هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

نموذج لتنقّلات أهل الجزيرة العربية عبر القرون

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم
TT

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

مع قلة الأقلام التي تناولته بعمق، وبسببٍ من أهميته التاريخية والثقافية، ظلّ موضوع هجرات أهل الجزيرة العربية - شمالا نحو العراق وبلاد الشام وفلسطين وتركيا وآسيا، وشرقا نحو شبه القارة الهندية وجزر الملايو، وغربا نحو أفريقيا وأوروبا وأميركا، وتواصلهم الثقافي والاجتماعي مع شعوب تلك الجهات - ظل يستأثر ومنذ سنوات بحيّز من تفكير كاتب هذا المقال واهتماماته، وكانت مسألة الصلات مع جنوب شرقي آسيا استثناءً وحيدا خصّته بعض الكتابات القديمة والحديثة في التراثين الإندونيسي والحضرمي، وهي الصلات التي تمثّلت في الهجرات الحضرمية القديمة إلى جزر (أرخبيل) الملايو، وفي بعثات أُوفدت للدعوة والدعاية في تلك النواحي لأغراض دينية وسياسيّة.
والمقصود ببلاد الملايو هنا هي تلك المنطقة التي أصبحت سياسيّا بعد نيلها الاستقلال تعرف بإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وما حولها.
لكن المقال لن يعرض للصلات الدينية والثقافية بين بلاد الحرمين الشريفين (الحجاز) وبلاد الملايو، على اعتبار أن مكة المكرمة والمدينة المنورة كانتا ومنذ البعثة المحمدية على صلة بشرية وروحية بكل بلدان العالم الإسلامي دون استثناء.

تمثّل هجرات الحضارم إلى جزر الملايو - عند الحديث عن علاقات العرب مع بلاد الشرق - الصلات الأوثق والأقدم والأوسع، وهي صلات ينسب لها الفضل الأكبر في انتشار الإسلام في جنوب شرقي آسيا مرورا بالهند، وقد كتب الكثيرون من مثقفي حضرموت وبلاد الجاوة عن هذه الظاهرة ومظاهرها وجوانبها الاجتماعية والتراثية والاقتصادية والثقافية، وأُلّفت العشرات من الكتب وأُنتجت أفلام توثيقية عنها، تحدثت عن أن الحضارم الموجودين في المهجر الشرقي والشمالي والغربي يزيدون عددا عن أهلهم في الوطن الأصلي، وتحدثت عن قدرة بلاد الجاوة على استيعاب تلك الهجرات والتعايش الفريد بين مختلف الثقافات والأعراق.
وحضرموت اليوم - التي يبلغ عدد سكانها نحو مليون ونصف المليون وتمثّل إحدى المحافظات الجنوبية لليمن ومن أبرز مدنها وموانئها المكلا (العاصمة) والشحر وتتبع لها جزيرة سقطرى - كانت تشكّل أكبر من ذلك جغرافيّا وتاريخيّا، وقد هاجر جزء كبير من أهلها نحو الشمال وبخاصة نحو المملكة العربية السعودية، ونحو الشرق عبر البحر الأحمر إلى زنجبار وإثيوبيا والصومال ومدغشقر.
ولا توجد معلومات مؤكدة عن بدايات الهجرات الحضرمية إلى أرخبيل الملايو، لكن من المرجّح أن تكون بدأت في أثناء القرن الثالث الهجري (الثامن الميلادي) وهناك كتابات تذكر أن هجرات الحضارم بدأت تتجه شرقا نحو الهند ومنها إلى بلاد الجاوة قبل ظهور الإسلام، وتقول بعض المصادر إن أفرادا من طبقة السادة العلويين كانوا طلائع المهاجرين في العهود الإسلامية ثم لحقت بهم طبقات أخرى، وقد انتقلت تلك الخصوصية من «الطبقيّة الحضرمية» إلى المنازل الجديدة في جنوب شرقي آسيا (إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وجنوب الفلبين وتايلاند وبورما) وتنتشر الأكثرية من الأصول الحضرمية اليوم في جاكرتا (بتافيا) وبعض المدن الإندونيسية.
وإذا ذكرت الهجرات الحضرمية إلى شرق آسيا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أمران: انتشار الإسلام عبر السلوك، وحسن التعامل في النشاط التجاري، لكن الواقع أن فئات من المهاجرين انهمكت في ممارسات حزبية سياسية وتكتّلات دعوية، وأصدرت تبعا لذلك في الثلث الأول من القرن الماضي نحو عشرين صحيفةً ومجلة ناطقة باللغتين الجاوية والعربية كما سيأتي تفصيله لاحقا.
ويبدو أن تلك الممارسات التي اتسمت بشيء من الفوضى وانضمّت إليها عناصر من جنسيّات عربية أخرى، قد شوّهت السمعة العالية للجنس الحضرمي عبر العصور، وذلك بظهور فريقين متنافرين هما العلويون والإرشاديون، وكان لكل فريق توجهات سياسية وعرقية وعقدية متباينة بلغت ذروتها في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي، وقد توسّط فيها عدد من الغيورين من مشايخ حضرموت ومن الملك عبد العزيز، ثم بدأت بالانحسار مع تطوّر النظام السياسي الديمقراطي في تلك الدول، مما ساعد على ظهور زعامات محلية وأخرى ذات جذور عربية كان لها نصيب وافر من الوصول إلى المناصب القيادية العليا في تلك الدول، وكان من الصحف التي صدرت بالعربية؛ «المعارف» (إندونيسيا 1927 م) و«حضرموت» (جزر الهند الشرقية 1924م) و«الجزاء» (سنغافورة 1934 م).
لقد كتب الكثير - وبخاصة من مثقّفي حضرموت - عن الوجود العربي في تلك الأرجاء عبر القرون سواء من قبل المستوطنين الحضارم أو ممن لحق بهم من الوافدين العرب، وفصّل الحديث عن النشاط السياسي والدعوي والإعلامي لتلك الجاليات، وكان من أبرز من تناول هذا النشاط - من غير الكتّاب الحضارم - الباحث الكويتي يعقوب يوسف الحجي في كتابه عن سيرة المؤرخ الكويتي عبد العزيز الرشيد (صدر عام 1993 م) والأكاديمية الكويتية نوريّة الرومي في كتابها عن حياة الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي (صدرت طبعته الثانية عام 1993م) ودكتور أحمد إبراهيم أبو شوك في مؤلّفه عن سيرة الداعية السوداني أحمد محمد السوركتّي (2000 م).
ومع دخول مملكة الحجاز في الحكم السعودي عام 1924م نشطت الدعايات المعادية للسعودية في كل من جزر الملايو والهند ومصر في ظاهرة امتدّت نحو عشرين عاما، وقد أسهمت تلك الدعايات - مقرونةً بتأثّر أوضاع الاقتصاد العالمي بإرهاصات الحرب الكونية الثانية - في امتناع كثير من حجاج الجاوة والهند عن القدوم للحج، متأثرين بما كان يقال عن تردّي الأمن.
وهنا بذلت أجهزة الحكومة السعودية جهودا متوالية لمواجهة الموقف، كان منها إنشاء مديريّة للدعاية للحج تابعة لوزارة الماليّة، وإيفاد مبعوثين إلى تلك البلدان، وبخاصةٍ بلاد الملايو (الجاوة) وشبه القارة الهندية ومصر، من بينهم شخصيّات سعودية وعربية موالية للعهد الجديد في الحجاز، ولديها اقتناع بسلامة نهجه العقدي.
وقد انهمك بعض هؤلاء الموفدين - على غرار من سبقهم من الحضارم - في الصراعات السياسية والطائفية والدينية، وكان منهم الكويتي عبد العزيز الرشيد، والداعية السوداني أحمد السوركتّي، والإعلامي العراقي يونس بحري، والشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي، الذين كانوا ممن أوفدوا في تلك المهمّات واستوطنوا بلاد الملايو في الثلث الأول من القرن الماضي، وأصدروا مجموعة من الصحف العربية هناك، كان منها صحيفة «التوحيد» وصحيفة «الكويت» و«العراقي» و«الهدى» وغيرها.
وباستعراض ما كتب عن موضوع هذه البعثات الدعوية والإعلامية، يُلاحظ أنه لم ينل من المراجع المحلية السعودية ما يستحقّه من اهتمام، وقد سبق لكاتب هذا المقال أن تناوله من جانبه الإعلامي، بينما خصه د. محمد الربيّع ببحث من زاويته الثقافية وقد أسماه المهجر الشرقي.
ولئن عُدّت هجرات الحضارم ورحلاتهم نحو بلاد الملايو من أقدم الهجرات العربية وأشهرها، فإنها في الواقع كانت نموذجا لهجرات أخرى خرجت من الجزيرة العربية، ومنها على سبيل المثال:
1 - هجرات أسر حجازية وعسيرية من أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وأبها وما حولها إلى تركيا، وكانت إما هجرات ورحلات من نوع طبيعي بسبب التبعية السياسية للدولة العثمانية، أو من نوع تهجير قسري مما عرف باسم «السفر برلك»، ومارسته تركيا كارثيّا مع العديد من أهالي المدينة المنورة بُعيد تشغيل الخط الحديدي الحجازي عام 1908م الذي اسُتخدم في عملية تهجير أخلت المدينة المنورة من معظم أهلها الأصليين، وهناك تهجير مارسه الأتراك عنوةً ضد السعوديين وذلك بعد تدمير الدرعية سنة 1818م.
2 - ومن الهجرات والرحلات والصلات بنوعيها التجاري والثقافي، التي حظيت بشيء من الكتابات والتوثيق خلال العقود القليلة الماضية، هو ما اصطلح عُرفا على تسميته «تجارة العقيلات» وهو نوع من الرحلات على ظهور الجِمال والخيل، كان يقوم به مئات النجديين بغرض التجارة مع العراق وبلاد الشام، وإلى فلسطين ومنها إلى مصر والسودان قبل فتح قناة السويس وبعده، وأدت تلك التجارة إلى استقرار بعض أفراد هذه الجماعات في تلك البلدان ومن ثمّ إلى التزاوج مع أهلها، مستفيدة من الفرص التعليمية المتاحة في تلك النواحي.
وعلى الرغم من تكاثر الكتابات التي دوّنت تلك الرحلات مؤخّرا، فإنها لم تفلح في التوصّل إلى معلومات قاطعة حول سبب التسمية، وهل هي من عقْل الإبل أي ربطها، أم من لبس العقال في مقابل الحرّاس من الترك الذين يلبسون الطرابيش، أم نسبة إلى قبائل «بني عقيل» التي كانت لها الغلبة والإمارة في شرق الجزيرة العربية وفي نواحي الموصل مدةً من الزمن، وكان بعض أفرادها يقومون بحراسة القوافل نظير أجر؟
كما لم تفلح في تسجيل البدايات الزمنية لتلك الهجرات والرحلات، حيث من المعتقد أنها بدأت في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ثم تقلّصت وتلاشت مع انتشار استخدام السيارات عند منتصف القرن العشرين، بمعنى أنها ربما استمرت نحو قرنين من الزمان.
كما لم تفلح الكتابات في تحديد حقيقة أهدافها السياسية، إذ إن المتداول عرفا في نجد أن نشاط العقيلات كان يقتصر على الأغراض التجارية ثم الثقافية والاجتماعية، وكانت تركز على بيع الإبل والخيل وتجلب الأقمشة والتوابل والبضائع الحديثة، بينما تذهب بعض المصادر إلى ذكر أدوار سياسية وعسكرية كانت تقوم بها.
ولم تؤكّد الكتابات بعدُ حقيقة ارتباط أسباب هذه الهجرات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، خاصةً إذا ما ثبت اقتران ظاهرة العقيلات مع منتصف القرن الثامن عشر الميلادي (بداية الدعوة).
ومهما تكن نتيجة تلك التساؤلات، فإن تجارة العقيلات كانت تمثّل في زمنها ظاهرة اجتماعية في شمال إقليم نجد وبالأخص في بلدات القصيم وحائل والزلفي، ظاهرةً ما تزال حكاياتها تُروى وتُستعاد في المجالس، شارك فيها مئات الأسر والأعيان ممن رصدت الكتابات والمدوّنات قوائم بأبرز أسمائها، وعملت مدينة بريدة بالقصيم مؤخّرا على تسمية معالم تجارية باسمها، وهي المدينة التي اشتهرت مع ضواحيها بخروج أغلب رجالات العقيلات منها.
وغير بعيد عن هجرات العقيلات - وربما من آثارها، لكنها كانت أكثر منها استقرارا وتوطّنا - هجرات النجديين إلى بلدات جنوب العراق والزبير بوجهٍ أخص، حيث تقاطرت أسر كثيرة من سدير والزلفي والقصيم واستوطنت فيها في القرنين الماضيين وربما من قبل جاعلةً من الزبير مدينةً نجديةً صِرفة، ثم بدأت تلك الأُسر بالعودة مع تقلّب الأوضاع في العراق في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي، وفي المقابل ازدهار الحياة في المملكة العربية السعودية.
ومثلما قيل عن ظاهرة تجارة العقيلات، وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن تاريخ مدينتي البصرة والزبير، إلا أنها لم تجب عن أسئلة ضبابية عن بدايات تلك الهجرات ودوافعها الحقيقية، غير تلك التي تعزوها إلى حالة الفقر التي كانت تعم نجدا في تلك الحقبة.
3 - أما النموذج الثالث من تلك الهجرات فإنها هجرات أهل الجزيرة العربية نحو الهند، وهو موضوع كتب عنه القليل جدا مع أن المعلومات المتناثرة تؤكد وجود تواصل واضح بين أهل الأحساء ونجد وعسير وبلدان الخليج عامة مع شبه القارة الهندية، كما تشير كتب التاريخ إلى الممالك العربية التي أقيمت منذ القدم فيها، والمقصود بشبه القارة الهندية هنا تلك المنطقة من جنوب آسيا التي كانت تضم الهند والباكستان وبنغلاديش قبل انفصالها عام 1947م.
وبين أيدينا سيَر وتراجم للعشرات - وربما للمئات - من الشخصيّات والأسر الأحسائية والنجدية والعسيرية، وبالتأكيد الحجازية، التي درست واستوطنت ومارست التجارة أو تلقّت تعليمها في الهند وبقي بعض أفرادها إلى الآن، إلا أن تلك المعلومات لا توضّح البدايات والدوافع لتلك الهجرات، التي كانت - على الرغم من بُعد المسافة ومخاطر الإبحار - تنطلق من سواحل الخليج واليمن وعدن، كما توجد أمامنا سير عدة لأُسر امتهنت الغوص وكانت لديها سفن مجهّزة للتجارة مع مدن الهند الساحلية، وقد ارتبطت مع المجتمع الهندي بعلاقات ثقافية وبمصاهرات، وتتحدث الوثائق التاريخية القديمة بكثرة عن واحد من هؤلاء البحّارة وهو أحمد بن ماجد بن محمد السعدي النجدي (821 هـ - 906 هـ) المنسوب إلى رأس الخيمة، وهو بحسب ويكيبيديا «ملاح وجغرافي عربي مسلم، برع في الفلك والملاحة والجغرافيا وسماه البرتغاليون (بالبرتغالية almirante‏ ومعناها أمير البحر) ويلقب بمعلم بحر الهند، وهو ينتسب إلى عائلة من الملاحين، كتب العديد من المراجع، وكان خبيرا ملاحيا في البحر الأحمر وخليج بربرا والمحيط الهندي وبحر الصين، ويتمتع بأشهر اسم في تاريخ الملاحة البحرية لارتباطه بالرحلة الشهيرة حول رأس الرجاء الصالح إلى الهند حيث قام ابن ماجد بمساعدة فاسكو دي غاما لاكتشاف الطريق الجديد الموصل إلى الهند، وله الفضل في إرساء قواعد الملاحة العالمية، وبقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدة في كل من البحر الأحمر والخليج وبحر الصين حتى سنة 903 هـ وهو أول من كتب في موضوع المرشدات البحرية الحديثة». انتهى.
أما في عصرنا الحديث، فصدرت كتب عدة من بلدان الخليج تتحدث عن الملاحة والغوص، ومن بين من تذكرهم الوثائق المتأخرة اسم النوخذة عبد الله بن عيسى الذوادي (شيخ الذواودة من بني خالد) الذي عاش بين عامي 1855 و1943 م واحترف التجارة بين البحرين والهند عبر امتلاكه سفنا عدة.
وهناك العشرات من الأسر النجدية التي هاجرت واستقرت في الهند في القرن الماضي ومنها الفضل والقصيبي وآل السليمان الحمدان والسديراوي والقاضي والبسام، وقد ظهر منها عشرات الشخصيات التي تلقت تعليمها في الهند وتولّت مناصب إدارية متقدمة في المملكة العربية السعودية في فترة تأسيسها بخاصة، وهو ما يشي بالتأثير الثقافي الهندي على بلدان الجزيرة العربية في القرن الماضي ويتطلّب جهدا بحثيّا مكثّفا، وكانت ندوة عقدت قبل عامين على هامش معرض الكتاب بالرياض عن العلاقات الثقافية السعودية الهندية، في حين نشرت صحيفة «الرياض» (في عددها 15691 بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2011م) بحثا مستفيضا عن دُور السجلات الهندية في نيودلهي ومومباي وغيرهما، وفيها آلاف الوثائق عن الدولة السعودية في عهودها الثلاثة وعن الصلات الثقافية والسياسية والاجتماعية بين الجزيرة العربية والهند بانتظار من يواصل البحث والتنقيب فيها.
ولا بد هنا من الإشارة إلى المخطوطات العربية المحفوظة في المكتبات الهندية، وإلى الدور الذي كانت تقوم به المطابع الهندية في حيدر آباد وغيرها لطبع كتب التراث العربي بإشراف مثقفين مهاجرين أقاموا فيها من أمثال الشاعر خالد الفرج وغيره، وكان وكلاء الملك عبد العزيز في الهند وفي مصر يقومون بطبع كتب تراثية على نفقته، وقد نوقشت مؤخرا رسالة ماجستير مسجلة في جامعة الإمام عن العلاقات الثقافية العربية الهندية، وكانت المجلة الثقافية التي تصدر عن جريدة «الجزيرة» السعودية نشرت (في عددها رقم 403 بتاريخ 18/ 4/ 2013 م) بحثا من إعداد إبراهيم المديهيش تضمّن أسماء خمسة وثلاثين شخصية نجدية درست في الهند، ومن ضمنها مجموعة من طلبة العلم الشرعي، وكان من طريف ما نشر مؤخّرا في هذا الشأن (في العدد 413 بتاريخ 28/ 9/ 2013م من المجلة نفسها) معلومة عن مخرج هندي من أصل سعودي اسمه إبراهيم حمد العلي القاضي من أُسر مدينة عنيزة التي هاجرت إلى الهند، وهو يُعدّ هناك من كبار المخرجين المسرحيين وأكثرهم تأثيرا خلال القرن العشرين، وقد أُطلق عليه - بحسب ويكيبيديا - الأب الروحي للمسرح الهندي الحديث، إضافة إلى كونه رساما ومصوّرا مهتما بالتراث والثقافة والمقتنيات والصور النادرة، وأستاذا بارزا للدراما في الهند تتلمذ على يديه بعض كبار الممثلين ونجوم السينما، ومؤسسًا لعدد من المؤسسات الثقافية، وأحد أهم الشخصيات الثقافية والفكرية في تاريخ الهند الحديث، كان والده أحد تجار نجد، الذين قضوا حياتهم في التجارة متنقّلا بين باكستان والهند وتركيا والكويت ولبنان، ثم استقر فترة من الزمن في الهند حيث ولد ابنه إبراهيم عام 1925م في مدينة بونا قرب مومباي، وقد تزوج إبراهيم من مصمّمة هندية تدعى روشان شاركت في تصميم أزياء مسرحياته، وأنجبا آمال وهي مديرة الكلية الوطنية للدراما حاليا، وفيصل ويعمل كذلك في الإخراج المسرحي.
وعودا على بدء؛
فباستثناء الكتابات التي تناولت الحالة الحضرمية في بلاد الملايو، تبقى هجرات أهل الجزيرة العربية قديما نحو الشمال والشرق والغرب بحاجة إلى المزيد من البحث والاستكشاف.

* محاضرة ألقيت في منتدى الرحمانية السنوي بمحافظة الغاط في السعودية، الخميس 9/ 1/ 2014



بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

TT

بن لادن استقبل مبعوث صدام حسين فارتبط غزو العراق بهجمات 11 سبتمبر

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)
فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

ما أخطر مهمة يمكن أن يقوم بها إنسان؟ إنها لقاء يعقده مبعوث رجل صعب اسمه صدام حسين مع رجل صعب مقيم في السودان اسمه أسامة بن لادن، وأن تعرف أجهزة جورج بوش الابن أن اللقاء قد عُقد.

لا مبالغة في القول إن ذلك اللقاء كان الذريعة الأهم التي استخدمتها واشنطن في تبرير غزو العراق مستفيدةً من المناخات التي سادت أميركا بعد الهجمات التي شنتها «القاعدة» بزعامة بن لادن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على واشنطن ونيويورك.

لم يكن هناك أصلاً أي مبرر كي يؤثر بن لادن على مصير صدام حسين. ينتمي الرجلان إلى قاموسين متباعدين. ثم إن صدام رئيس دولة عريقة في المنطقة وليس زعيم فصيل. وهو ابن حزب علماني، مما جعله يختار طارق عزيز المسيحي وزيراً لخارجية البلاد، الأمر الذي تعذر في أماكن أخرى. ثم إنه ليس من عادة صدام أن يتنازل للانخراط في لعبة لا يكون صاحب القرار فيها.

لكن خطأ القبول بموعد في الخرطوم جعل صدام يدفع ثمن الاتصال بأسامة بن لادن رغم أن اللقاء انتهى إلى فشل. ويقول أحد الذين عملوا في المخابرات العراقية في تلك الفترة إن القوات الأميركية التي غزت العراق استولت على وثيقة أعدَّتها المخابرات وتقول فيها إن المبعوث العراقي نصح بصرف النظر عن فكرة التعاون مع بن لادن، وهو ما حدث.

صدام مجتمعاً بأركان نظامه غداة اتهام جورج بوش له بالتعاون مع «القاعدة» (غيتي)

والواقع أن التسعينات السودانية كانت شديدة الخطورة. ارتكب فيها نظام الرئيس عمر البشير ثلاثة أخطاء كبيرة هي: استضافة زعيم «القاعدة»، واستضافة أشهر مطلوب دولي آنذاك وهو كارلوس الفنزويلي منفِّذ عملية احتجاز وزراء «أوبك»، وتداخل مع الخطأين ارتكاب كبير تمثَّل في ضلوع الرجل الثاني في النظام علي عثمان طه في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا.

لم يتوقف بن لادن طويلاً عند ما حدث في الخرطوم في أغسطس (آب) 1994. ففي ذلك الشهر جاءت وحدة كوماندوز فرنسية واعتقلت كارلوس واقتادته إلى فرنسا حيث يهرم الآن في سجنه. ولم يكن هناك ما يسمح بقيام تعاون بين كارلوس وبن لادن حتى ولو جمعهما العداء للغرب. جاء كارلوس من ينابيع مختلفة. من مناخات الحزب الشيوعي الفنزويلي وأطل على العالم على يد الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ولا مبالغة في القول إن حداد حوّل كارلوس نجماً ورمزاً قبل أن يفترق الرجلان في بداية 1976. نفَّذ كارلوس بعد ذلك التاريخ هجمات، لكن زمن لمعانه انقضى بعد مغادرته عباءة حداد.

أغلب الظن أن بن لادن لم يشعر بالقلق من احتمال أن يواجه مصير كارلوس. فهو جاء إلى السودان مع ثروته. ثم إن سلوكه الشخصي مختلف عن سلوك كارلوس الذي تستهويه مناخات الليالي الصاخبة حتى في مدينة محافظة. لكن بن لادن لم يتنبه إلى أن نظام عمر البشير وحسن الترابي قد يرضخ أيضاً للضغوط وينصحه ذات لحظة بالمغادرة.

بن لادن «مستثمراً»

ما قصة بن لادن مع السودان؟ سألت صديقاً مطلعاً أن يروي، فقال: «جاء أسامة بن لادن إلى السودان مرتين. كانت الأولى على ما أذكر في نهاية أغسطس (آب) 1988. كان السودان قد تعرض في تلك الفترة لسيول وفيضانات خلَّفت ضحايا وأضراراً واسعة في بلد معروف الإمكانات. كنت في زيارة شخصية رفيعة حين دخل شابان هما أسامة بن لادن وأخوه الأصغر».

صورة نادرة للبشير وبن لادن في سنوات السودان

يتذكر الرجل أن أسامة «قدم نفسه بوصفه صاحب شركة إنشاءات وتحدث بلغة هادئة. تطرق إلى ما أحدثته السيول معبِّراً عن تعاطفه مع البلد. شدد على أهمية أن تكون في بلاد واسعة كالسودان شبكة طرق جيدة نظراً لما لذلك من فوائد اقتصادية وتنموية، ولأن هذه الشبكة تسهل عمليات الإغاثة في حال حصول كوارث طبيعية. وأعرب في اللقاء عن استعداد المؤسسة التي يديرها للمساهمة في شق الطرق وفي بعض عمليات الإغاثة. تحدث الرجل بصورة طبيعية ولم يكن اسمه آنذاك معروفاً إلا في سياق المشاركة في الجهاد الأفغاني ضد السوفيات».

ويضيف الراوي: «بعد تحرير الكويت على يد تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة غادر بن لادن السعودية إلى السودان في 1991، وأعتقد أن ملفه صار هذه المرة في عهدة الأمن. اصطحب بن لادن معه إحدى زوجاته وأقام في محلة الرياض في الخرطوم في فيلا يملكها مغترب سوداني كان يعيش في السعودية اسمه عثمان سلمان. وكان سلمان مديراً لمصنع الشفاء الذي قصفته القوات الأميركية في 1998 في عهد الرئيس بيل كلينتون».

«الأفغان العرب» في السودان

طلب بن لادن من الجهات التي تتولى العلاقة معه السماح له باستقدام أفراد من مجموعته. في محلة سوبا الحلة التي تبعد 25 كيلومتراً عن الخرطوم. اشترى مزرعة كمزارع الباقير التي تبعد 60 كيلومتراً عن العاصمة والتي كانت تحتوي على عدد من العنابر. في محلة الرياض كان مع بن لادن سوري أصبح إماماً للمسجد القريب الذي كان بن لادن قليلاً ما يظهر فيه، وقد اعتُقل السوري المشار إليه لاحقاً في ألمانيا. في محلة سوبا الحلة لاحظ سكان أن شباناً بملامح غير أفريقية يركضون صباحاً في ما يشبه التدريبات وتبين لاحقاً أن هؤلاء من «الأفغان العرب».

منزل بن لادن في السودان (أرشيفية - الشرق الأوسط)

كانت لدى بن لادن شركة اسمها «وادي العقيق» تولت بناء مطار في بورتسودان وشق أكثر من طريق، بينها طريق الخرطوم-العيلفون. وعلاوة على ذلك كان بن لادن مولعاً بتربية الخيول التي كانت أيضاً محط اهتمام عدد من أبناء كبار الشخصيات البارزة، وبينهم عصام نجل الدكتور حسن الترابي.

كان سلوك أسامة بن لادن أقرب إلى الانطواء. لم يكن يظهر في مناسبات عامة. لكنَّ وجود «الأفغان العرب» بدأ يثير بعض الإشكالات. كان هناك مثلاً إسلامي ليبي اسمه محمد عبد الله الخليفي يدخل مع جماعة «أنصار السنة» في جدالات حادة. في فبراير (شباط) 1994، ذهب الخليفي إلى مسجد الشيخ أبو زيد في الخرطوم وسحب رشاشه وقتل 20 شخصاً من «أنصار السنة». توجه بعدها مع رفاق له إلى منزل بن لادن وتبادل إطلاق النار مع حراس المنزل. بعد اعتقاله تبين أنه كان ينوي أيضاً اغتيال بن لادن والدكتور الترابي.

زار الراوي بن لادن وسأله إن كان يعرف هؤلاء فقال إنه كان يتعرف عليهم في مرحلة الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان. وأضاف بابتسامة أن هؤلاء كانوا مولعين بمسألة التكفير. يُكفِّرون الحاكم ثم الجماعة ويُكفِّرون حتى أنفسهم.

كان أسامة بن لادن مستقراً في السودان. تردد لاحقاً وعلى لسان مسؤولين بارزين بينهم الترابي أن جهاز الأمن السوداني عرض ذات يوم على الجانب الأميركي تسليمه بن لادن لكنه رفض بسبب عدم وجود أسباب لمحاكمته في الولايات المتحدة. لكنَّ زلزالاً مفاجئاً سيغير المشهد السوداني لجهة علاقته بـ«الأفغان العرب».

محاولة اغتيال مبارك

في 26 يونيو (حزيران) 1995، نجا الرئيس حسني مبارك من محاولة اغتيال استهدفته في أديس أبابا خلال مشاركته في القمة الأفريقية. أثار الحادث ردود فعل عربية وإسلامية ودولية خصوصاً بعدما ألمح مبارك نفسه إلى احتمال علاقة «الجبهة الإسلامية» التي يتزعمها الترابي بالحادث.

سيارة المسلحين الذين حاولوا اغتيال مبارك في أديس أبابا (أ.ف.ب)

وقع فشل المحاولة كالصاعقة على النظام السوداني بعدما لاحت في الأفق بوادر عقوبات دولية عليه. الرجل الذي أُصيب بالذعر هو الرجل الثاني في النظام، أي نائب الرئيس، علي عثمان طه، وهو كان «الرجل القوي» في عهد البشير. كان الرجل ضالعاً في المحاولة مع كبار المسؤولين في جهاز الأمن. وقد أوكل التنفيذ إلى «الجماعة الإسلامية» المصرية بزعامة مصطفى حمزة الذي نجح في الفرار من السودان بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل خمسة من المهاجمين.

خروج بن لادن

لم يكن أمام النظام غير السعي إلى محاولة خفض الأضرار والأخطار. أقال البشير كبار مسؤولي جهاز الأمن وتقرر تسفير «الأفغان العرب». وذات يوم جاء البشير ونائبه إلى مكتب الترابي وأبلغاه بأن ترتيبات مغادرة أسامة بن لادن قد أُنجزت. وزار الرجلان بن لادن في مقر إقامته، ثم تولت طائرة عسكرية نقله إلى أفغانستان.

البشير ونائبه أمام القضاء بعد إطاحتهما (أ.ف.ب)

احتضنت حركة «طالبان» زعيم «القاعدة» ووفَّرت له الملجأ الآمن. لم يكن الملا عمر يتوقع أن يكون هذا الزائر سبباً في سقوط نظامه. في أواخر التسعينات كان السؤال عن بن لادن طبيعياً حين يلتقي صحافي مسؤولاً سودانياً. سألت الرئيس عمر البشير فأجاب: «جاء بن لادن إلى السودان في أعقاب الحرب الأفغانية من مدخل الاستثمار في مجال الطرق والمطارات والزراعة، وهي مجالات ظل يعمل فيها وتعمل فيها شركات تابعة لأسرته منذ أمد طويل، وليس له أتباع أو شبكات تنبت بهذا المعنى في السودان سوى مجموعة قليلة من مساعديه ظلت دائماً حوله. ظل هؤلاء بعيدين عن الإعلام وأجهزته على أي مستوى، بل لم يشاركوا حتى في مناسبات ونشاط المجتمع العادي. لكنَّ أميركا جعلت منه بعبعاً ترى صورته في كل مكان وحتى بعد أن خرج من السودان وهي تعلم جيداً أنه يعيش في شبه عزلة في بلد بعيد، لكنَّ هواجسها تغلب معلوماتها».

كلام البشير لا يُلغي أنه التقى الرجل مرات عدة في أثناء وجوده في الخرطوم ويصعب الاعتقاد أن الرئيس كان غير مطلع على علاقة حلقة في جهاز الأمن السوداني ببن لادن و«مزارعه».

وكان من الطبيعي أن أسأل الترابي نفسه، فقال: «نعم، قام بيني وبينه حوار محدود، فهو كان يبني في السودان طرقاً ومطارات وهو من أسرة تعمل في هذا المجال. لم يكن رجلاً يدخل في الساحات الفكرية والصحافية، ولم يُكتب عنه في الصحافة ولم يُرَ يوماً فيها. تحدثت معه عن أفغانستان وعن أننا كنا نخشى أن يترك الروس وراءهم بعد خروجهم منها أناساً ثوريين تمرَّسوا في تخريب (الباطل والاستبداد الأجنبي) ولكنهم لم يتمرنوا على أي شيء آخر فيحدث لهم ما حدث للثورة الفرنسية وكل الثورات الأخرى. قلت له إنني كنت أتحدث مع الإخوة في أفغانستان قبل سقوط كابل وكيف يجب أن يُحضِّروا لما بعد تحرير البلاد. وحدَّثته أن كابل سقطت قبل أن يتهيأوا لذلك ولم يكن لديهم بعد استعداد لإقامة مجتمع مسلم على مثالهم».

حسن الترابي (أ.ف.ب)

ورداً على سؤال عن الجهات التي طالبت بخروج بن لادن من السودان، قال الترابي: «جاء خروجه بطلب من البريطانيين نيابةً عن الأميركيين. المملكة العربية السعودية لم توجه ضغطاً مباشراً على السودان وهي لطيفة أصلاً. هو شعر بأن وجوده يُحرج العلاقات بين السودان والسعودية، والبَلدان تربطهما علاقات وثيقة جداً. العلاقات طيبة جداً ومن السودانيين نحو نصف مليون مواطن يعملون في السعودية ولم يطردوا واحداً منهم، وبن لادن لم يكن يريد أن يُحرج هذه العلاقات».

أفغانستان والمرحلة الأخطر

عاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان لتبدأ المرحلة الأخطر في تجربته. بعد شهور من عودته سيطرت حركة «طالبان» على أفغانستان وعدّته ضيفاً عليها. بعد عامين فقط دوت تفجيرات في سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، ووجهت واشنطن أصابع الاتهام إلى زعيم «القاعدة» المتحصن في أفغانستان، وتكرر الأمر نفسه بعد الهجوم الذي استهدف المدمرة «كول» الراسية في ميناء عدن. أصدر بن لادن في تلك الفترة بيانات توحي بأنه أطلق الحرب على الولايات المتحدة، لكن لم يتوقع أحد أن ينقل الحرب إلى أراضيها، وهو ما حدث في 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

حين حاول الرئيس جورج بوش الابن تبرير قراره بغزو العراق، أورد جملة اتهامات ضد نظام صدام تشمل أسلحة الدمار الشامل والقمع والمقابر الجماعية وانتهاك القرارات الدولية. لكنَّ التهمة التي استوقفت كثيرين كانت كلام بوش عن تعاون نظام صدام مع «القاعدة». لم تقدم الإدارة الأميركية دليلاً على تعاون من هذا النوع وظل الحديث عن علاقة بين نظام صدام و«القاعدة» مجرد تهمة لم يتقدم مَن يثبتها أو يقدم الدليل عليها.

قصة محاولات التواصل

أسوةً بصحافيين كثيرين أثار موضوع الاتصال بين صدام وبن لادن فضولي، فرُحتُ أسأل عنه. لم أعثر على جواب لدى معارضي صدام ولا لدى بعض الذين عملوا معه آنذاك. وكان لا بد من محاولة الوصول إلى «الصندوق الأسود» الحقيقي، أي إلى ذاكرة المخابرات العراقية في تلك الفترة. وافق رئيس شعبة أميركا في المخابرات، سالم الجميلي، على التحدث، وشاءت الصدفة أن يكون وراء المحاولة الأولى للاتصال بزعيم «القاعدة».

قبل الغزو العراقي للكويت كانت العلاقات بين العراق والسعودية طبيعية وإيجابية. وقَّع البلدان اتفاقية أمنية تحظر التدخل في الشؤون الداخلية وتوقف نشاطات الأجهزة الاستخباراتية على أرض الدولة الأخرى إلا في حدود النشاط العادي للسفارات. وكان صدام حسين يتحدث بإيجابية عن السعودية ووقوفها إلى جانب العراق في الأيام الصعبة وكان يشيد بالملك فهد بن عبد العزيز واحترامه الروابط بين البلدين وعدم امتناعه عن تقديم أي دعم ممكن إبان الحرب العراقية - الإيرانية. وروى أحد الذين عملوا في قصر الرئاسة العراقي أن الملك فهد بذل جهوداً حثيثة في الساعات التي أعقبت بدء الغزو لتدارك الموقف وإعادة الأمر إلى طاولة المفاوضات، لكنَّ صدام كان ذهب بعيداً.

أدت الأزمة عملياً إلى سقوط الاتفاقية الأمنية والتزاماتها. حين بدأت تتوارد أخبار عن اتصالات تُجريها المعارضة العراقية مع السعودية، كتبت المخابرات إلى الرئيس تقترح إلغاء الاتفاقية الأمنية مع السعودية لكنه رفض. وعندما كررت المخابرات حديثاً عن الاتصالات بين المعارضة العراقية والرياض، طلب صدام تزويده بتقرير شهري عن هذا الموضوع. وفي وقت لاحق استنتج صدام أن السعودية بدأت تدعم فكرة تغيير نظامه فأصدر توجيهاً إلى المخابرات بـ«العمل بكل قوة خصوصاً لتقويض الوجود العسكري الأميركي في السعودية».

سالم الجميلي (الشرق الأوسط)

قال الجميلي: «حين يصدر توجيه من هذا النوع من الرئيس شخصياً، فعلى كل الأجهزة الأمنية أن تبحث عن كل الأوراق التي يمكن أن تسهم في تنفيذه. كنت في ذلك الوقت مسؤولاً عن شعبة سوريا في الجهاز، وكانت لدينا علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا - جناح عدنان عقلة. أرسل عبد الملك شقيق عدنان أن لدى الإخوان علاقات مع بن لادن وأنهم على استعداد لإيصال رسالتنا إليه. استدعيته واستقبلته في أحد فنادق بغداد فأكد استعداده للقيام بهذا الدور. حمّلته رسالة شفوية فحواها أن لدينا الآن هدفاً مشتركاً وهو إخراج القوات الأميركية من المنطقة، وأننا يمكن أن نتعاون في هذا المضمار. أعطيناه نفقات السفر وكانت في حدود 10 آلاف دولار».

وأضاف: «عاد الرجل بعد شهر أو أكثر قليلاً. أبلغنا بأن موقف بن لادن كان متشدداً جداً وأنه كرر مرات عدة أن النظام في العراق كافر وهو الذي تسبب في مجيء القوات الأميركية إلى المنطقة، وأنْ لا مجال لأي لقاء مع ممثليه أو التعاون معه. نحن نتحدث عن السنوات الأولى من التسعينات ولم تكن هناك عمليات لتنظيم (القاعدة) من قماشة 11 سبتمبر. وسمعت يومها من مدير (العمليات الخارجية) في الجهاز فاروق حجازي أن رداً مشابهاً من بن لادن جاء عبر قناة أخرى».

لقاء بن لادن ومسؤول مخابرات صدام

فهم الجميلي لاحقاً أن حجازي زار الخرطوم والتقى بن لادن بعد وساطة قام بها سياسي ورجل دين سوداني هو الدكتور حسن الترابي. ويقول: «أطلع حجازي الرئيس على ما جرى ولم يحدث أي تعاون مع (القاعدة). وهذا ما قصده جورج بوش الابن حين قال إن الرئيس أرسل مبعوثاً إلى بن لادن. أعتقد أنه كان يعرف أنه لم يحصل أي تعاون، لكنه امتنع عن ذكر ذلك لتبرير الغزو».

مصدر آخر رفض الكشف عن اسمه قال إن بن لادن أظهر في لقائه مع حجازي «شيئاً من المرونة بالنسبة إلى موقفه من نظام البعث العراقي». وأضاف أن بن لادن «طالب في حال التعاون أن تكون له معسكرات تقام تماماً خارج سلطة الدولة العراقية، وأن يمتلك حرية تحديد الأهداف والتوقيت». وأشار إلى أن «صدام سأل حجازي عن موقفه فردَّ بأن إدارة جماعة بن لادن لن تكون سهلة، وأن ثمن التعاون معه سيكون بالغ الخطورة. فطلب صدام من حجازي طي الموضوع نهائياً».

فشلت محاولتا التواصل بين نظام صدام وبن لادن لكن اتهامات التعاون طاردت العراق (أ.ف.ب)

نهاية المعنيين بذلك الموعد الخطر معروفة. التفَّ حبل الإعدام حول عنق صدام حسين. وأعدمت السلطات العراقية فاروق حجازي الذي لجأ إلى سوريا بعد سقوط نظام صدام لكنه أُرغم على التوجه إلى الحدود السورية - العراقية، حيث اعتُقل. وطاردت القوات الأميركية أسامة بن لادن حتى تمكنت منه وقتلته في باكستان.

تقع المدن أحياناً في إغراء التهور وتكلِّف نفسها على يد مغامرين ما يفوق طاقتها ثم ترتطم بالواقع وبالعالم. دفعت الخرطوم ثمن استقبال المطلوبين وعوقبت قبل أن تحاول خفض الأضرار وتغيير اتجاه البوصلة. هناك من يقول إن خرطوم البشير حلمت أن تكون عاصمة أعداء الغرب، وإن الترابي حلم بأن يكون مرجع حركات الإسلام السياسي في تكرار لتجربة الخميني. كلّف الرجلان السودان ما يفوق طاقته.