«يوميات طائر الزنبرك» لهاروكي موراكامي بترجمة مدفوعة الحقوق

تصدر قريباً وتنشر {الشرق الأوسط} مقتطفات منها

موراكامي
موراكامي
TT

«يوميات طائر الزنبرك» لهاروكي موراكامي بترجمة مدفوعة الحقوق

موراكامي
موراكامي

بعد أيام قليلة، تصدر عن «دار الآداب» الترجمة العربية للجزأين الأول والثاني من رواية «يوميات طائر الزنبرك» للياباني الشهير هاروكي موراكامي، نقلها عن الإنجليزية أحمد المعيني. وبعد ما يقارب الشهرين ستصدر ترجمة الجزء الثالث، من الرواية، عن الدار نفسها. وجدير بالذكر أن الأجزاء الثلاثة، من رواية موراكامي هذه سبق لها أن ترجمت إلى العربية من قبل دار نشر مجهولة، بطباعة سيئة، كما شابها بعض الاجتزاء من النص. وهي ترجمة بقيت إنترنتية الصيغة، ولم توجد في السوق على الورق.
لكن صاحبة «دار الآداب» رنا إدريس قررت ولأهمية الرواية، ولما يتمتع به موراكامي من شعبية بين قراء الضاد، أن تشتري الحقوق، وتصدر الكتاب بنسخة عربية ذات ترجمة جيدة. وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام التساؤل حول فوضى النشر، وما يحدث في سوق الكتاب العربي. تعلق رنا إدريس على هذا الموضوع بقولها لـ«الشرق الأوسط»: «إن نسختنا مدفوعة الحقوق، وصدرت بالاتفاق مع الناشر».
و«يوميات طائر الزنبرك» تروي قصة تبدو لقارئها، للوهلة الأولى كأنها حكاية بوليسية، أو علاقة زوجية تتمزق، أو كأنما هي تنقيب عن أسرار دفينة من خبايا الحرب العالمية الثانية.
وهي حكاية تورو أوكادا الشاب الياباني الذي يبحث عن قط زوجته المفقود، غير أنه سرعان ما يجد نفسه في رحلة بحث عن زوجته نفسها في عالم آخر خفي. إذ يتقاطع بحثه عن القط مع بحثه عن الزوجة، فيلتقي زمرة غريبة من الأصدقاء والأعداء الذين يأتي كل واحد منهم ومعه حكاية: بدءاً من الفتاة المرحة، والسياسي الحقود، وانتهاءً بمقاتل سابق.
رواية يمتزج فيها الهزل بالشر. إنه عمل يذكر بروايات يوكيو ميشيما. فالرواية تطرح في عمقها عدداً من الإشكالات منها الهوية والعلاقة بالآخر، والصلة بين الظاهر والباطن كما التجربة الفردية الروحانية.

مقتطفات من{يوميات طائر الزنبرك»

رن الهاتف بينما كنت في المطبخ أغلي قليلاً من السپاغيتي، وأصفر مع افتتاحية العقعق السارق في المذياع، مقطوعة روسيني التي لا بد من أن تكون الموسيقى المثلى لطبخ الپاستا.
أردت أن أتجاهل الهاتف، لا لأن السپاغيتي كاد ينضج فحسب، بل كذلك لأن المايسترو كلاوديو أبادو كان لحظتها يقترب من ذروة السيمفونية. لكنني سلمت أمري، فلعل المتصل يحمل خبراً عن وظيفة. خففت من شدة الغاز، ثم مشيت إلى الصالة، والتقطت السماعة.
«عشر دقائق من فضلك».
كان صوت امرأة. ومع أني أميز الأصوات جيداً، فإن هذا لم يكن صوتاً أعرفه.
«معذرة، مع من تريدين التحدث؟».
«معك طبعاً. عشر دقائق من فضلك. هذا كل ما نحتاج إليه لنفهم بعضنا بعضاً»
كان صوتها خفيضاً ناعماً، لكنه غير مميز.
«نفهم بعضنا بعضاً؟».
«مشاعر بعضنا بعضاً».
انحنيت قليلاً ألقي نظرة عبر باب المطبخ. كانت قدر السپاغيتي تغلي جيداً، وكلاوديو أبادو لا يزال يعزف العقعق السارق.
«معذرة. أنا الآن منهمك في طبخ السپاغيتي. هل يمكنك الاتصال لاحقاً؟».
«سپاغيتي؟! من يطبخ سپاغيتي في العاشرة والنصف صباحاً؟».
«ليس هذا من شأنك. أنا من يحدد طعامي ووقت تناوله».
«معك حق. سأتصل لاحقاً».
قالتها بصوت فاتر لا تعبير فيه. مجرد تغيير طفيف في المزاج يمكن أن يفعل أفاعيله في نبرة الصوت. فقلت لها قبل أن تغلق الخط: «لحظة. إن كانت هذه حيلة من حيل البائعين، فانسي الموضوع. أنا عاطل عن العمل. ولا أريد أن أشتري أي شيء».
«لا تقلق. أعرف هذا»
«تعرفين؟ تعرفين ماذا؟».
«إنك عاطل. أعرف هذا. سأتركك الآن مع أكلتك العظيمة».
«وأنت من تكونين؟».
أغلقت الخط قبل أن أكمل.
لم أجد متنفساً لانفعالي، فأخذت أحدق في سماعة الهاتف التي في يدي إلى أن تذكرت السپاغيتي. عدت إلى المطبخ، فأطفأت الغاز وصببت محتويات القدر في مصفاة. بسبب المكالمة انطبخت السپاغيتي فترة أطول مما يلزم لتبلغ مستوى الدينتي، لكن الطبخة لم تفسد. أخذت أتناول طعامي، وأفكر.
نفهم بعضنا بعضاً؟ نفهم مشاعر بعضنا بعضاً في عشر دقائق؟ ماذا تقصد؟ لعلها مكالمة من مكالمات النصب والاحتيال. لا يعنيني ذلك على أي حال.
بعد الغداء عدت إلى كتابي الذي استعرته من المكتبة، أسترق النظر بين الفينة والأخرى من أريكة الصالة إلى الهاتف. ترى ما الذي يفترض أن نفهمه عن بعضنا بعضاً في عشر دقائق؟ ما الذي يمكن أن يفهمه اثنان عن بعضهما في عشر دقائق؟ بدت واثقة جداً من تلك الدقائق العشر؛ فهي أول ما قالته في اتصالها. كما لو أن تسع دقائق لا تكفي، وإحدى عشرة دقيقة أطول من اللازم. شأن طبخ السپاغيتي إلى مستوى ألدينتي.
لم أستطع أن أواصل القراءة، فقررت أن أكوي قمصاني. هذا ما أفعله دائماً حين أكون مستاءً. هي عادة قديمة. أقسم العمل إلى اثنتي عشرة مرحلة، تبدأ بالياقة (الخارجية) وتنتهي بالكم الأيسر. لا أغير شيئاً من هذا الترتيب أبداً. أعد المراحل مرحلة مرحلة، وإلا فلن اعتبر أني أديت المهمة كما ينبغي.
كويت ثلاثة قمصان، وتفحصتها جيداً ثم وضعتها على المشاجب. وما إن أطفأت المكواة وأعدتها إلى الدولاب مع طاولة الكي، حتى شعرت بأن عقلي أصبح أكثر صفاءً.
هممت إلى المطبخ أشرب ماءً، فرن الهاتف ثانية. ترددت لحظة، ثم قررت أن أرد. إن كان المتصل هو المرأة نفسها فسأقول لها إنني أكوي ملابسي ثم أغلق الخط. لكن المتصلة كانت كوميكو. نظرت إلى الساعة فوجدتها تشير إلى الحادية عشرة والنصف. سألتني: «كيف حالك؟».
قلت وقد شعرت براحة حين أتاني صوت زوجتي: «بخير».
«ماذا تفعل؟».
«انتهيت الآن من كي ملابسي».
«ما الأمر؟». لاح شيء من التوتر في صوتها، فقد كانت تعلم ما يعنيه أن أكوي ملابسي.
«لا شيء. كنت أكوي بضعة قمصان فحسب». جلست على الأريكة ونقلت السماعة من يدي اليسرى إلى اليمنى.
«هل تستطيع أن تكتب شعراً؟».
«شعر!». هل كانت تقصد الشعر فعلاً؟
«أعرف ناشراً يصدر مجلة قصص للبنات، وهم يبحثون عن شخص يختار قصائد القارئات ويراجعها. ويريدون من هذا الشخص أيضاً أن يكتب قصيدة قصيرة كل شهر تكون افتتاحية للمجلة. الراتب معقول بالنسبة إلى عمل سهل كهذا. والدوام جزئي طبعاً، لكنهم قد يضيفون بعض المهام التحريرية إن أثبت الشخص -».
«عمل سهل؟ أنا أبحث عن وظيفة في القانون، لا الشعر».
«خطر لي أنك كنت تكتب أيام المدرسة الثانوية».
«نعم، لصحيفة المدرسة. نكتب عن الفريق الفائز في بطولة الكرة، أو كيف سقط معلم الفيزياء من السلالم ودخل المستشفى.. هذا النوع من الأخبار. وليس الشعر. لا أستطيع أن أكتب شعراً».
«صحيح، لكنني لا أتحدث عن شعر رفيع. يريدون شيئاً لبنات المدارس، وليس ضرورياً أن يصبح خالداً في تاريخ الأدب. يمكنك أن تكتبه وأنت مغمض العينين، أليس كذلك؟».
«اسمعي، أنا لا أستطيع أن أكتب شعراً، سواء أغمضت عيني أم فتحتهما. لم أفعل ذلك في حياتي، ولست مستعداً لفعله الآن».
قالت كوميكو بشيء من الحزن: «حسناً. ولكن من الصعب العثور على وظيفة في القانون».
«أعرف. ولذلك تحدثت مع كثيرين للبحث عن وظيفة لي. يفترض أن تصلني أخبار هذا الأسبوع. وإن لم يحصل ذلك، فسأفكر في شيء آخر أفعله».
«حسناً، انتهى الموضوع إذن. بالمناسبة، ما اليوم؟ أي يوم من الأسبوع؟».
فكرت لحظة ثم قلت: «الثلاثاء».
«إذن هل يمكنك الذهاب إلى البنك لدفع فاتورتي الغاز والهاتف؟».
«لا بأس. كنت على وشك الخروج لشراء حاجياتٍ للعشاء».
«وماذا ستطبخ؟».
«لا أدري. سأقرر وأنا أشتري الأغراض».
سكتت قليلاً ثم قالت فجأة بنبرة جادة: «أتدري؟ لسنا في عجلة للعثور على وظيفة لك».
باغتتني هذه الجملة، وكأن نساء الأرض قررن اليوم أن يفاجئنني على الهاتف. «كيف ذلك؟ علاوتي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، ولا يمكنني أن أبقى عاطلاً هكذا إلى الأبد».
«صحيح، لكننا إن توخينا الحرص، فنستطيع أن نعيش جيداً في الوقت الحالي بعد زيادة راتبي والأعمال الإضافية التي أحصل عليها، بالإضافة إلى مدخراتنا. لسنا في أزمة. هل ضجرت من البقاء في البيت وأعباء البيت؟ أقصد هل ترى أن هذه الحياة غير مناسبة لك؟».
أجبت بصدق: «لا أدري». لم أكن أدري فعلاً.
«حسناً، خذ وقتك وفكر في الأمر. بالمناسبة، هل عاد القط؟».
القط! لم أفكر في القط طوال الصباح. «لا لم يعد بعد».
«من فضلك ألق نظرة في الحي. لقد مضى أسبوع على غيابه».
همهمت بشيء غير مفهوم، ونقلت السماعة إلى يدي اليسرى.
«أنا متأكدة أنه في مكان ما عند البيت الخالي، في الطرف الآخر من الزقاق. ذلك البيت الذي في فنائه تمثال طائر. كثيراً ما رأيته هناك».
«الزقاق؟ ومنذ متى تذهبين إلى الزقاق؟ لم تخبريني قط عن -».
«أوه، علي الذهاب الآن. لدي أعمال كثيرة. لا تنس القط».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.