بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

رغم هشاشة الائتلاف الحكومي الذي بناه

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية
TT

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

بروفايل: يائير لبيد... ملاكم سياسي أنهى هيمنة نتنياهو على الساحة الإسرائيلية

الصحافي البارز يائير لبيد، كان لسنين طويلة في مواجهات يومية مع السياسيين الإسرائيليين على صفحات الصحف وعلى شاشات التلفزيون، وكان يعود إلى البيت فيدخل في جدالات مريرة في بيته، مع والده تومي لبيد، الذي انتقل هو أيضاً من الصحافة إلى السياسة وشغل عدة مناصب وزارية في حكومات اليمين. لكن الرجل يجد نفسه اليوم في قلب السياسة وفي مقدمة السياسيين في إسرائيل. وإذا نجحت خطته، فإنه سيصبح رئيس حكومتها بعد سنتين وبضعة أسابيع.
خطة لبيد ليست هيّنة، بل تبدو شبه مستحيلة. إذ يقف له بالمرصاد لإفشالها بنيامين نتنياهو، الذي يعد ثعلب السياسة الإسرائيلية. وعلى الطريق توجد سلسلة عقبات تبدو كالجبال، يضعها ليس خصومه فحسب بل قسم من حلفائه أيضاً. لكنه ماضٍ في هذا الطريق بثبات وإصرار، وببرودة أعصاب، آخذاً على عاتقه قيادة دفة الأمور من دون التمسك بالمنصب الأول، باثاً روحاً إيجابية في الحلبة السياسية في وقت تتحكم جائحة «كوفيد - 19» بحياة الناس ويسود الانشقاق في المجتمع. يتصرف بهدوء بالغ وسط قادة كثيرين من ذوي الرؤوس الحامية. وحقاً، المعلقون الذين كانوا يعدونه إلى حد قريب، مغروراً متغطرساً، يمتدحونه الآن بشكل مفاجئ ويرونه نبتة غريبة في السياسة الإسرائيلية. بل باتوا يرون أن قدرته على تثبيت الحكومة ذات التركيبة الغريبة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مع الحركة الإسلامية، باتت واقعية.

يائير لبيد، هو المحرّك الأساس للحكومة الإسرائيلية الجديدة. وعلى الرغم من أنه يقود أكبر حزب في الائتلاف، بـ17 مقعداً، فإنه رضي بمنصب «الرجل الثاني» وسلّم نفتالي بنيت المنصب الأول، مع أن الأخير يقود حزباً صغيراً من 7 نواب أحدهم تمرّد عليه، فبقي مع 6 نواب.
لبيد فعل ذلك لضرورات المعركة ضد بنيامين نتنياهو، لكنه مقتنع بخطوته حتى بوجود احتمالات طعنه من بنيت عبر فرط الائتلاف الحكومي، قبل أن يتسلم لبيد رئاسة الحكومة. فما الذي يفكر فيه لبيد؟ وما الذي يجعله يخوض مغامرة كهذه؟ وهل هو يسير في طريق مُجدٍ من نوع جديد؟

- سيرته الذاتية
في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) القريب، سيبلغ يائير لبيد الثامنة والخمسين من العمر. وهو ولد لعائلة ضالعة في الأدب والسياسة معاً. والده تومي يوسف لبيد كان أيضاً كاتباً صحافياً بارزاً وحاداً، ووالدته شولاميت أديبة متفرغة. الأب من أصول صربية، والأم من أصول رومانية.
العائلتان خبرتا معاناة اليهود في أوروبا تحت الحكم النازي، ثم إن والد تومي لبيد قُتل في معسكر اعتقال وإبادة في بولندا. وتركت هذه القصة جرحاً عميقاً في العائلة. وبعدما هاجر إلى إسرائيل عام 1948، اشتغل تومي في الصحافة، ثم انتقل إلى السياسة، وأسّس حزباً بقيادته وتولى عدة مناصب وزارية وعُرف بحدّة لسانه وشدة علمانيته وحربه الشرسة على المتدينين.
يائير، هو الابن البكر للعائلة، ومع أنه وُلد في تل أبيب، فقد تربّى وترعرع في لندن، حيث كان الأب مراسلا لصحيفة «معريب». وبعدها أمضى شبابه في تل أبيب، وتخرج في مدرسة «جيمناسيا» العبرية الرفيعة في مدينة هرتسليا، شمالي تل أبيب. ومع أنه كان تلميذاً ناجحاً، فقد تميز بالاستقلالية وحتى التمرد وترك بيت والديه في سن مبكرة وبرز كملاكم هاوٍ ولكن معروف جداً.
أيضاً، رغم ابتعاده عن بيت والديه، فإنه اكتسب منهما مَلَكة الكتابة، وأمضى خدمته العسكرية في العمل الصحافي. وعندما تسرّح من الجيش، تابع مسيرته الإعلامية والأدبية وعايش المجتمع الفني والثقافي. وكانت حصيلة هذه المسيرة، العمل مراسلاً في صحيفة «معريب»، التي عمل فيها والده. ثم في عام 1988 محرراً للصحيفة المحلية «صحيفة تل أبيب». وفي عام 1991 أصبح كاتب عمود أسبوعي في مجلة نهاية الأسبوع، بدايةً في «معريب»، ثم في الصحيفة ذات الانتشار الأوسع في البلاد «يديعوت أحرونوت».
وفي عام 1995 عمل مقدّم برنامج الاستضافة الرئيسي في القناة الأولى، التي كانت تبث ليلة السبت. ومنذ عام 1997 قدم برنامج اللقاءات «يائير لبيد مباشر في العاشرة». وبين 2000 و2008 قدّم برنامج الاستضافة ذا الشعبية «يائير لبيد». وفي عام 2008 بدأ بتقديم برنامج الأخبار الذي يحظى بشعبية واسعة في إسرائيل، في أيام الجمعة، بعنوان «استوديو الجمعة» في القناة الثانية.
وفي المجال الأدبي أصدر11 كتاباً، من بينها: «الرأس المزدوج»، و«الأحجية السادسة»، و«المرأة الثانية»، ورواية بعنوان «غروب الشمس في موسكو»، كذلك كتب السيرة الذاتية لوالده «ذكريات بعد موتي: قصة يوسف (تومي) لبيد». ولعب أدواراً تمثيلية في أعمال سينمائية إسرائيلية.

- اقتحام السياسة
في عام 2011، بعدما بلغت حملة الاحتجاج الشعبي ضد حكم نتنياهو أوجها ونزل أربعمائة ألف مواطن يهتفون بإسقاط النظام، لمع نجم يائير لبيد وراح كثيرون يتوجهون إليه بأن يترك الإعلام وينتقل إلى السياسة.
كان أول من اكتشف هذه المواهب فيه هو نتنياهو نفسه، الذي رآه خطراً على كرسي حكمه. ولذا سنّ قانوناً يقضي بمنع رجال الإعلام والجيش والقضاء من الترشح للكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، إلا باستقالة الشخص وبقائه لمدة سنتين بعيداً عن موقع القيادة.
وعندما شعر لبيد بأن نتنياهو يخافه لهذه الدرجة، أدرك أنه الرجل المناسب لتغيير الحكم... فانطلق؛ إذ استقال من التلفزيون وباشر في تأسيس حزب خاص به سماه «يوجد مستقبل». واختار لقيادة الحزب مجموعة من الشخصيات المعروفة على نطاق محدود، الذين يقبلون به قائداً للحزب من دون انتخابات لثلاث دورات انتخابية. ووضع حزبه في خانة يمين الوسط الليبرالي، رافضاً أن يصنَّف يسارا. وحقاً، مع مرور الوقت اتخذ مواقف يمينية بحتة أكدت توجهه.
عام 2013 كان حزب لبيد مفاجأة الانتخابات، إذ حصل على 19 نائباً، وأصبح بذلك ثاني أكبر حزب في تلك الدورة، بعد الليكود، وأول حزب ليبرالي. وفي المقابل، هبط يومها نصيب حزب العمل، مؤسس الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، إلى 15 مقعداً، وأيضاً انهار حزب «كديما»، الذي أسسه أرئيل شارون وإيهود أولمرت وفاز بالحكم دورتين، فهبط إلى مقعدين. وبدا أن لبيد نجم صاعد في السياسة الإسرائيلية.
على الأثر، نتنياهو أقنعه بالانضمام إلى الائتلاف الحاكم معه ودفعه إلى منصب وزير المالية، الذي يعد عادةً مدفن السياسيين. ووقع لبيد في هذه المصيدة، إذ انتهز نتنياهو أول فرصة فأقاله من منصبه بعد 19 شهراً، وقاد إسرائيل إلى انتخابات مبكرة. ولكن كملاكم يواجه خصماً أقوى منه، وقف لبيد على رجليه وتلقى ضربة تلو الأخرى. وفي هذه الانتخابات تراجع حزبه إلى 11 مقعداً. وهنا اختار لبيد البقاء في المعارضة، رافضاً عروض نتنياهو الانضمام مرة ثانية إلى حكومته... وبدا مشروعه الاستراتيجي لإسقاط نتنياهو.
الانطباع الأوّلي عن لبيد في تلك المرحلة كان أنه ما زال صغيراً أمام الكبار (على الأقل، هكذا تعامل معه نتنياهو) ولم يعد يشكل تهديداً جدياً للفوز بالسلطة. لكن من جهته، سار لبيد على طريق النمل. يعمل بهدوء بالغ. يغرس عميقاً في الأرض. ويؤسس لمفاهيم جديدة في العمل السياسي. يُكثر من التشاور مع السياسيين السابقين، خصوصاً أولئك الذين عملوا مع نتنياهو ويعرفون مواطن ضعفه، مثل إيهود أولمرت ودان مريدور وتسيبي ليفني. وفي تلك الفترة تعرف إلى نفتالي بنيت، رئيس حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف وشريكته إييليت شكيد، وهما الشابان اللذان عملا موظفين لدى نتنياهو... شكيد مديرة مكتبه وبنيت رئيس طاقمه. لكن نتنياهو تخلص منهما لاحقاً لأنهما اختلفا مع زوجته سارة. وبالتالي، أقام لبيد معهما شراكة غريبة، أطلق عليها «الإخوة اليهودية».
بعدها جنّد لبيد مجموعات من الشباب يحثهم على بدء المسار نحو قيادات شابة، وكان أول السياسيين الذين استخدموا الشبكات الاجتماعية في طرح الأفكار وتجنيد المؤيدين. وراح يتعاطى مع الشباب بروح تلائم طروحاتهم، وقال لهم: «أنا أفهم تلبُّككم ما بين اليمين واليسار، وأقدم لكم سياسة تدمج ما بين اليمين واليسار. فكلنا شعب واحد. أنا يميني في كثير من القضايا ويساري وليبرالي في قضايا أخرى».
وعلى الأرض، ترجم هذه المقولة إلى مواقف سياسية أيضاً. فهو وزير مالية في حكومة رأسمالية راديكالية، لكنه طرح مواقف ترفع شعار «العدالة الاجتماعية للطبقة الوسطى». وهو يؤيد «حل الدولتين» و«الانفصال عن الفلسطينيين»، لكنه يعد هذا الموقف «الضمان لبقاء إسرائيل ذات أغلبية يهودية»، ولا يقبل بانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 ويؤمن بوجوب إبقاء كتل استيطانية كبيرة ضمن حدود إسرائيل.
وفي انتخابات 2013 اختار لبيد أن يعلن عن برنامجه السياسي في جامعة مستوطنة أرئيل بالتحديد، التي تعد مدينة استيطانية في قلب الضفة الغربية وقائمة على أراضي نابلس. وهو ينادي بالتجنيد الإجباري لليهود المتدينين والعرب، وعُرف عنه معارضته وتطبيقه سياسة ضد منح امتيازات لليهود المتدينين واتهامهم بالتطفل على الدولة والبطالة.
وهو يقول إنه يؤيد المساواة للمواطنين العرب، لكنه أفشل احتمال تشكيل حكومة تستند إلى تأييد الأحزاب العربية. وفقط بعد الانتخابات الأخيرة، بعدما بادر نتنياهو إلى التفاوض مع الحركة الإسلامية برئاسة منصور عباس، غيّر لبيد رأيه وسار على طريق نتنياهو وضم إلى ائتلافه الحكومي تلك الحركة، لأول مرة في تاريخ إسرائيل.

- المستقبل
يائير لبيد اليوم هو «رئيس الوزراء البديل» ووزير الخارجية وشريك نفتالي بنيت في قيادة الائتلاف. وهو يحرص بشدة على التعامل مع بنيت كقائد أول، ويقول: «لدينا رئيس حكومة واحد هو نفتالي بنيت».
المقربون منه يقولون إنه اتفق مع بنيت على أن يحرص الوزراء على إطراء بعضهم بعضاً، كي يقدموا نموذجاً لحكومة جديدة تختلف عن الحكومات السابقة، خصوصاً عن حكومة نتنياهو. وهو شخصياً كان قد التزم قبل خمس سنوات بأن يحافظ على طهارة اللسان فلا يهاجم أي خصم بكلمات لاذعة أو جارحة.
وعندما وصل إلى أبوظبي امتدح خصمه اللدود نتنياهو، وقال: «أشكر باسمنا جميعاً رئيس الحكومة السابق، الذي كان مهندس اتفاقيات أبراهام وعمل على تحقيقها دون كلل. وهذه اللحظة له ليس أقل مما هي لنا». ومع أن نتنياهو ورفاقه في قيادة الليكود لم يحترموا هذا الإطراء وراحوا يهاجمون لبيد بقولهم «إنه يقطف ثمار ما فعل نتنياهو»، واستخفّ نجل نتنياهو بلغة لبيد الإنجليزية وكتب: «لغة ركيكة يخجل منها تلميذ في الصف الثامن»، ردّ لبيد بالقول: «لن أغيّر من طباعي في قول الصدق حتى لو تصرفوا بهذا الجحود. لقد قلت لكم إننا في عهد جديد، ولن ينجح أحد في إعادتنا إلى الوراء لأيام بث الكراهية والأحقاد».
يائير لبيد ملاكم معروف، يمارس هوايته هذه حتى اليوم.
مشيته مشية ملاكم. ويقول معارفه إنه يتصرف كملاكم في السياسة أيضاً، لكنه هنا يضيف قانوناً جديداً إلى الحلبة، قانون النفَس الطويل. فما بين الضربة والضربة، يتريث أكثر من الوقت المسموح ويسجل النقاط. ولا يهمه أن ينتظر سنتين حتى يوجه الضربة القاضية.
أما الأسئلة التي تنتظر إجابات عنها فهي: هل يصمد لبيد في هذه المزايا ويحافظ على حكومته ذات التركيبة المتناقضة؟ وهل تصمد حكومته حتى نوفمبر 2023، لكي يأتي دوره ويصبح هو رئيس حكومة؟ وهل تنفع مواهبه في الملاكمة في تغيير قوانين اللعب وتوجيه الضربة القاضية إلى نتنياهو، قبل أن ينقضّ عليه الأخير ويعيده إلى خارج الحلبة؟


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.