الصحافي البارز يائير لبيد، كان لسنين طويلة في مواجهات يومية مع السياسيين الإسرائيليين على صفحات الصحف وعلى شاشات التلفزيون، وكان يعود إلى البيت فيدخل في جدالات مريرة في بيته، مع والده تومي لبيد، الذي انتقل هو أيضاً من الصحافة إلى السياسة وشغل عدة مناصب وزارية في حكومات اليمين. لكن الرجل يجد نفسه اليوم في قلب السياسة وفي مقدمة السياسيين في إسرائيل. وإذا نجحت خطته، فإنه سيصبح رئيس حكومتها بعد سنتين وبضعة أسابيع.
خطة لبيد ليست هيّنة، بل تبدو شبه مستحيلة. إذ يقف له بالمرصاد لإفشالها بنيامين نتنياهو، الذي يعد ثعلب السياسة الإسرائيلية. وعلى الطريق توجد سلسلة عقبات تبدو كالجبال، يضعها ليس خصومه فحسب بل قسم من حلفائه أيضاً. لكنه ماضٍ في هذا الطريق بثبات وإصرار، وببرودة أعصاب، آخذاً على عاتقه قيادة دفة الأمور من دون التمسك بالمنصب الأول، باثاً روحاً إيجابية في الحلبة السياسية في وقت تتحكم جائحة «كوفيد - 19» بحياة الناس ويسود الانشقاق في المجتمع. يتصرف بهدوء بالغ وسط قادة كثيرين من ذوي الرؤوس الحامية. وحقاً، المعلقون الذين كانوا يعدونه إلى حد قريب، مغروراً متغطرساً، يمتدحونه الآن بشكل مفاجئ ويرونه نبتة غريبة في السياسة الإسرائيلية. بل باتوا يرون أن قدرته على تثبيت الحكومة ذات التركيبة الغريبة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مع الحركة الإسلامية، باتت واقعية.
يائير لبيد، هو المحرّك الأساس للحكومة الإسرائيلية الجديدة. وعلى الرغم من أنه يقود أكبر حزب في الائتلاف، بـ17 مقعداً، فإنه رضي بمنصب «الرجل الثاني» وسلّم نفتالي بنيت المنصب الأول، مع أن الأخير يقود حزباً صغيراً من 7 نواب أحدهم تمرّد عليه، فبقي مع 6 نواب.
لبيد فعل ذلك لضرورات المعركة ضد بنيامين نتنياهو، لكنه مقتنع بخطوته حتى بوجود احتمالات طعنه من بنيت عبر فرط الائتلاف الحكومي، قبل أن يتسلم لبيد رئاسة الحكومة. فما الذي يفكر فيه لبيد؟ وما الذي يجعله يخوض مغامرة كهذه؟ وهل هو يسير في طريق مُجدٍ من نوع جديد؟
- سيرته الذاتية
في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) القريب، سيبلغ يائير لبيد الثامنة والخمسين من العمر. وهو ولد لعائلة ضالعة في الأدب والسياسة معاً. والده تومي يوسف لبيد كان أيضاً كاتباً صحافياً بارزاً وحاداً، ووالدته شولاميت أديبة متفرغة. الأب من أصول صربية، والأم من أصول رومانية.
العائلتان خبرتا معاناة اليهود في أوروبا تحت الحكم النازي، ثم إن والد تومي لبيد قُتل في معسكر اعتقال وإبادة في بولندا. وتركت هذه القصة جرحاً عميقاً في العائلة. وبعدما هاجر إلى إسرائيل عام 1948، اشتغل تومي في الصحافة، ثم انتقل إلى السياسة، وأسّس حزباً بقيادته وتولى عدة مناصب وزارية وعُرف بحدّة لسانه وشدة علمانيته وحربه الشرسة على المتدينين.
يائير، هو الابن البكر للعائلة، ومع أنه وُلد في تل أبيب، فقد تربّى وترعرع في لندن، حيث كان الأب مراسلا لصحيفة «معريب». وبعدها أمضى شبابه في تل أبيب، وتخرج في مدرسة «جيمناسيا» العبرية الرفيعة في مدينة هرتسليا، شمالي تل أبيب. ومع أنه كان تلميذاً ناجحاً، فقد تميز بالاستقلالية وحتى التمرد وترك بيت والديه في سن مبكرة وبرز كملاكم هاوٍ ولكن معروف جداً.
أيضاً، رغم ابتعاده عن بيت والديه، فإنه اكتسب منهما مَلَكة الكتابة، وأمضى خدمته العسكرية في العمل الصحافي. وعندما تسرّح من الجيش، تابع مسيرته الإعلامية والأدبية وعايش المجتمع الفني والثقافي. وكانت حصيلة هذه المسيرة، العمل مراسلاً في صحيفة «معريب»، التي عمل فيها والده. ثم في عام 1988 محرراً للصحيفة المحلية «صحيفة تل أبيب». وفي عام 1991 أصبح كاتب عمود أسبوعي في مجلة نهاية الأسبوع، بدايةً في «معريب»، ثم في الصحيفة ذات الانتشار الأوسع في البلاد «يديعوت أحرونوت».
وفي عام 1995 عمل مقدّم برنامج الاستضافة الرئيسي في القناة الأولى، التي كانت تبث ليلة السبت. ومنذ عام 1997 قدم برنامج اللقاءات «يائير لبيد مباشر في العاشرة». وبين 2000 و2008 قدّم برنامج الاستضافة ذا الشعبية «يائير لبيد». وفي عام 2008 بدأ بتقديم برنامج الأخبار الذي يحظى بشعبية واسعة في إسرائيل، في أيام الجمعة، بعنوان «استوديو الجمعة» في القناة الثانية.
وفي المجال الأدبي أصدر11 كتاباً، من بينها: «الرأس المزدوج»، و«الأحجية السادسة»، و«المرأة الثانية»، ورواية بعنوان «غروب الشمس في موسكو»، كذلك كتب السيرة الذاتية لوالده «ذكريات بعد موتي: قصة يوسف (تومي) لبيد». ولعب أدواراً تمثيلية في أعمال سينمائية إسرائيلية.
- اقتحام السياسة
في عام 2011، بعدما بلغت حملة الاحتجاج الشعبي ضد حكم نتنياهو أوجها ونزل أربعمائة ألف مواطن يهتفون بإسقاط النظام، لمع نجم يائير لبيد وراح كثيرون يتوجهون إليه بأن يترك الإعلام وينتقل إلى السياسة.
كان أول من اكتشف هذه المواهب فيه هو نتنياهو نفسه، الذي رآه خطراً على كرسي حكمه. ولذا سنّ قانوناً يقضي بمنع رجال الإعلام والجيش والقضاء من الترشح للكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، إلا باستقالة الشخص وبقائه لمدة سنتين بعيداً عن موقع القيادة.
وعندما شعر لبيد بأن نتنياهو يخافه لهذه الدرجة، أدرك أنه الرجل المناسب لتغيير الحكم... فانطلق؛ إذ استقال من التلفزيون وباشر في تأسيس حزب خاص به سماه «يوجد مستقبل». واختار لقيادة الحزب مجموعة من الشخصيات المعروفة على نطاق محدود، الذين يقبلون به قائداً للحزب من دون انتخابات لثلاث دورات انتخابية. ووضع حزبه في خانة يمين الوسط الليبرالي، رافضاً أن يصنَّف يسارا. وحقاً، مع مرور الوقت اتخذ مواقف يمينية بحتة أكدت توجهه.
عام 2013 كان حزب لبيد مفاجأة الانتخابات، إذ حصل على 19 نائباً، وأصبح بذلك ثاني أكبر حزب في تلك الدورة، بعد الليكود، وأول حزب ليبرالي. وفي المقابل، هبط يومها نصيب حزب العمل، مؤسس الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، إلى 15 مقعداً، وأيضاً انهار حزب «كديما»، الذي أسسه أرئيل شارون وإيهود أولمرت وفاز بالحكم دورتين، فهبط إلى مقعدين. وبدا أن لبيد نجم صاعد في السياسة الإسرائيلية.
على الأثر، نتنياهو أقنعه بالانضمام إلى الائتلاف الحاكم معه ودفعه إلى منصب وزير المالية، الذي يعد عادةً مدفن السياسيين. ووقع لبيد في هذه المصيدة، إذ انتهز نتنياهو أول فرصة فأقاله من منصبه بعد 19 شهراً، وقاد إسرائيل إلى انتخابات مبكرة. ولكن كملاكم يواجه خصماً أقوى منه، وقف لبيد على رجليه وتلقى ضربة تلو الأخرى. وفي هذه الانتخابات تراجع حزبه إلى 11 مقعداً. وهنا اختار لبيد البقاء في المعارضة، رافضاً عروض نتنياهو الانضمام مرة ثانية إلى حكومته... وبدا مشروعه الاستراتيجي لإسقاط نتنياهو.
الانطباع الأوّلي عن لبيد في تلك المرحلة كان أنه ما زال صغيراً أمام الكبار (على الأقل، هكذا تعامل معه نتنياهو) ولم يعد يشكل تهديداً جدياً للفوز بالسلطة. لكن من جهته، سار لبيد على طريق النمل. يعمل بهدوء بالغ. يغرس عميقاً في الأرض. ويؤسس لمفاهيم جديدة في العمل السياسي. يُكثر من التشاور مع السياسيين السابقين، خصوصاً أولئك الذين عملوا مع نتنياهو ويعرفون مواطن ضعفه، مثل إيهود أولمرت ودان مريدور وتسيبي ليفني. وفي تلك الفترة تعرف إلى نفتالي بنيت، رئيس حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف وشريكته إييليت شكيد، وهما الشابان اللذان عملا موظفين لدى نتنياهو... شكيد مديرة مكتبه وبنيت رئيس طاقمه. لكن نتنياهو تخلص منهما لاحقاً لأنهما اختلفا مع زوجته سارة. وبالتالي، أقام لبيد معهما شراكة غريبة، أطلق عليها «الإخوة اليهودية».
بعدها جنّد لبيد مجموعات من الشباب يحثهم على بدء المسار نحو قيادات شابة، وكان أول السياسيين الذين استخدموا الشبكات الاجتماعية في طرح الأفكار وتجنيد المؤيدين. وراح يتعاطى مع الشباب بروح تلائم طروحاتهم، وقال لهم: «أنا أفهم تلبُّككم ما بين اليمين واليسار، وأقدم لكم سياسة تدمج ما بين اليمين واليسار. فكلنا شعب واحد. أنا يميني في كثير من القضايا ويساري وليبرالي في قضايا أخرى».
وعلى الأرض، ترجم هذه المقولة إلى مواقف سياسية أيضاً. فهو وزير مالية في حكومة رأسمالية راديكالية، لكنه طرح مواقف ترفع شعار «العدالة الاجتماعية للطبقة الوسطى». وهو يؤيد «حل الدولتين» و«الانفصال عن الفلسطينيين»، لكنه يعد هذا الموقف «الضمان لبقاء إسرائيل ذات أغلبية يهودية»، ولا يقبل بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 ويؤمن بوجوب إبقاء كتل استيطانية كبيرة ضمن حدود إسرائيل.
وفي انتخابات 2013 اختار لبيد أن يعلن عن برنامجه السياسي في جامعة مستوطنة أرئيل بالتحديد، التي تعد مدينة استيطانية في قلب الضفة الغربية وقائمة على أراضي نابلس. وهو ينادي بالتجنيد الإجباري لليهود المتدينين والعرب، وعُرف عنه معارضته وتطبيقه سياسة ضد منح امتيازات لليهود المتدينين واتهامهم بالتطفل على الدولة والبطالة.
وهو يقول إنه يؤيد المساواة للمواطنين العرب، لكنه أفشل احتمال تشكيل حكومة تستند إلى تأييد الأحزاب العربية. وفقط بعد الانتخابات الأخيرة، بعدما بادر نتنياهو إلى التفاوض مع الحركة الإسلامية برئاسة منصور عباس، غيّر لبيد رأيه وسار على طريق نتنياهو وضم إلى ائتلافه الحكومي تلك الحركة، لأول مرة في تاريخ إسرائيل.
- المستقبل
يائير لبيد اليوم هو «رئيس الوزراء البديل» ووزير الخارجية وشريك نفتالي بنيت في قيادة الائتلاف. وهو يحرص بشدة على التعامل مع بنيت كقائد أول، ويقول: «لدينا رئيس حكومة واحد هو نفتالي بنيت».
المقربون منه يقولون إنه اتفق مع بنيت على أن يحرص الوزراء على إطراء بعضهم بعضاً، كي يقدموا نموذجاً لحكومة جديدة تختلف عن الحكومات السابقة، خصوصاً عن حكومة نتنياهو. وهو شخصياً كان قد التزم قبل خمس سنوات بأن يحافظ على طهارة اللسان فلا يهاجم أي خصم بكلمات لاذعة أو جارحة.
وعندما وصل إلى أبوظبي امتدح خصمه اللدود نتنياهو، وقال: «أشكر باسمنا جميعاً رئيس الحكومة السابق، الذي كان مهندس اتفاقيات أبراهام وعمل على تحقيقها دون كلل. وهذه اللحظة له ليس أقل مما هي لنا». ومع أن نتنياهو ورفاقه في قيادة الليكود لم يحترموا هذا الإطراء وراحوا يهاجمون لبيد بقولهم «إنه يقطف ثمار ما فعل نتنياهو»، واستخفّ نجل نتنياهو بلغة لبيد الإنجليزية وكتب: «لغة ركيكة يخجل منها تلميذ في الصف الثامن»، ردّ لبيد بالقول: «لن أغيّر من طباعي في قول الصدق حتى لو تصرفوا بهذا الجحود. لقد قلت لكم إننا في عهد جديد، ولن ينجح أحد في إعادتنا إلى الوراء لأيام بث الكراهية والأحقاد».
يائير لبيد ملاكم معروف، يمارس هوايته هذه حتى اليوم.
مشيته مشية ملاكم. ويقول معارفه إنه يتصرف كملاكم في السياسة أيضاً، لكنه هنا يضيف قانوناً جديداً إلى الحلبة، قانون النفَس الطويل. فما بين الضربة والضربة، يتريث أكثر من الوقت المسموح ويسجل النقاط. ولا يهمه أن ينتظر سنتين حتى يوجه الضربة القاضية.
أما الأسئلة التي تنتظر إجابات عنها فهي: هل يصمد لبيد في هذه المزايا ويحافظ على حكومته ذات التركيبة المتناقضة؟ وهل تصمد حكومته حتى نوفمبر 2023، لكي يأتي دوره ويصبح هو رئيس حكومة؟ وهل تنفع مواهبه في الملاكمة في تغيير قوانين اللعب وتوجيه الضربة القاضية إلى نتنياهو، قبل أن ينقضّ عليه الأخير ويعيده إلى خارج الحلبة؟