الغرب الحثيثة لتحقيق المساواة بين الجنسين في أفغانستان. وعلقت مأساة النساء تحت حكم حركة طالبان في مخيلة الغرب، وبات تحريرهن مثل صرخة لحشد الجهود. وتم ضخّ أموال وتقديم برامج في أفغانستان من أجل توفير فرص التعليم للفتيات، والمأوى للنساء، وإنتاج برامج تلفزيونية، وكل ذلك من أجل رفع مكانة المرأة في المجتمع.
مع ذلك اصطدمت تلك النيات الحسنة بالنهج المحافظ في أفغانستان. وكما توضح قصة المرأة، التي تعمل في صفوف الشرطة الأفغانية، لم تكن النظرة القمعية للمرأة لعنة تختص بحركة طالبان فحسب، بل هي جزء راسخ من المجتمع الأفغاني.
والآن بعد سحب الأموال والقوات الغربية من أفغانستان، السؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى نجح اللقاء بالغرب وما يمثله من قيم في تغيير البلاد، وما إذا كان للأفكار الغربية الخاصة بوضع المرأة أي تأثير.
في عام 2001، عندما سقط نظام طالبان، كان وضع المرأة في أفغانستان هو الأسوأ على وجه الأرض، إذ لم يكنّ يحصلن على أي فرص للتعليم أو الصحة وكان ضربهن في الأماكن العامة أمرا مقبولا في المجتمع. ونادرا ما كانت المرأة تخرج من المنزل، وعندما كانت تفعل ذلك كان من الضروري أن يصاحبها رجل، وتكون مغطاة من رأسها إلى أخمص قدميها بالبرقع.
وبعد مرور 14 عاما، هناك أمل ملموس أمام المرأة، خصوصا في المناطق الحضرية، إذ تذهب الفتيات إلى المدارس على الأقل حتى سن الحادية عشرة، وتحسنت الخدمات الصحية المقدمة للمرأة حتى في بعض المناطق النائية في البلاد. مع ذلك في المناطق الريفية والنائية، وفي المناطق التي تسكنها قبائل البشتون، في شرق وجنوب البلاد، لا تزال النساء يعشن حياة خانقة، إذ يتم إجبارهن على الزواج، وتتزوج الفتيات في سن صغيرة، وتتعرض النساء للضرب، وأحيانا للقتل في ما يعرف بجرائم الشرف.
وكان تعيين نساء في صفوف الشرطة من أولويات الحكومات وجهات التمويل الغربية، إذ كانوا يرون أن النساء والفتيات الأفغانيات اللاتي يتعرضن للعنف، أحيانا بشكل يومي، سيتشجعن على الإبلاغ عن أي انتهاك يتعرضن له، أو يطلبن المساعدة، إذا كان هناك نساء في الشرطة يمكنهن اللجوء إليهن. مع ذلك تلك الآمال تتصادم مع المحرمات الجنسية التي تسيطر على كل أشكال التعامل بين الرجال والنساء في أفغانستان. وتم وصف الشرطيات بالعاهرات اللائي يجلبن العار لأُسرهن. ويعني هذا الموقف العدائي أن النساء اليائسات واللائي يكنّ عادة فقراء وغير متعلمات هنّ من يعملن مع الشرطة.
وفي مجتمع يستخدم فيه الجنس كوسيلة ضغط وإخضاع، تتحمل كثيرات من الأفغانيات التحرش الجنسي خوفا على وظائفهن. تواجه الشرطيات الأفغانيات اللاتي يناضلن من أجل الحفاظ على سمعتهن مجموعة من المشكلات على أرض الواقع لا يفهمها المتبرعون الغربيون، مثل الحاجة إلى غرف تغيير ملابس منفصلة في أقسام الشرطة نظرا لخوف النساء من الذهاب إلى العمل وهنّ مرتديات الزي الرسمي. وبعد مرور 10 سنوات، وإنفاق ملايين الدولارات، لا يزال هذا الهدف المتواضع المتمثل في تعيين 5 آلاف شرطية محض سراب، إذ تم تعيين 2,700 شرطية فقط، أي أقل من 2 في المائة من أفراد الشرطة البالغ عددهم 169 ألفا، وذلك بحسب مكتب الأمم المتحدة في كابل الذي اعتمد على إحصاءات وزارة الداخلية الأفغانية.
يقول الخبراء في الشأن الأفغاني: «لم يتم تهيئة الموقف في أفغانستان للنساء للعمل مع الرجال، ومجتمعنا ليس مستعدا للشرطة النسائية للعمل هنا»، قال ذلك العقيد علي عزيز ميراكاي، الذي يرأس التوظيف بمحافظة مقاطعة نانغرهار، حيث عملت بارفيينا.
ويضيف العقيد ميراكاي بإقليم نانغرهار المحافظ، حيث كانت تعمل بارفينا: «الوضع في أفغانستان لا يسمح باختلاط النساء بالرجال في العمل، ومجتمعنا غير مستعد لتقبل نساء في جهاز الشرطة هنا». وأضاف ميراكاي الذي يدعم تعيين مزيد من النساء في صفوف الشرطة قائلا: «يقول قادة الشرطة الذين أعمل معهم إنهم لا يحتاجون إلى نساء يعملن معهم حتى الظهيرة ثم يذهبن إلى المنزل، بل يريدون تزويدهم برجال في سلك الشرطة». ويتنهد العقيد ميراكاي، الذي يدعم وجود المزيد من الشرطيات، مشيرا إلى أن قادة الشرطة بعمله قالوا: «نحن لسنا بحاجة إليهن للعمل معنا حتى الظهر والعودة إلى المنزل، فبدلا من الشرطة النسائية أرسل لنا الشرطة الذكور»، لافتا إلى حقيقة أن كثيرا من النساء يتركن العمل في وقت مبكر لرعاية أسرهن.
وفي محاولة للحصول على صورة شاملة تلخص تجربة المرأة في العمل داخل جهاز الشرطة، أجرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقابلات مع أكثر من 60 شرطية، وقادة شرطة من الذكور، ومسؤولين في وزارة الداخلية، ومسؤولين عسكريين غربيين، فضلا عن أعضاء في منظمات غير حكومية. وبحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة، تم تقديمه إلى الوزارة عام 2013 لكن لم يُنشر، تعرضت 70 في المائة من الشرطيات، اللاتي تم إجراء مقابلات معهن والبالغ عددهن 130، لتحرش جنسي، وأبلغ عدد قليل من الشرطيات عن تعرضهن للاغتصاب، أو ضغوط واضحة لممارسة الجنس.
وقالت جورجيت غانيو، رئيسة قسم حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أفغانستان: «بوجه عام لا تزال النظرة السلبية للشرطيات التي تتبناها وزارة الداخلية والمجتمع الأفغاني، وغياب آلية سرية لتقديم الشكاوى، والفساد، والافتقار إلى المرافق، والتمييز، والتحرش الجنسي، هي العراقيل الرئيسية».
ويعني الصدام بين القيم الغربية والواقع في أفغانستان أن البرنامج الذي كان يهدف إلى دعم المرأة قد أتى بنتائج عكسية، حيث عرّض النساء لانتهاكات وعقوبات. مع ذلك يمكن رؤية الإنجازات الحقيقية القليلة في بعض وحدات الأسرة التي تمنح الضحايا من النساء الفرصة للحديث إلى شرطيات والحصول على محاميات.
وقالت دبلوماسية غربية عملت لسنوات طويلة في أفغانستان، وتحدثت شريطة عدم ذكر اسمها نظرا لحساسية الموضوع بالنسبة إلى الحكومات التي استثمرت في برامج تدريب النساء للعمل في قوات الأمن: «من الغباء فرض قيمنا الليبرالية الغربية. ومن السهل علينا فتح الطريقة أمام هؤلاء النساء هناك، والتباهي بإنجازاتهن، ثم نغادر ونتخلى عنهن. وما الذي يحدث لهن؟». والصدام بين المثل الغربية والحقائق الأفغانية يكشف البرنامج الذي أنشئ لتعزيز دور المرأة في كثير من الأحيان عن نتائج عكسية للغاية، وخضوع المجندات أنفسهن لسوء المعاملة والعقاب.
وكانت الإنجازات ضئيلة ولكنها حقيقية في بعض وحدات الاستجابة للعائلة، التي تعطي الضحايا من النساء فرصة لإجراء محادثات مع شرطية والوصول إلى المحاميات.
وقال دبلوماسي غربي، أمضى سنوات كثيرة في أفغانستان، وطلب عدم نشر اسمه بسبب حساسية الموضوع بالنسبة إلى الحكومات التي استثمرت بكثافة في تدريب النساء الأفغانيات لقوات الأمن: «إن من العبث فرض معتقداتنا الغربية الليبرالية، فمن السهل بالنسبة لنا وضع هؤلاء النساء هناك واحترافهن للتجنيد لتحقيق إنجازات، ولكن بعد أن نغادر، سننهي حريتهن، وماذا يحدث لهن؟».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.