ماذا يقرأ الإرهابيون؟

زيارة خاطفة لمكتبات العنف المجانية

ماذا يقرأ الإرهابيون؟
TT

ماذا يقرأ الإرهابيون؟

ماذا يقرأ الإرهابيون؟

مثير للتساؤل، أن يخلو إعلام الإرهاب، من «القاعدة» وأخواتها وصولا إلى «داعش»، من لقطة ولو عابرة أو غير مقصودة يظهر فيها أحد عناصر التنظيم وهو يقرأ كتابا أو يطالع مرجعا أو حتى أضابير وأوراقا مصوّرة لأبحاث شرعية أو ملفات حربية وسياسية.
فعل القراءة الغائب أو المغيّب لا يبدو غريبا على تنظيمات تقوم بتجريف أي ثقافة مضادة أو مختلفة، ولم يكن مستغربا والحال هذه أن يبادر تنظيم داعش إلى نهب مكتبات الموصل دون تمييز وإحراقها، وهو يعيد التساؤل ذاته: لماذا تكره هذه التنظيمات كل ما يتصل بالثقافة؟ إذا ما فهمنا جرائمها ضد التراث والآثار والفنون فهي تأتي في سياق مشابه لرؤى متشددة أخرى تجاه هذه التجليات للثقافات المحلية والعالمية.
هي حرب تجريف ليس للأفكار أو الملفات السياسية أو حرب على الأنظمة السياسية كما يقال، بل ثقافة جاهلة تسعى إلى سحق كل خصومها والمختلفين معها في المستوى ذاته، فضلا عن المناوئين والمخالفين.
وإذا كان الحديث عن حرب الإرهاب ضد منتجات ثقافية قادمة من الخارج، بما فيها تلك الكتب الشرعية التي تطرح مفاهيم الجهاد والحرب والسلم بشكل موضوعي يستعرض فيها الجانب التاريخي لهذه القضايا الفقهية، فإن إصدارات «القاعدة» ذاتها لا تعدو أن تكون «انتقاءات» متحيّزة من كتب تراثية ومدونات فقهية مع تنزيلها على الواقع عبر آلية «الإزاحة»، بمعنى إنتاج معنى جديد للنصوص «المنتقاة» من رموز المدرسة السلفية بهدف استقطاب كوادر الجماعات الأخرى، ويمكن الحديث عن 3 حقب تنوعت فيها إصدارات «القاعدة»، حيث البدايات الأسطورية وحضور مؤلفات عبد الله عزام عن الكرامات والرؤى لـ«المجاهدين» بطريقة سردية قصصية لا تخلو من مبالغات وأكاذيب كانت مفتاح التغيير لكثير من جيل الثمانينات (جيل الكتيبات والكاسيت الإسلامي) الذين عادة ما تصطادهم هذه المؤلفات المكتوبة بعاطفة مشبوبة ولغة مستوفزة ومضامين استعدائية ومحرضة، لكن داخل التنظيم لم تتجاوز مكتبة «المجاهد» سوى إعادة إنتاج لكتب تأسيسية قادمة من الخارج لأسماء لامعة في الإسلام السياسي يأتي على رأسها «معالم على الطريق» لسيد قطب، و«العمدة في إعداد العدة» لسيد إمام، و«الفريضة الغائبة» لمحمد عبد السلام فرج، و«ملة إبراهيم» لأبي محمد عصام المقدسي (أفرج عنه مؤخرا للمرة الثانية في الأردن)، و«الاجتهاد والجهاد» لأبي قتادة المقدسي.
* من السلب إلى التأليف
* في المرحلة الثانية من النتاج الفكري والثقافي لـ«القاعدة» وجماعات التنظيم، تم الانتقال من مرحلة الانتقاء والسلب لمؤلفات أصولية من خارج المجموعة أو لرموز تنظيرية لا تتماس مع واقع المتشددين على الأرض إلى مرحلة التأليف المباشر والرد على الخصوم، ولم تكن المرحلة الثانية التي يمكن التأريخ لها مع انفجار «الحالة الجهادية» في المنطقة في بدايات التسعينات وتأزم الإسلام السياسي وانفصاله عن جسد المدارس التقليدية والمؤسسات الدينية الرسمية، وبالتالي انشقاق الجماعات المتشددة عن جسد الإسلام السياسي، مما استدعى إنتاجا مختلفا موجها لكوادر وعناصر التنظيمات الإسلامية المعتدلة والمتشددة، فكانت المؤلفات التي تتناول مباشرة الواقع، إما بتكفير دول إسلامية بعينها كما فعل المقدسي، أو بالرد على أبرز علماء العصر المعاصرين، وربما كانت المفارقة أن الشيخ الراحل محمد ناصر الدين الألباني أكثر من نالته سهام «القاعدة» والتنظيمات المسلحة بسبب مرجعيته الحديثية وتأثيره الكبير في صفوف تلك الجماعات فيما يخص كل الملفات الفقهية والعقائدية والحركية ما عدا «فقه الجهاد» وكانت الردود متباينة من «القاعدة» كما فعل أبو الوليد السوداني أحد الشخصيات العلمية في مرحلة «القاعدة» المبكرة، وكما فعل أبو إسراء الأسيوطي من «جماعة الجهاد» المصرية، وفعل سلفيون آخرون متعاطفون مع التيار المتشدد آنذاك.
* مرحلة التأسيس الثانية

* تبعت ذلك مرحلة التأليف المباشر من قيادات التنظيم، وكان حظ الظواهري وأبو مصعب السوري هو الأكثر، حيث كتب الظواهري عن تجربته ونقده لـ«الإخوان»، وكتب أبو مصعب السوري أهم مدونات التشدد المعاصرة «المقاومة الإسلامية المعاصرة».
المرحلة التأسيسية الثانية لمنتجات الإرهاب جاءت بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث انتعش التنظيم بسبب حجم الدعاية والماكينة الإعلامية الهائلة، إضافة إلى استثماره لتأثيرات الحدث والتعاطف معه وآثار الحرب على الإرهاب الفاشلة التي فاقمت الأزمة بعدها باحتلال العراق، ثم بانهيار الحالة العراقية، وتدهور الأوضاع في مناطق توتر وجبهات جديدة، وكان لدخول عناصر بخلفيات شرعية للتنظيم وبعضهم تلقى شهادة عالية في الشريعة والفقه، كما هو الحال مع أبو شويل فارس الزهراني وأبو حفص الموريتاني الفقيه الذي رافق بن لادن وانقلب على «داعش»، وآخرين.
لكن ولادة تنظيم داعش من رحم مناطق التوتر وبالتوازي مع غموض في علاقتها بالاستخبارات وخلفية آيديولوجية البعث الصارمة التي تصبغ فكر قادتها العسكريين، إضافة إلى تحسن ظروف الحرب على الإرهاب، ونجاح التجربة السعودية في المناصحة، مما أفقر التنظيم من قيادات شرعية بارزة عادة تنحاز لـ«القاعدة» أكثر من «داعش» في البدايات، وإن كانت الهيمنة الآن لـ«داعش» بسبب ما حققه من مشروع على الأرض في سابقة.
أكبر خزان معرفي على الشبكة
وإذا ما جاز لنا التساؤل عن ماذا يقرأ عناصر التنظيم، إن كانوا يقرأون؟ فإنه من نافلة القول أن أكبر مصدر للكتب المجانية على الشبكة تتفوق فيه المجموعات المتشددة على الجميع، بما في ذلك المبادرات والمشاريع الشبابية العربية الحكومية والأهلية في تدعيم القراءة المجانية أو مشاريع نوادي القراء وما تقدمه من كتب ومنتجات ومعلومات.
تتفوق «القاعدة» بما يقارب 4 آلاف منتج ما بين مادة صوتية ومرئية وكتب وملخصات وحقائب معدة تحاول أن تحاصره بما يحتاج إليه من معلومات بحيث ينحصر فعل القراءة في هذه المواد.
إطلالة سريعة على خزانات الإرهاب المعرفية على الإنترنت تقودنا إلى تشكيلة واسعة من تلك الحقائب، أبرزها «المكتبة الشاملة» التي تتضمن ملخصات عسكرية وأمنية وفكرية تتناول الإعداد البدني للمقاتل، والإسعافات الأولية، والتدريب على الأسلحة والتفجيرات، وطرائق التكتيك والتنفيذ العسكري وتشتيت الأمن واستراتيجية الحروب، وهنا برامج مخصصة لمعسكرات بعينها أشهرها «برنامج معسكر البتار» وهي دورة حربية وفكرية متقدمة، وإذا تجاوز الكادر هذه المرحلة ينتقل إلى مرحلة أخرى تحضر فيها مؤلفات مثل «المرجع الأكبر في استخدام المتفجر» - أبو عمر الفلسطيني في باب هندسة المتفجرات، وكتاب «موسوعة التصنيع» لأبو خباب المصري، وهي - رغم السجع والعناوين الضخمة - أشبه بملخصات وترجمات كتب عسكرية غربية.
الجنرال شميل باسايف أحد أهم القادة العسكريين الشيشان لمدة 15 عاما، حيث كان يشغل منصب قائد القوات المسلحة الشيشانية ضد العدوان العسكري الروسي. لديه موسوعة محببة لدى عناصر التنظيم كتبها قديما بأسلوب تحفيزي؛ كتاب باسم عبد الله شميل أبو إدريس، وهو يصف ما سماه «فلسفة المجاهد الحيوية وشخصيته وخبرته»، كما يتم وصف استراتيجية تكتيكية بطريقة فنية من وجهة نظر إسلامية.
* المكثرون من التأليف

* وإذا ما تجاوزنا المؤلفات الفردية، فإن المكثرين من التأليف في تاريخ مجموعات العنف قلة نادرة يقف على رأسهم أبو محمد المقدسي، يليه أبي بصير الطرطوسي (قرابة 180 رسالة)، ثم أبو قتادة المقدسي بما يناهز 100 رسالة وكتيب، ثم أبو يحيى الليبي بـ25 رسالة أغلبها ردود مختصرة، ويظل كتاب أبي بكر ناجي «إدارة التوحش» واحدا من أهم نصوص الإرهاب وأخطرها بالمطلق.
الترويج لنتاج «القاعدة»
ينتشر على شبكة الإنترنت الترويج لكتب «القاعدة» وإصداراتها حتى من مواقع دردشة وشات وترفيه بشكل غير مقصود، فأسماء هذه المؤلفات لا يوحي بمحتواها، كما أن مجانيتها ووجودها في أكثر من موقع ساهما في الانتشار، إضافة إلى أن جزءا كبيرا من انتشار منتجات «القاعدة» ومؤلفاتها لا يعود إلى طبيعة المحتوى وإنما إلى الآلة الإعلامية الضخمة لتلك التنظيمات التي تتبع استراتيجيات عديدة للانتشار، أبرزها:
إصدار البيانات الفورية حول الأحداث الدولية، وبيان موقفهم من بعض القرارات التي تتخذها الحكومات، وفق خطاب تحريضي صاخب، يعمد إلى تشويه صور الرموز السياسية، والتشكيك في نوايا العلماء الرسميين.
الاستراتيجية الثانية تكمن في طرح نجوم ومرجعيات دينية جديدة، يحرصون على إبداء رفضهم للهيمنة الغربية وتسلط الأنظمة الحاكمة، كما يوظفون في سجالات الخصوم عبر مناقشة الحجج الدينية، كما هو الحال في توظيف علي الخضير وناصر الفهد والخالدي.
وتأتي الاستراتيجية الثالثة في طرح كُتّاب إنترنت دائمين، ممن يكتبون بأسماء مستعارة، ويطرحون تأييدهم المباشر والعلني لأهداف التنظيم، عبر خطابات عاطفية وحماسية، يتم نشرها في أشهر المنتديات التي تحظى بمتابعة السعوديين، كما هو الحال مع الشخصية الأبرز تاريخيا «لويس عطية الله».
أما الاستراتيجية الأخطر وهي عادة غير مرصودة، فهي حجم التدفق الهائل وتبادل المعلومات الأمنية والخبرات العسكرية، عبر رسائل مشفرة مخفية (Steganography)، وهناك العديد من التقارير الأمنية التي نشرت في مجلات غربية، أكدت أن مجموعة من المتعاطفين مع «القاعدة» استخدموا وسيلة إخفاء الرسائل في ملفات صور وملفات موسيقى وغيرها في عمليات التراسل فيما بينهم، لا سيما أن هذه المهارات أصبحت سهلة المنال متاحة عبر قنوات التدريب ومواقع التعليم.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.