زينة دكاش لـ«الشرق الأوسط»: العلاج النفسي ليس عيباً... والسجين اللبناني متروك

تُعلّم العلاج بالدراما في الجامعات ومركزها لشفاء الأفراد والشركات

المعالجة بالدراما زينة دكاش
المعالجة بالدراما زينة دكاش
TT

زينة دكاش لـ«الشرق الأوسط»: العلاج النفسي ليس عيباً... والسجين اللبناني متروك

المعالجة بالدراما زينة دكاش
المعالجة بالدراما زينة دكاش

تفتخر زينة دكاش وهي تخبر «الشرق الأوسط» بأنّ العلاج النفسي لم يعد «تابو». يتخطّاه الوعي المجتمعي، وتخرق أهميته الجدران البشرية الشاهقة ونظرات «العيب». دكاش معالجة بالدراما، مخرجة مسرح وأفلام وثائقية، وممثلة لبنانية، تجرأت حين كانت الجرأة مجازفة. كانت أول من أدخل تخصص العلاج بالدراما إلى لبنان والمنطقة منذ الـ2006. واليوم تبتسم لجمال الأثر، وقد ألهمت كثيرين ولمعت في التأهيل وبناء الثقة. نلتقيها للحوار في مشروع العمر، والشغف الذي من أجله درست في أميركا وجعلته يملأ حياتها. ألا تُتعِب آلام الآخرين المرء؟ كيف يحصّن ذاته؟ كيف يردعها من الانهيار النفسي؟ شفاء البشر رسالة رائعة.
نترك لها تعريف العلاج بالدراما، ولمن يتوجّه؟ «هو أدوار تمثيلية يلعبها من لا يرتاح بالتعبير من خلال البوح فقط، أو الذين لم يجدوا فيه منافع تريح أعماقهم». لا يجيد الجميع العلاج بالكلام (Talkative Therapy)؛ وقد يخجلون أو يتعثّرون بترجمة مشاعرهم. تعطي المراهق مثالاً: «إن سأله معالج نفسي: كيف الحال؟ سيجيب: بخير. كيف أمضيت نهارك؟ سيجيب: عادي. ويتجمّد الكلام. تفسّر دكاش: «يأتي إلينا حين لا يتطابق تعبيره مع إحساسه. نرسم له الأدوار ونساعده. قم بدور المُثقل من دروسه. قم بدور المنزعج من أستاذه. قم بدور المضطربة علاقته مع أهله. هنا يُخرِج أوجاعه ويفشّ خلقه».
تلامذة من لبنان، الأردن، مصر، الكويت... يسألون زينة دكاش التدريب المُحترف على العلاج بالدراما للأفراد الراغبين في ممارسة هذه المهنة، فتقدّم عبر مركزها، دورات وورشاً تدريبية، بالإضافة إلى خدمات توجيه وإشراف تؤهّل المعالجين بالدراما للتسجيل رسمياً وفق المنهج الأميركي. «كثارسيس» هو اسم المركز. مفردة يونانية تعني «التطهير» أو «التنقية»، أسسته عام 2007، حين عادت بعد تخصصها في العلاج بالدراما من الولايات المتحدة. بدأت العمل الاجتماعي، قبل أن يتعرف إليها اللبنانيون من خلال التلفزيون وعالم الكوميديا. انتسبت دكاش إلى جمعية «أم النور» اللبنانية المتخصصة في إعادة تأهيل مدمني المخدرات. وحين أسست مركزها، تفرّغت لعملها الخاص. علمتها خبرتها أنّ البعض يفضّل رسم حياته على أن يسردها في حكايات. فحين يتعلق الأمر بسوء العلاقة مع الأم مثلاً، سيشعر المريض- المريضة بثقل الخصوصية. هنا دور العلاجات البديلة. تعددها دكاش التي تتقن منها العلاج بالدراما، أي بالمسرح وأدواته: العلاج بالرقص، بالفنون، بالموسيقى... كلها تساعد في تفريغ الطاقة السلبية وتعيد بناء الثقة بالذات.
حين طلبت إذناً من الدولة اللبنانية لدخول السجون ومحاولة شفاء السجناء، أتاها الجواب المتوقَّع: «لا». أصرّت وحاولت، إلى أن بدأت الرحلة المستمرة، لولا تدخّل الكوفيد في يوميات الإنسان. تركت بهجة في نفوس السجناء والسجينات، في رومية وبعبدا، وأخرجت عروضاً مسرحية هم أبطالها، وأفلاماً وثائقية لا تزال تنال جوائز. علّمتهم المُشاركة والتقبُّل وترميم الروح. لمشاريع مثل «12 لبناني غاضب» (2009)، «شهرزاد في بعبدا» (2013) و«جوهر بمهب الريح» (2016)، الفضل في إعادة بشر إلى الحياة وولادتهم من جديد، بنفسية ضاحكة وتطلّعات مضيئة، بعد ضبابية مزّقت الرغبة في البقاء.
كيف تموّلين النشاطات وتؤمّنين استمرار المركز؟ «بعض المشاريع مدعوم من الاتحاد الأوروبي أو من سفارات أجنبية، ولدينا العيادة». تكشف أيضاً أنّ العلاج بالدراما متاح لشركات في لبنان والعالم العربي، فبعض العاملين يعانون حالات «السترس» في مراحل انتقالية من عملهم. «نقدّم تدريبات قد تطول مدّتها لدعم الموظفين نفسياً، وهذا مصدر تمويل، يُضاف إلى مردود العيادة والأفلام، فنغطي التكاليف».
تعلّم العلاج بالدراما في أربع جامعات لبنانية، وتوعّي الطلاب على أهمية دمج المسرح مع دواخل النفس. توقّف النشاط في السجون منذ «كورونا»، ولم تتوقّف عن مد اليد لمن يحتاج، باستشارة اجتماعية أو بناء جسور بين من هم خلف القضبان وعائلاتهم. «السجناء في لبنان متروكون لله. وجود الجمعيات يمدّهم ببعض الجدوى، فيتعلّمون مهارات كالكومبيوتر والإسعافات الأولية والرياضات الروحية... الدولة شبه غائبة عن كل نشاط». تسرد بعض المعاناة: «الحصول على إذن دخول السجون شاق. والإقناع بدور العلاج بالدراما، أكثر شقاء. ثمة سجناء يتأهّلون سريعاً بالتجاوُب وتحسين السلوك. (12 لبناني غاضب) أدّت إلى تطبيق قانون خفض العقوبات، وهذا إنجاز».
كيف تتحمّلين؟ أليست قاسية آلام الناس؟ ألا تهمد قدرة المرء أم أنّ للبعض طاقة استثنائية؟ يفرض المركز على موظفيه أخذ إجازات إلزامية، وتمضية الوقت حيث تحلو الروح. في الطبيعة مثلاً، بين الزقزقة والشجر. وتكمل: «على المعالج النفسي المرور بمرحلة العلاج الذاتي، فيكون قادراً على مداواة الآخرين. لم أصمد بثبات إلّا بعد تطهير طفولتي وعلاج الشاردة والواردة في نفسيتي. ومع ذلك، على المعالج النفسي أيضاً زيارة معالج نفسي آخر. التراكمات قاتلة، خصوصاً في لهيب هذه الأيام».
نصيحتها للأهل وكيفية تعاملهم مع أبناء خائفين من صدمة الانفجار والجائحة؟ وللأمهات المشوّشات وصعوبات التربية؟ ولكل «ضحايا» هذا الزمن المزري؟ «لا تخجلوا من العلاج. الصحة النفسية والعقلية مسؤولية كل إنسان».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».