«يوميات طائر الزنبرك» لهاروكي موراكامي بترجمة مدفوعة الحقوق

تصدر قريباً وتنشر {الشرق الأوسط} مقتطفات منها

موراكامي
موراكامي
TT

«يوميات طائر الزنبرك» لهاروكي موراكامي بترجمة مدفوعة الحقوق

موراكامي
موراكامي

بعد أيام قليلة، تصدر عن «دار الآداب» الترجمة العربية للجزأين الأول والثاني من رواية «يوميات طائر الزنبرك» للياباني الشهير هاروكي موراكامي، نقلها عن الإنجليزية أحمد المعيني. وبعد ما يقارب الشهرين ستصدر ترجمة الجزء الثالث، من الرواية، عن الدار نفسها. وجدير بالذكر أن الأجزاء الثلاثة، من رواية موراكامي هذه سبق لها أن ترجمت إلى العربية من قبل دار نشر مجهولة، بطباعة سيئة، كما شابها بعض الاجتزاء من النص. وهي ترجمة بقيت إنترنتية الصيغة، ولم توجد في السوق على الورق.
لكن صاحبة «دار الآداب» رنا إدريس قررت ولأهمية الرواية، ولما يتمتع به موراكامي من شعبية بين قراء الضاد، أن تشتري الحقوق، وتصدر الكتاب بنسخة عربية ذات ترجمة جيدة. وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام التساؤل حول فوضى النشر، وما يحدث في سوق الكتاب العربي. تعلق رنا إدريس على هذا الموضوع بقولها لـ«الشرق الأوسط»: «إن نسختنا مدفوعة الحقوق، وصدرت بالاتفاق مع الناشر».
و«يوميات طائر الزنبرك» تروي قصة تبدو لقارئها، للوهلة الأولى كأنها حكاية بوليسية، أو علاقة زوجية تتمزق، أو كأنما هي تنقيب عن أسرار دفينة من خبايا الحرب العالمية الثانية.
وهي حكاية تورو أوكادا الشاب الياباني الذي يبحث عن قط زوجته المفقود، غير أنه سرعان ما يجد نفسه في رحلة بحث عن زوجته نفسها في عالم آخر خفي. إذ يتقاطع بحثه عن القط مع بحثه عن الزوجة، فيلتقي زمرة غريبة من الأصدقاء والأعداء الذين يأتي كل واحد منهم ومعه حكاية: بدءاً من الفتاة المرحة، والسياسي الحقود، وانتهاءً بمقاتل سابق.
رواية يمتزج فيها الهزل بالشر. إنه عمل يذكر بروايات يوكيو ميشيما. فالرواية تطرح في عمقها عدداً من الإشكالات منها الهوية والعلاقة بالآخر، والصلة بين الظاهر والباطن كما التجربة الفردية الروحانية.

مقتطفات من{يوميات طائر الزنبرك»

رن الهاتف بينما كنت في المطبخ أغلي قليلاً من السپاغيتي، وأصفر مع افتتاحية العقعق السارق في المذياع، مقطوعة روسيني التي لا بد من أن تكون الموسيقى المثلى لطبخ الپاستا.
أردت أن أتجاهل الهاتف، لا لأن السپاغيتي كاد ينضج فحسب، بل كذلك لأن المايسترو كلاوديو أبادو كان لحظتها يقترب من ذروة السيمفونية. لكنني سلمت أمري، فلعل المتصل يحمل خبراً عن وظيفة. خففت من شدة الغاز، ثم مشيت إلى الصالة، والتقطت السماعة.
«عشر دقائق من فضلك».
كان صوت امرأة. ومع أني أميز الأصوات جيداً، فإن هذا لم يكن صوتاً أعرفه.
«معذرة، مع من تريدين التحدث؟».
«معك طبعاً. عشر دقائق من فضلك. هذا كل ما نحتاج إليه لنفهم بعضنا بعضاً»
كان صوتها خفيضاً ناعماً، لكنه غير مميز.
«نفهم بعضنا بعضاً؟».
«مشاعر بعضنا بعضاً».
انحنيت قليلاً ألقي نظرة عبر باب المطبخ. كانت قدر السپاغيتي تغلي جيداً، وكلاوديو أبادو لا يزال يعزف العقعق السارق.
«معذرة. أنا الآن منهمك في طبخ السپاغيتي. هل يمكنك الاتصال لاحقاً؟».
«سپاغيتي؟! من يطبخ سپاغيتي في العاشرة والنصف صباحاً؟».
«ليس هذا من شأنك. أنا من يحدد طعامي ووقت تناوله».
«معك حق. سأتصل لاحقاً».
قالتها بصوت فاتر لا تعبير فيه. مجرد تغيير طفيف في المزاج يمكن أن يفعل أفاعيله في نبرة الصوت. فقلت لها قبل أن تغلق الخط: «لحظة. إن كانت هذه حيلة من حيل البائعين، فانسي الموضوع. أنا عاطل عن العمل. ولا أريد أن أشتري أي شيء».
«لا تقلق. أعرف هذا»
«تعرفين؟ تعرفين ماذا؟».
«إنك عاطل. أعرف هذا. سأتركك الآن مع أكلتك العظيمة».
«وأنت من تكونين؟».
أغلقت الخط قبل أن أكمل.
لم أجد متنفساً لانفعالي، فأخذت أحدق في سماعة الهاتف التي في يدي إلى أن تذكرت السپاغيتي. عدت إلى المطبخ، فأطفأت الغاز وصببت محتويات القدر في مصفاة. بسبب المكالمة انطبخت السپاغيتي فترة أطول مما يلزم لتبلغ مستوى الدينتي، لكن الطبخة لم تفسد. أخذت أتناول طعامي، وأفكر.
نفهم بعضنا بعضاً؟ نفهم مشاعر بعضنا بعضاً في عشر دقائق؟ ماذا تقصد؟ لعلها مكالمة من مكالمات النصب والاحتيال. لا يعنيني ذلك على أي حال.
بعد الغداء عدت إلى كتابي الذي استعرته من المكتبة، أسترق النظر بين الفينة والأخرى من أريكة الصالة إلى الهاتف. ترى ما الذي يفترض أن نفهمه عن بعضنا بعضاً في عشر دقائق؟ ما الذي يمكن أن يفهمه اثنان عن بعضهما في عشر دقائق؟ بدت واثقة جداً من تلك الدقائق العشر؛ فهي أول ما قالته في اتصالها. كما لو أن تسع دقائق لا تكفي، وإحدى عشرة دقيقة أطول من اللازم. شأن طبخ السپاغيتي إلى مستوى ألدينتي.
لم أستطع أن أواصل القراءة، فقررت أن أكوي قمصاني. هذا ما أفعله دائماً حين أكون مستاءً. هي عادة قديمة. أقسم العمل إلى اثنتي عشرة مرحلة، تبدأ بالياقة (الخارجية) وتنتهي بالكم الأيسر. لا أغير شيئاً من هذا الترتيب أبداً. أعد المراحل مرحلة مرحلة، وإلا فلن اعتبر أني أديت المهمة كما ينبغي.
كويت ثلاثة قمصان، وتفحصتها جيداً ثم وضعتها على المشاجب. وما إن أطفأت المكواة وأعدتها إلى الدولاب مع طاولة الكي، حتى شعرت بأن عقلي أصبح أكثر صفاءً.
هممت إلى المطبخ أشرب ماءً، فرن الهاتف ثانية. ترددت لحظة، ثم قررت أن أرد. إن كان المتصل هو المرأة نفسها فسأقول لها إنني أكوي ملابسي ثم أغلق الخط. لكن المتصلة كانت كوميكو. نظرت إلى الساعة فوجدتها تشير إلى الحادية عشرة والنصف. سألتني: «كيف حالك؟».
قلت وقد شعرت براحة حين أتاني صوت زوجتي: «بخير».
«ماذا تفعل؟».
«انتهيت الآن من كي ملابسي».
«ما الأمر؟». لاح شيء من التوتر في صوتها، فقد كانت تعلم ما يعنيه أن أكوي ملابسي.
«لا شيء. كنت أكوي بضعة قمصان فحسب». جلست على الأريكة ونقلت السماعة من يدي اليسرى إلى اليمنى.
«هل تستطيع أن تكتب شعراً؟».
«شعر!». هل كانت تقصد الشعر فعلاً؟
«أعرف ناشراً يصدر مجلة قصص للبنات، وهم يبحثون عن شخص يختار قصائد القارئات ويراجعها. ويريدون من هذا الشخص أيضاً أن يكتب قصيدة قصيرة كل شهر تكون افتتاحية للمجلة. الراتب معقول بالنسبة إلى عمل سهل كهذا. والدوام جزئي طبعاً، لكنهم قد يضيفون بعض المهام التحريرية إن أثبت الشخص -».
«عمل سهل؟ أنا أبحث عن وظيفة في القانون، لا الشعر».
«خطر لي أنك كنت تكتب أيام المدرسة الثانوية».
«نعم، لصحيفة المدرسة. نكتب عن الفريق الفائز في بطولة الكرة، أو كيف سقط معلم الفيزياء من السلالم ودخل المستشفى.. هذا النوع من الأخبار. وليس الشعر. لا أستطيع أن أكتب شعراً».
«صحيح، لكنني لا أتحدث عن شعر رفيع. يريدون شيئاً لبنات المدارس، وليس ضرورياً أن يصبح خالداً في تاريخ الأدب. يمكنك أن تكتبه وأنت مغمض العينين، أليس كذلك؟».
«اسمعي، أنا لا أستطيع أن أكتب شعراً، سواء أغمضت عيني أم فتحتهما. لم أفعل ذلك في حياتي، ولست مستعداً لفعله الآن».
قالت كوميكو بشيء من الحزن: «حسناً. ولكن من الصعب العثور على وظيفة في القانون».
«أعرف. ولذلك تحدثت مع كثيرين للبحث عن وظيفة لي. يفترض أن تصلني أخبار هذا الأسبوع. وإن لم يحصل ذلك، فسأفكر في شيء آخر أفعله».
«حسناً، انتهى الموضوع إذن. بالمناسبة، ما اليوم؟ أي يوم من الأسبوع؟».
فكرت لحظة ثم قلت: «الثلاثاء».
«إذن هل يمكنك الذهاب إلى البنك لدفع فاتورتي الغاز والهاتف؟».
«لا بأس. كنت على وشك الخروج لشراء حاجياتٍ للعشاء».
«وماذا ستطبخ؟».
«لا أدري. سأقرر وأنا أشتري الأغراض».
سكتت قليلاً ثم قالت فجأة بنبرة جادة: «أتدري؟ لسنا في عجلة للعثور على وظيفة لك».
باغتتني هذه الجملة، وكأن نساء الأرض قررن اليوم أن يفاجئنني على الهاتف. «كيف ذلك؟ علاوتي ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، ولا يمكنني أن أبقى عاطلاً هكذا إلى الأبد».
«صحيح، لكننا إن توخينا الحرص، فنستطيع أن نعيش جيداً في الوقت الحالي بعد زيادة راتبي والأعمال الإضافية التي أحصل عليها، بالإضافة إلى مدخراتنا. لسنا في أزمة. هل ضجرت من البقاء في البيت وأعباء البيت؟ أقصد هل ترى أن هذه الحياة غير مناسبة لك؟».
أجبت بصدق: «لا أدري». لم أكن أدري فعلاً.
«حسناً، خذ وقتك وفكر في الأمر. بالمناسبة، هل عاد القط؟».
القط! لم أفكر في القط طوال الصباح. «لا لم يعد بعد».
«من فضلك ألق نظرة في الحي. لقد مضى أسبوع على غيابه».
همهمت بشيء غير مفهوم، ونقلت السماعة إلى يدي اليسرى.
«أنا متأكدة أنه في مكان ما عند البيت الخالي، في الطرف الآخر من الزقاق. ذلك البيت الذي في فنائه تمثال طائر. كثيراً ما رأيته هناك».
«الزقاق؟ ومنذ متى تذهبين إلى الزقاق؟ لم تخبريني قط عن -».
«أوه، علي الذهاب الآن. لدي أعمال كثيرة. لا تنس القط».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.