فرنسواز جيلو تكشف عن الوجه «المعتم» لعبقرية بيكاسو

وصفه أراغون بالمراهق الدائم وغير الناضج في علاقته بالنساء

فرانسواز جيلو مع بيكاسو
فرانسواز جيلو مع بيكاسو
TT

فرنسواز جيلو تكشف عن الوجه «المعتم» لعبقرية بيكاسو

فرانسواز جيلو مع بيكاسو
فرانسواز جيلو مع بيكاسو

لم تكن المكانة الفريدة التي احتلها الفنان الإسباني الشهير بابلو بيكاسو، في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، وليدة الصدفة المجردة أو التسويق الدعائي والإعلامي، بل كانت محصلة طبيعية لتضافر موهبته الفطرية النادرة مع الاشتغال الشاق واليومي على تطوير نفسه وصقل أدواته التعبيرية، بما يتناسب مع روح العصر وتحولاته المتسارعة. وقد تكون تجربة صاحب «الغرنيكا» في مجال الرسم وفنون التشكيل هي النموذج الأبلغ للهوية الإبداعية القلقة، التي لم تكف أبداً عن تجديد نفسها كلما أنست إلى طمأنينة أو يقين. فقد بدأ بيكاسو مسيرته الفنية الطويلة باختبار الألوان الصاخبة والقوية، التي حذا خلالها حذو بعض الانطباعيين من أمثال ديغا ورينوار، كما لوحات «بائعة الزهور» و«امرأة تتزين »، و«امرأة وكلبها»، قبل أن ينتقل إلى ما عرف بـ«المرحلة الزرقاء» ذات التدرجات اللونية الباهتة التي تصور عوالم الفقراء والعجزة والمشردين، ليدخل بعدها في الفضاء الرمزي المطعم بالأساطير وعوالم النحت الإغريقي، وصولاً إلى لوحته المميزة «آنسات أفينيون» التي رسم فيها نساء يعملن في إحدى الحانات، والتي وضعته في قلب التحولات التشكيلية الحداثية في مطالع القرن المنصرم.
بعد ذلك أسهم بيكاسو في تأسيس المدرسة التكعيبية في الفن، حيث بدأ بالانفصال عما يراه من ظواهر الأشياء والكائنات، متجهاً إلى التعبير عما يعرفه من حقيقتها وفق تبدل الزاوية والمنظور، مؤكداً على حقه في تقديم الوجوه كاملة، وفي إظهار بعدها الجانبي في الوقت ذاته. وهو لم يكف بعد ذلك عن اختبار كل أنواع الرسم ومسارات الخطوط ومقادير الألوان، جانحاً مرة باتجاه فن اللصق و«الكولاج»، ومرة أخرى باتجاه البورتريه واللوحات الكلاسيكية، ومرة ثالثة باتجاه السوريالية التي رأى فيها ما يعبر عن جهنمات رأسه وهذياناته الداخلية. على أن تلك العاصفة التشكيلية والرؤيوية التي اتخذت شكل رجل وهيئته وقوامه، لم تكن لتحافظ على اضطرامها إلا في ظل عاصفة موازية رفدتها حياته بكل ما يلزمها من أسباب النزق والاندفاع الجسدي.
أما السيرة الشخصية فلم تكن خافية على معاصريه، وهو الذي حظي منذ مغادرته بلده الأم إلى فرنسا باهتمام الكثير من النقاد والمتابعين والمهتمين، ومع ذلك فقد استطاعت فرنسواز جيلو، الزوجة الرابعة للفنان الإسباني، أن تقدم من خلال كتابها اللافت «حياتي مع بيكاسو» أحد أكثر فصول سيرته صدقاً وغرابة وصلة بالتناقضات، كما استطاعت بكفاءة عالية أن توائم بين رغبتها العميقة في تقديم بورتريه دقيق وشديد الجرأة وغني بالتفاصيل عن شخصية الفنان «الغرائبي»، الذي قاسمته حلو الحياة ومرها لعشر سنوات كاملة، وبين حرصها الشديد على تقديم مشهدية فنية حافلة عما شهده الثلث الثاني من القرن الفائت من تطورات دراماتيكية متسارعة على المستويات الفكرية والاجتماعية والفنية. هكذا بدا الكتاب نوعاً من جدارية سردية تضم خلائط ومقادير متفاوتة من وجوه الثقافة وتجليات التشكيل وتبدل الخرائط السياسية، وصولاً إلى ذبول الحب وترنحه المطرد تحت ضربات الرتابة والملل والأمزجة المتقلبة للمبدعين.
حين التقت فرنسواز جيلو ببيكاسو في باريس عام 1943 لم تكن تعلم حينها أن الصدفة التي جمعتهما عن طريق صديقة مشتركة كانت تهيئ لحياتها مساراً مختلفاً وغير متوقع. ففارق السن الكبير بين الفنانة الشابة التي لم يتجاوز عمرها الاثنين وعشرين عاماً، والعبقري الكهل الذي كان عمره يناهز الرابعة والستين، لم يمنع هذا الأخير من الانجذاب إلى الفتاة الذكية والجذابة، التي لم تتأخر كثيراً في مغادرة منزل جدتها الذي كانت قد لجأت إليه إثر خلاف مستحكم مع والديها المعترضيْن على سلوكياتها «المتهورة»، والانتقال إلى منزل بيكاسو بناء على إلحاح منه، بعد أن عثر كل منهما في الآخر على ما ينقصه ويحتاج إليه. ومع أن جيلو كانت قد تلمست منذ البداية وعورة الإقامة مع الفنان الذي طلب إليها أن تلازم إحدى الغرف العلوية في منزله، وأن لا يخرجا معاً إلا تحت جنح الظلام لكي لا يراها أحد سواه، إلا أن ذلك لم يمنعها من قبول المجازفة التي رأت فيها كفنانة ما يضعها إزاء أفق أرحب من التجريب والمغامرة الرؤيوية والأسلوبية. ذلك أن جيلو كانت تدرك تمام الإدراك أن الارتباط برجل كالذي اختارته هو نوع من الإقامة على التخوم الأخيرة للمغامرة الإنسانية التي تستنزف كل ما لديها من قوة العصب والقدرة على الاحتمال. لذلك فقد انقسم كتابها عن بيكاسو إلى شطرين متغايرين تماماً في المناخ والدلالة والأسلوب: الأول يتصل بالجانب الإبداعي الخلاق من العلاقة، حيث نتتبع مسيرة بيكاسو وأعماله وآراءه المثيرة للجدل ومواقفه المناهضة للنازية، وصداقاته مع الكتاب والفلاسفة والفنانين، فيما نطل مع الثاني على نزق الفنان ومزاجه المتبدل وعلاقته المضطربة بزوجته، التي جنحت رغم بعض الفسحات الحميمة الهانئة، نحو نوع من التدهور المطرد وسوء التفاهم المرير.
في الشطر «المضيء» من علاقة جيلو ببيكاسو، يمكن لنا نحن القراء أن نطل من خلال المكانة المميزة التي انتزعها الفنان المتفرد، على كل ما شهده عصره المضطرب من حروب دامية واصطفافات سياسية وآيديولوجية حادة، ألقت بظلالها على كل شيء وخلقت ديناميات جديدة وغير مسبوقة في مجال الأدب والفلسفة والفن. ومع أن بيكاسو قد واجه بسبب مؤازرته للشيوعيين، الكثير من المضايقات من قبل النازيين زمن الاحتلال النازي لفرنسا، إلا أن هؤلاء لم يجرؤوا على إلحاق الأذى به بسبب شهرته الواسعة ومكانته المرموقة التي حولت منزله في باريس إلى محجة لكبار الشعراء والكتاب والفنانين، من أمثال أندريه مالرو وأراغون وإيلوار وهنري ماتيس وجورج براك وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وجان كوكتو وجاك بريفير وكثرٍ غيرهم. كما تحرص المؤلفة، على أن تنحي عاطفتها الشخصية جانباً، لتنقل بشكل موضوعي صورة دقيقة عن علاقات بيكاسو بهذه الكوكبة من المبدعين، مع كل ما يكتنفها من مودة صادقة حيناً، ومن شبهات الغيرة والتنافس العلني والضمني حيناً آخر. وفي هذا الإطار تتحدث جيلو، التي توقفت عن الرسم لثلاث سنوات كاملة كي تتخلص من تأثيرات زوجها، عن ارتياح بيكاسو لرسوم ماتيس ومناخاته المفعمة بالفرح والمحتفية بالحياة، في مقابل عدم ارتياحه لتجربة بونار التي رأى فيها شكلاً من أشكال التسطيح والانطباعية «المنحطة». أما عن خوان ميرو، مواطنه وزميله السوريالي، فيقول بيكاسو بأنه «كان يتدحرج داخل طوق مغلق مرتدياً بذلة ولد صغير». ورغم المنافسة الحادة بين بيكاسو وشاغال، فإن جيلو تنقل عن زوجها إعجابه الشديد بالحساسية العالية لصديقه «اللدود» إزاء الضوء، وكيف أنه يعتبره بعد ماتيس الأكثر جدارة بتقدير قيمة الألوان. وإذ تتحدث عن علاقته الوثيقة ببول إيلوار، تشير من جهة ثانية إلى علاقته السيئة بأندريه بروتون، مضيفة أن علاقة زوجها بأراغون كانت تتراوح بين الحب والكراهية، حيث كان الأول يغبط الثاني على قناعته العاطفية واكتفائه بامرأة واحدة، في حين كان صاحب «مجنون إيلزا» يأخذ على بيكاسو مراهقته الدائمة وافتقاره إلى النضج في علاقته بالنساء.
على أن التناغم الفني والفكري بين الزوجين لم يكن يكفي وحده لرفد حياتهما المشتركة بما يلزمها من عوامل الطمأنينة والتفاهم والحنو المتبادل. فبعد فترة قليلة من الزواج لم يتأخر بيكاسو في الكشف عن نرجسيته الفاقعة، وعن نزوعه المرَضي إلى التملك والاستحواذ، فضلاً عن سقوطه السريع في براثن الرتابة والملل والحاجة إلى التغيير. صحيح أنه أظهر لجيلو منذ البداية بعض الإشارات الدالة على توجسه من الروتين العاطفي «المبيد» للافتتان، كقوله لها في فترة التعارف «ينبغي ألا نلتقي كثيراً، إذ لو أردتِ أن تبقى أجنحة الفراشة لامعة، فعليك ألا تلمسيها»، فهي لم تكن لتصدق أن حضورها النضر سيفقد وهجه بالنسبة للفنان الشهير بعد حين من الزمن، وأن فارق السن الهائل بين الطرفين لن يفلح في كبح جماح بيكاسو، أو تغيير مسار العلاقة الانحداري. وما يؤكد عزم الزوجة الشابة على دفع الأثمان المترتبة على مغامرتها تلك، هو معرفتها المسبقة بالسيرة العاطفية المعقدة لزوجها المهووس بالنساء. كما أنها لم تعر بالاً يُذكر لزوجاته الثلاث السابقات، أولغا وماري تيريز ودورا مار، اللواتي ظللن يطاردنه من مكان إلى مكان، أملاً في استعادته من جديد.
والواقع أن بيكاسو لم يكن ليأبه لأي شيء خارج محترفه الفني. لذلك فهو لم يُقم أي وزن يُذكر للمجاملات الشخصية أو للأخلاق بمعناها الاجتماعي الشائع. وليس بالأمر المستغرب أن تقول له دورا مار: «ربما كنت رساماً خارقاً، ولكنك لا شيء من الوجهة الأخلاقية»، إذ كانت الأخلاق بالنسبة له متصلة بكل ما يهيئ له سبل الإبداع والتجاوز الدائم، وكان هو تبعاً لذلك على جهوزية تامة لتدمير كل من يعتبر أنهم يقفون عائقاً بينه وبين فنه، حتى لو كان هذا العائق هو سعادته بالذات. وهو ما عبرت عنه والدة بيكاسو بوضوح، حين قالت لزوجته الأولى أولغا أثناء زيارتها لها في إسبانيا: «أيتها البائسة، هل تعرفين أي مأساة تنتظرك؟ إن ابني لا يحب سوى لوحاته، ولن تَجِدي لديه ما يمنحك إياه». ولم تثبت السنوات اللاحقة صحة نظرة الأم إلى ابنها الممسوس بالألوان فحسب، بل إنه تمادى في سلوكه المزاجي إلى حد تحريض زوجتيه الثانية والثالثة، ماري تيريز ودورا مار، على أن تتعاركا جسدياً أمامه، فيما اكتفى من ناحيته بالضحك، معبراً عن سعادته لأن امرأتين جميلتين تتصارعان من أجله. وإذ تكرر الموقف نفسه بين جيلو وأولغا فيما بعد، كرر بيكاسو بلا مبالاة ردة فعله الساخرة على الحدث، وتركهما تتصارعان حتى الانهاك، قبل أن يأخذ على زوجته الشابة ترهلها المبكر ويتهمها بالتنغيص عليه وإفساد حياته.
«كيف تستطيعين العيش مع وحش كهذا؟»، قالت جنفييف لصديقتها فرنسواز، بعد معاينتها الدقيقة لتقلبات بيكاسو وردود فعله وسلوكياته «الغرائبية». على أن جيلو التي لم تتفوه بأي كلمة تذكرت قول بيكاسو لها في إحدى المناسبات «إن الرسم بالنسبة لي هو اللحظة التي ينسلخ فيها الكون عن ذاته، ليلتقي بخرابه الخاص»، كما تذكرت قوله في مناسبة أخرى «كل الأشياء القيمة كالإبداع، لا بد أن تتخللها مساحة معتمة، حيث إن عبقرية أينشتاين هي التي أدت إلى هيروشيما». ولذلك كان لا بد لها من أن تترك الحلبة قبل فوات الأوان، لأنها كانت تدرك تمام الإدراك بأن أكثر ما كان يبهج بيكاسو المفتون بمصارعة الثيران، هو مشاركة القاتل نشوة الفوز، غير آبه على الإطلاق بالمصير المأساوي للطرف المقتول.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.