رفيف الظل: الأصدقاء بحرُ البوصلة

رفيف الظل: الأصدقاء بحرُ البوصلة
TT

رفيف الظل: الأصدقاء بحرُ البوصلة

رفيف الظل: الأصدقاء بحرُ البوصلة

مهلا! مَنْ وضع الصفاتِ في خلاّط وسوّاها، تشمّها الحواسُ ترفًا يميل له الندى وتلمسها العيون انبلاجًا في خجل الطلل، حمراء يحنُّ لها دم النية، بيضاء في لحن الملاك. قلْبُ الجهات، إسعاف الحنين، وشم الإله على جبين المجنون، وهذا الشلال نصف جناحها، وهذا النبع كلماتها الأولى.
لها إسراء الأسير، عناد النهر حين يغيّر مجراه، هتاف الأبنوس. ومن أجلها، يقفز المهاجر في قطاره الأخير. ونحوها، سمعنا عن بشر لا يعودون. وقربها، تستدير الشمس لتركع ظلالنا ونحن وقوف. ومن بين يديها، تبرق فضة الخلود. ليت لعابها البحر كي نغرق في الشفاء، ليت الأسماء ما اشتُقتْ من أصابعها، يحط البجع على البحيرات حين يلمسها الحرير، توشوش النجمة أختها فتهاجران لتاجها. يسكب الملاّك كنوزهم على بلاط قدميها طمعًا في ترابهما، والناي بعد عبورها الغابات فم.
الصفات من الله، والحب وحده يجعلنا في القارب نفسه كلما نوينا على السفر وعلينا اختيار الرفقة. الله يتركنا وحدنا في ساعة المعرفة. وتندلع أخلاطنا ممتزجة بمن يختاره لنا الحب، فلا تتريث عندما يتعلق الأمر بالعشق. تلك هي أقدارنا ونحن على الشفير، بعد الضفاف وقبل الولع.
جنة قدميها أعلى من سمو أم. رجال يصطفون بتيجانهم المرصعة بغزوات المجرات، عهدًا تلو عهد، علّهم يحظون بظلٍّ منها، أو حتى برفيف ظل. أعرف رجال قصور مسحوا أنوفهم في الوحل، وزعماء مافيا زحفوا تحت سياطها، ووصيفات نتفن شعورهن حزنا، ثم تماهى حرفها في ذهول الحاشية وانسدَّ ثقب الثرثرة. ولا لم ينَمْ ساحرُ الملكات، ورأينا الأرانب تقفز من قبعة السلحفاة، ثم صحن الريش رفرف جناحا في عطلة السماء، ثم تعثّرت خطوة الوالي في دورة الخواتم واستبدل الدهر عينيه بزمرد نردها.
*المشهد السادس:
أنا أعرف أصدقاء يصدّون الوجعَ عن الروح في اللحظة ذاتها التي تلتفت.
تلتفتُ حتى يكاد عنقك أن ينخلع، باحثًا عن ثلجة في هجير يجرح كبدك،
أصدقاء كأنهم لك، لك وحدك.
ليس لكم إلا أن تلتفتوا لكي تجدوا أصدقاء مثل النعيم، الحب يتشبّه بهم.
وكنت أعرف، كنت أعرف أنهم هناك طوال الوقت، يسقون الحديقة لأحلامي. جناحان وريش كثير واحتمالات لشمس حميمة.
نعمة أن يكون لك أصدقاء، والمعجزة أنهم يحبونك بالشكل الذي يؤرجحكَ على شفير فراديس غير منظورة.
هي شمسٌ ننزفُ أوردتهَا، فإذا أفلتْ، شككنا بالسماءِ، وأزرقّتْ بنا الوحدة.
لولا شمسُ أصدقائنا، لترققّتْ عظامُ أيامنا، فلم نجد من يمشي بنا زمانَنا.
يحدث لنا هذا كلما أوشكت أعناقنا على التلف. ليس ثمة مقارنة بين زنزانة الليل ونهار الحرية. الأصدقاء فقط يمنحون الحياة احتمالها.
الحياةُ سفرٌ في زجاجة، الأصدقاءٌ بحرٌ في بوصلة. حتى إذا فتحتَ دفترَ الوقت، تسنّى لك أن تقرأ ما يفسر لك أحلامك، ويسعى معك، قلبه في يديك، لا عليك.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.