هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

نموذج لتنقّلات أهل الجزيرة العربية عبر القرون

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم
TT

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

هجرات الحضارم والعقيلات ورحلاتهم

مع قلة الأقلام التي تناولته بعمق، وبسببٍ من أهميته التاريخية والثقافية، ظلّ موضوع هجرات أهل الجزيرة العربية - شمالا نحو العراق وبلاد الشام وفلسطين وتركيا وآسيا، وشرقا نحو شبه القارة الهندية وجزر الملايو، وغربا نحو أفريقيا وأوروبا وأميركا، وتواصلهم الثقافي والاجتماعي مع شعوب تلك الجهات - ظل يستأثر ومنذ سنوات بحيّز من تفكير كاتب هذا المقال واهتماماته، وكانت مسألة الصلات مع جنوب شرقي آسيا استثناءً وحيدا خصّته بعض الكتابات القديمة والحديثة في التراثين الإندونيسي والحضرمي، وهي الصلات التي تمثّلت في الهجرات الحضرمية القديمة إلى جزر (أرخبيل) الملايو، وفي بعثات أُوفدت للدعوة والدعاية في تلك النواحي لأغراض دينية وسياسيّة.
والمقصود ببلاد الملايو هنا هي تلك المنطقة التي أصبحت سياسيّا بعد نيلها الاستقلال تعرف بإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وما حولها.
لكن المقال لن يعرض للصلات الدينية والثقافية بين بلاد الحرمين الشريفين (الحجاز) وبلاد الملايو، على اعتبار أن مكة المكرمة والمدينة المنورة كانتا ومنذ البعثة المحمدية على صلة بشرية وروحية بكل بلدان العالم الإسلامي دون استثناء.

تمثّل هجرات الحضارم إلى جزر الملايو - عند الحديث عن علاقات العرب مع بلاد الشرق - الصلات الأوثق والأقدم والأوسع، وهي صلات ينسب لها الفضل الأكبر في انتشار الإسلام في جنوب شرقي آسيا مرورا بالهند، وقد كتب الكثيرون من مثقفي حضرموت وبلاد الجاوة عن هذه الظاهرة ومظاهرها وجوانبها الاجتماعية والتراثية والاقتصادية والثقافية، وأُلّفت العشرات من الكتب وأُنتجت أفلام توثيقية عنها، تحدثت عن أن الحضارم الموجودين في المهجر الشرقي والشمالي والغربي يزيدون عددا عن أهلهم في الوطن الأصلي، وتحدثت عن قدرة بلاد الجاوة على استيعاب تلك الهجرات والتعايش الفريد بين مختلف الثقافات والأعراق.
وحضرموت اليوم - التي يبلغ عدد سكانها نحو مليون ونصف المليون وتمثّل إحدى المحافظات الجنوبية لليمن ومن أبرز مدنها وموانئها المكلا (العاصمة) والشحر وتتبع لها جزيرة سقطرى - كانت تشكّل أكبر من ذلك جغرافيّا وتاريخيّا، وقد هاجر جزء كبير من أهلها نحو الشمال وبخاصة نحو المملكة العربية السعودية، ونحو الشرق عبر البحر الأحمر إلى زنجبار وإثيوبيا والصومال ومدغشقر.
ولا توجد معلومات مؤكدة عن بدايات الهجرات الحضرمية إلى أرخبيل الملايو، لكن من المرجّح أن تكون بدأت في أثناء القرن الثالث الهجري (الثامن الميلادي) وهناك كتابات تذكر أن هجرات الحضارم بدأت تتجه شرقا نحو الهند ومنها إلى بلاد الجاوة قبل ظهور الإسلام، وتقول بعض المصادر إن أفرادا من طبقة السادة العلويين كانوا طلائع المهاجرين في العهود الإسلامية ثم لحقت بهم طبقات أخرى، وقد انتقلت تلك الخصوصية من «الطبقيّة الحضرمية» إلى المنازل الجديدة في جنوب شرقي آسيا (إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وبروناي وجنوب الفلبين وتايلاند وبورما) وتنتشر الأكثرية من الأصول الحضرمية اليوم في جاكرتا (بتافيا) وبعض المدن الإندونيسية.
وإذا ذكرت الهجرات الحضرمية إلى شرق آسيا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أمران: انتشار الإسلام عبر السلوك، وحسن التعامل في النشاط التجاري، لكن الواقع أن فئات من المهاجرين انهمكت في ممارسات حزبية سياسية وتكتّلات دعوية، وأصدرت تبعا لذلك في الثلث الأول من القرن الماضي نحو عشرين صحيفةً ومجلة ناطقة باللغتين الجاوية والعربية كما سيأتي تفصيله لاحقا.
ويبدو أن تلك الممارسات التي اتسمت بشيء من الفوضى وانضمّت إليها عناصر من جنسيّات عربية أخرى، قد شوّهت السمعة العالية للجنس الحضرمي عبر العصور، وذلك بظهور فريقين متنافرين هما العلويون والإرشاديون، وكان لكل فريق توجهات سياسية وعرقية وعقدية متباينة بلغت ذروتها في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي، وقد توسّط فيها عدد من الغيورين من مشايخ حضرموت ومن الملك عبد العزيز، ثم بدأت بالانحسار مع تطوّر النظام السياسي الديمقراطي في تلك الدول، مما ساعد على ظهور زعامات محلية وأخرى ذات جذور عربية كان لها نصيب وافر من الوصول إلى المناصب القيادية العليا في تلك الدول، وكان من الصحف التي صدرت بالعربية؛ «المعارف» (إندونيسيا 1927 م) و«حضرموت» (جزر الهند الشرقية 1924م) و«الجزاء» (سنغافورة 1934 م).
لقد كتب الكثير - وبخاصة من مثقّفي حضرموت - عن الوجود العربي في تلك الأرجاء عبر القرون سواء من قبل المستوطنين الحضارم أو ممن لحق بهم من الوافدين العرب، وفصّل الحديث عن النشاط السياسي والدعوي والإعلامي لتلك الجاليات، وكان من أبرز من تناول هذا النشاط - من غير الكتّاب الحضارم - الباحث الكويتي يعقوب يوسف الحجي في كتابه عن سيرة المؤرخ الكويتي عبد العزيز الرشيد (صدر عام 1993 م) والأكاديمية الكويتية نوريّة الرومي في كتابها عن حياة الشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي (صدرت طبعته الثانية عام 1993م) ودكتور أحمد إبراهيم أبو شوك في مؤلّفه عن سيرة الداعية السوداني أحمد محمد السوركتّي (2000 م).
ومع دخول مملكة الحجاز في الحكم السعودي عام 1924م نشطت الدعايات المعادية للسعودية في كل من جزر الملايو والهند ومصر في ظاهرة امتدّت نحو عشرين عاما، وقد أسهمت تلك الدعايات - مقرونةً بتأثّر أوضاع الاقتصاد العالمي بإرهاصات الحرب الكونية الثانية - في امتناع كثير من حجاج الجاوة والهند عن القدوم للحج، متأثرين بما كان يقال عن تردّي الأمن.
وهنا بذلت أجهزة الحكومة السعودية جهودا متوالية لمواجهة الموقف، كان منها إنشاء مديريّة للدعاية للحج تابعة لوزارة الماليّة، وإيفاد مبعوثين إلى تلك البلدان، وبخاصةٍ بلاد الملايو (الجاوة) وشبه القارة الهندية ومصر، من بينهم شخصيّات سعودية وعربية موالية للعهد الجديد في الحجاز، ولديها اقتناع بسلامة نهجه العقدي.
وقد انهمك بعض هؤلاء الموفدين - على غرار من سبقهم من الحضارم - في الصراعات السياسية والطائفية والدينية، وكان منهم الكويتي عبد العزيز الرشيد، والداعية السوداني أحمد السوركتّي، والإعلامي العراقي يونس بحري، والشاعر الكويتي محمود شوقي الأيوبي، الذين كانوا ممن أوفدوا في تلك المهمّات واستوطنوا بلاد الملايو في الثلث الأول من القرن الماضي، وأصدروا مجموعة من الصحف العربية هناك، كان منها صحيفة «التوحيد» وصحيفة «الكويت» و«العراقي» و«الهدى» وغيرها.
وباستعراض ما كتب عن موضوع هذه البعثات الدعوية والإعلامية، يُلاحظ أنه لم ينل من المراجع المحلية السعودية ما يستحقّه من اهتمام، وقد سبق لكاتب هذا المقال أن تناوله من جانبه الإعلامي، بينما خصه د. محمد الربيّع ببحث من زاويته الثقافية وقد أسماه المهجر الشرقي.
ولئن عُدّت هجرات الحضارم ورحلاتهم نحو بلاد الملايو من أقدم الهجرات العربية وأشهرها، فإنها في الواقع كانت نموذجا لهجرات أخرى خرجت من الجزيرة العربية، ومنها على سبيل المثال:
1 - هجرات أسر حجازية وعسيرية من أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وأبها وما حولها إلى تركيا، وكانت إما هجرات ورحلات من نوع طبيعي بسبب التبعية السياسية للدولة العثمانية، أو من نوع تهجير قسري مما عرف باسم «السفر برلك»، ومارسته تركيا كارثيّا مع العديد من أهالي المدينة المنورة بُعيد تشغيل الخط الحديدي الحجازي عام 1908م الذي اسُتخدم في عملية تهجير أخلت المدينة المنورة من معظم أهلها الأصليين، وهناك تهجير مارسه الأتراك عنوةً ضد السعوديين وذلك بعد تدمير الدرعية سنة 1818م.
2 - ومن الهجرات والرحلات والصلات بنوعيها التجاري والثقافي، التي حظيت بشيء من الكتابات والتوثيق خلال العقود القليلة الماضية، هو ما اصطلح عُرفا على تسميته «تجارة العقيلات» وهو نوع من الرحلات على ظهور الجِمال والخيل، كان يقوم به مئات النجديين بغرض التجارة مع العراق وبلاد الشام، وإلى فلسطين ومنها إلى مصر والسودان قبل فتح قناة السويس وبعده، وأدت تلك التجارة إلى استقرار بعض أفراد هذه الجماعات في تلك البلدان ومن ثمّ إلى التزاوج مع أهلها، مستفيدة من الفرص التعليمية المتاحة في تلك النواحي.
وعلى الرغم من تكاثر الكتابات التي دوّنت تلك الرحلات مؤخّرا، فإنها لم تفلح في التوصّل إلى معلومات قاطعة حول سبب التسمية، وهل هي من عقْل الإبل أي ربطها، أم من لبس العقال في مقابل الحرّاس من الترك الذين يلبسون الطرابيش، أم نسبة إلى قبائل «بني عقيل» التي كانت لها الغلبة والإمارة في شرق الجزيرة العربية وفي نواحي الموصل مدةً من الزمن، وكان بعض أفرادها يقومون بحراسة القوافل نظير أجر؟
كما لم تفلح في تسجيل البدايات الزمنية لتلك الهجرات والرحلات، حيث من المعتقد أنها بدأت في حدود منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ثم تقلّصت وتلاشت مع انتشار استخدام السيارات عند منتصف القرن العشرين، بمعنى أنها ربما استمرت نحو قرنين من الزمان.
كما لم تفلح الكتابات في تحديد حقيقة أهدافها السياسية، إذ إن المتداول عرفا في نجد أن نشاط العقيلات كان يقتصر على الأغراض التجارية ثم الثقافية والاجتماعية، وكانت تركز على بيع الإبل والخيل وتجلب الأقمشة والتوابل والبضائع الحديثة، بينما تذهب بعض المصادر إلى ذكر أدوار سياسية وعسكرية كانت تقوم بها.
ولم تؤكّد الكتابات بعدُ حقيقة ارتباط أسباب هذه الهجرات بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، خاصةً إذا ما ثبت اقتران ظاهرة العقيلات مع منتصف القرن الثامن عشر الميلادي (بداية الدعوة).
ومهما تكن نتيجة تلك التساؤلات، فإن تجارة العقيلات كانت تمثّل في زمنها ظاهرة اجتماعية في شمال إقليم نجد وبالأخص في بلدات القصيم وحائل والزلفي، ظاهرةً ما تزال حكاياتها تُروى وتُستعاد في المجالس، شارك فيها مئات الأسر والأعيان ممن رصدت الكتابات والمدوّنات قوائم بأبرز أسمائها، وعملت مدينة بريدة بالقصيم مؤخّرا على تسمية معالم تجارية باسمها، وهي المدينة التي اشتهرت مع ضواحيها بخروج أغلب رجالات العقيلات منها.
وغير بعيد عن هجرات العقيلات - وربما من آثارها، لكنها كانت أكثر منها استقرارا وتوطّنا - هجرات النجديين إلى بلدات جنوب العراق والزبير بوجهٍ أخص، حيث تقاطرت أسر كثيرة من سدير والزلفي والقصيم واستوطنت فيها في القرنين الماضيين وربما من قبل جاعلةً من الزبير مدينةً نجديةً صِرفة، ثم بدأت تلك الأُسر بالعودة مع تقلّب الأوضاع في العراق في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي، وفي المقابل ازدهار الحياة في المملكة العربية السعودية.
ومثلما قيل عن ظاهرة تجارة العقيلات، وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن تاريخ مدينتي البصرة والزبير، إلا أنها لم تجب عن أسئلة ضبابية عن بدايات تلك الهجرات ودوافعها الحقيقية، غير تلك التي تعزوها إلى حالة الفقر التي كانت تعم نجدا في تلك الحقبة.
3 - أما النموذج الثالث من تلك الهجرات فإنها هجرات أهل الجزيرة العربية نحو الهند، وهو موضوع كتب عنه القليل جدا مع أن المعلومات المتناثرة تؤكد وجود تواصل واضح بين أهل الأحساء ونجد وعسير وبلدان الخليج عامة مع شبه القارة الهندية، كما تشير كتب التاريخ إلى الممالك العربية التي أقيمت منذ القدم فيها، والمقصود بشبه القارة الهندية هنا تلك المنطقة من جنوب آسيا التي كانت تضم الهند والباكستان وبنغلاديش قبل انفصالها عام 1947م.
وبين أيدينا سيَر وتراجم للعشرات - وربما للمئات - من الشخصيّات والأسر الأحسائية والنجدية والعسيرية، وبالتأكيد الحجازية، التي درست واستوطنت ومارست التجارة أو تلقّت تعليمها في الهند وبقي بعض أفرادها إلى الآن، إلا أن تلك المعلومات لا توضّح البدايات والدوافع لتلك الهجرات، التي كانت - على الرغم من بُعد المسافة ومخاطر الإبحار - تنطلق من سواحل الخليج واليمن وعدن، كما توجد أمامنا سير عدة لأُسر امتهنت الغوص وكانت لديها سفن مجهّزة للتجارة مع مدن الهند الساحلية، وقد ارتبطت مع المجتمع الهندي بعلاقات ثقافية وبمصاهرات، وتتحدث الوثائق التاريخية القديمة بكثرة عن واحد من هؤلاء البحّارة وهو أحمد بن ماجد بن محمد السعدي النجدي (821 هـ - 906 هـ) المنسوب إلى رأس الخيمة، وهو بحسب ويكيبيديا «ملاح وجغرافي عربي مسلم، برع في الفلك والملاحة والجغرافيا وسماه البرتغاليون (بالبرتغالية almirante‏ ومعناها أمير البحر) ويلقب بمعلم بحر الهند، وهو ينتسب إلى عائلة من الملاحين، كتب العديد من المراجع، وكان خبيرا ملاحيا في البحر الأحمر وخليج بربرا والمحيط الهندي وبحر الصين، ويتمتع بأشهر اسم في تاريخ الملاحة البحرية لارتباطه بالرحلة الشهيرة حول رأس الرجاء الصالح إلى الهند حيث قام ابن ماجد بمساعدة فاسكو دي غاما لاكتشاف الطريق الجديد الموصل إلى الهند، وله الفضل في إرساء قواعد الملاحة العالمية، وبقيت آراؤه وأفكاره في مجال الملاحة سائدة في كل من البحر الأحمر والخليج وبحر الصين حتى سنة 903 هـ وهو أول من كتب في موضوع المرشدات البحرية الحديثة». انتهى.
أما في عصرنا الحديث، فصدرت كتب عدة من بلدان الخليج تتحدث عن الملاحة والغوص، ومن بين من تذكرهم الوثائق المتأخرة اسم النوخذة عبد الله بن عيسى الذوادي (شيخ الذواودة من بني خالد) الذي عاش بين عامي 1855 و1943 م واحترف التجارة بين البحرين والهند عبر امتلاكه سفنا عدة.
وهناك العشرات من الأسر النجدية التي هاجرت واستقرت في الهند في القرن الماضي ومنها الفضل والقصيبي وآل السليمان الحمدان والسديراوي والقاضي والبسام، وقد ظهر منها عشرات الشخصيات التي تلقت تعليمها في الهند وتولّت مناصب إدارية متقدمة في المملكة العربية السعودية في فترة تأسيسها بخاصة، وهو ما يشي بالتأثير الثقافي الهندي على بلدان الجزيرة العربية في القرن الماضي ويتطلّب جهدا بحثيّا مكثّفا، وكانت ندوة عقدت قبل عامين على هامش معرض الكتاب بالرياض عن العلاقات الثقافية السعودية الهندية، في حين نشرت صحيفة «الرياض» (في عددها 15691 بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 2011م) بحثا مستفيضا عن دُور السجلات الهندية في نيودلهي ومومباي وغيرهما، وفيها آلاف الوثائق عن الدولة السعودية في عهودها الثلاثة وعن الصلات الثقافية والسياسية والاجتماعية بين الجزيرة العربية والهند بانتظار من يواصل البحث والتنقيب فيها.
ولا بد هنا من الإشارة إلى المخطوطات العربية المحفوظة في المكتبات الهندية، وإلى الدور الذي كانت تقوم به المطابع الهندية في حيدر آباد وغيرها لطبع كتب التراث العربي بإشراف مثقفين مهاجرين أقاموا فيها من أمثال الشاعر خالد الفرج وغيره، وكان وكلاء الملك عبد العزيز في الهند وفي مصر يقومون بطبع كتب تراثية على نفقته، وقد نوقشت مؤخرا رسالة ماجستير مسجلة في جامعة الإمام عن العلاقات الثقافية العربية الهندية، وكانت المجلة الثقافية التي تصدر عن جريدة «الجزيرة» السعودية نشرت (في عددها رقم 403 بتاريخ 18/ 4/ 2013 م) بحثا من إعداد إبراهيم المديهيش تضمّن أسماء خمسة وثلاثين شخصية نجدية درست في الهند، ومن ضمنها مجموعة من طلبة العلم الشرعي، وكان من طريف ما نشر مؤخّرا في هذا الشأن (في العدد 413 بتاريخ 28/ 9/ 2013م من المجلة نفسها) معلومة عن مخرج هندي من أصل سعودي اسمه إبراهيم حمد العلي القاضي من أُسر مدينة عنيزة التي هاجرت إلى الهند، وهو يُعدّ هناك من كبار المخرجين المسرحيين وأكثرهم تأثيرا خلال القرن العشرين، وقد أُطلق عليه - بحسب ويكيبيديا - الأب الروحي للمسرح الهندي الحديث، إضافة إلى كونه رساما ومصوّرا مهتما بالتراث والثقافة والمقتنيات والصور النادرة، وأستاذا بارزا للدراما في الهند تتلمذ على يديه بعض كبار الممثلين ونجوم السينما، ومؤسسًا لعدد من المؤسسات الثقافية، وأحد أهم الشخصيات الثقافية والفكرية في تاريخ الهند الحديث، كان والده أحد تجار نجد، الذين قضوا حياتهم في التجارة متنقّلا بين باكستان والهند وتركيا والكويت ولبنان، ثم استقر فترة من الزمن في الهند حيث ولد ابنه إبراهيم عام 1925م في مدينة بونا قرب مومباي، وقد تزوج إبراهيم من مصمّمة هندية تدعى روشان شاركت في تصميم أزياء مسرحياته، وأنجبا آمال وهي مديرة الكلية الوطنية للدراما حاليا، وفيصل ويعمل كذلك في الإخراج المسرحي.
وعودا على بدء؛
فباستثناء الكتابات التي تناولت الحالة الحضرمية في بلاد الملايو، تبقى هجرات أهل الجزيرة العربية قديما نحو الشمال والشرق والغرب بحاجة إلى المزيد من البحث والاستكشاف.

* محاضرة ألقيت في منتدى الرحمانية السنوي بمحافظة الغاط في السعودية، الخميس 9/ 1/ 2014



«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
TT

«دبلوماسية البندورة» تخرق المقاطعة بين أنقرة وتل أبيب... بوساطة فلسطينية

بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)
بائع خضار ينسق علب البندورة في سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

في بداية الحرب غضب الإسرائيليون كثيراً على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ليس فقط لأنه شبَّه الحرب العدوانية على غزة بجرائم النازية، بل لأنه أعلن مقاطعة اقتصادية لإسرائيل. وردَّ عليه وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، آنذاك بإعلان مقاطعة مضادة. وأعلن وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، عن رفع نسبة الجمارك على كل البضائع التي تصل من تركيا بنسبة 100 في المائة، فيما أُلغيت الرحلات المباشرة التي كانت مزدهرة بين البلدين وكانت تصل في مواسم الذروة السياحية إلى 40 رحلة جوية في اليوم.

كان الهدف الذي وضعته الحكومتان من زيادة قيمة التبادل التجاري من 9 مليارات دولار في سنة 2022 إلى 10 مليارات في 2023، لم يتحقق، بل تراجع إلى 7.5 مليار بمعدل 5.3 مليار دولار استيراد من تركيا، والبقية صادرات إسرائيلية إلى تركيا.

ونظراً إلى أن قسماً كبيراً من الواردات من تركيا يتعلق بمواد البناء (22 في المائة) والمنتجات الزراعية (9 في المائة)، فقد بدا أن فرع البناء الإسرائيلي سيواجه أزمة شديدة. أما فرع الزراعة فسيواجه أزمة خطيرة، لأن السوق الإسرائيلية كانت تعتمد أيضاً على منتجات فلسطينية من قطاع غزة.

وظهرت الأزمة فوراً في إسرائيل، إذ قفزت أسعار الخضراوات والفاكهة عشرات النسب المئوية. وأسهم ذلك في ارتفاع نسبة التضخم. وأُضيفت إلى ذلك عناصر أخرى تسببت في خسائر اقتصادية فادحة في إسرائيل من جراء الحرب.

وفي مطلع الأسبوع، أكد وزير المالية سموتريتش، ما قاله قبل عدة شهور، محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، من أن تكلفة الحرب على غزة ستصل إلى 250 مليار شيقل، أي نحو 67 مليار دولار حتى 2025، محذراً من أنه لا يمكن إعطاء شيك مفتوح للجيش في الإنفاق الأمني. وقال سموتريتش: «نحن في الحرب الأطول والأكثر تكلفة في تاريخ دولة إسرائيل، مع إنفاق مباشر بمبلغ 200 – 250 مليار شيقل (الدولار يساوي اليوم 3.7 شيقل)».

رجل يعبر وسط شارع البورصة في تل أبيب (غيتي)

البندورة المنقذة

هنا، تدخلت البندورة. البندورة التركية بشكل خاص.

فقبل الحرب كانت إسرائيل تستورد نحو 1.2 ألف طن في الأسبوع، تشكل 30 في المائة من الكميات التي يستهلكها الإسرائيليون. ووقف توريدها تسبب في أزمة، نظراً إلى أن بقية الإنتاج في إسرائيل تعطَّل بسبب الحرب. فالحقول التي تنتج البندورة هي تلك القائمة غربي النقب، على حدود غزة. والحرب منعت قطافها.

في البداية استوردت إسرائيل من الأردن 500 طن من البندورة. لكنَّ هذه الكمية لا تكفي الاستهلاك المحلي وليس من سوق بديلة. وإذ بدأت أسعار الفواكه والخضار تقفز أيضاً وتزعج المواطنين، جاء الحل من تركيا.

فبعد مداولات طويلة في الدوائر الحكومية المتخصصة، تبخرت الاتهامات الموجَّهة إلى إردوغان. وقررت الحكومة الإسرائيلية الامتناع عن أي إجراء مقاطعة لتركيا. وحاول الإعلام الإسرائيلي معرفة سر هذا التحول، ولم يجتهد كثيراً. البندورة أعطت الجواب. فقد تبين أنه من وراء الكواليس، وبلا ضجيج، وصلت إلى إسرائيل كميات كبيرة من البندورة التركية قاربت 700 طن في أسبوع واحد. وبنفس الطريقة وصلت كميات كبيرة من البضائع الأخرى.

سوق خضار في تل أبيب (غيتي)

كيف تم ذلك؟

ببساطة، وافقت الدولتان على تنظيم عملية التفاف على قرارات المقاطعة. يدير هذه العملية التجار في البلدين، بمعرفة السلطات. لكن، وكي لا يظهر الأمر على أنه خرق للقانون ودوس على قرارات القيادات العليا، يتم إرسال البضائع من تركيا باعتبار أنها موجهة إلى فلسطين. ويتم تسجيلها فعلاً باسم تجار فلسطينيين من الضفة الغربية، الذين يقبضون عمولة غير قليلة. والبضائع التي تصل عادةً إلى السلطة الفلسطينية تمر عبر الموانئ الإسرائيلية. وبعد تحريرها من الجمرك الإسرائيلي يتسلمها الوكلاء الفلسطينيون ويسلمونها إلى التجار الإسرائيليين. وعندما سلكت الأمور واستقرت أسبوعاً تلو أسبوع، لم تعد هناك حاجة لأن يحضر التجار الفلسطينيون إلى الموانئ، وأوكلوا المهمة لوكلاء إسرائيليين يحصلون على البضاعة ويرسلون العمولة مباشرة إليهم.

وكُشف النقاب هذا الأسبوع عن أمر صادر في 26 أغسطس (آب) الماضي عن وزارة الزراعة، يتيح استيراد البندورة من تركيا رغم الحظر، وذلك عن طريق دولة ثالثة، شرط أن يكون مسار نقل هذه البضائع واضحاً بدقة

جدوى المقاطعة

السؤال هو: هل هذا النمط التركي فريد ووحيد، أم أن دول أخرى تتبعه، فتعلن المقاطعة لكنها تجد وسيلة التفافية للاستمرار في العلاقات فتعلن مقاطعة إسرائيل لكن على أرض الواقع تجد بدائل؟

يقول د. موشي بن ديفيد (72 عاماً)، وهو دكتور في التاريخ وفلسفة الأفكار، وعقيد في جيش الاحتياط الإسرائيلي، وخدم في الجيش بالأساس في سلاح الاستخبارات العسكرية، إن المقاطعة غير ممكنة في عصرنا. ويضيف: «غنيٌّ عن القول إنه كان بالإمكان أن يكون حالنا أفضل بكثير، لولا الحرب. لكن علينا الاعتراف بصراحة أنّ النقص في الموارد وفي المقاتلين، وحظر الأسلحة، أو المقاطعة والعزلة الدوليّة، ليست أسباباً كافية لوقف الحرب في هذه المرحلة، أولاً لأن هذه الأمور بدأت تتغيّر. وفقط إذا أتاحت الولايات المُتّحدة لمجلس الأمن أن يرفع بطاقة حمراء لا سمح الله، يمكن الحديث عن مقاطعة مؤثرة، لكنَّ الولايات المتحدة لا تفعل ذلك».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في البرلمان لحضور خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس (إ.ب.أ)

ويرى بن ديفيد، الذي يعد من المقربين من نتنياهو، أن «تكلفة الحرب الإسرائيلية كبيرة جداً وثقيلة ولكنها غير صعبة الاحتمال». ويقول، خلال ندوة في تل أبيب، إن التقدير لدى محافظ بنك إسرائيل في شهر مايو (أيار) الأخير ولدى وزير المالية اليوم بأن تكلفة الحرب في السنوات ما بين 2023 و2025 ستبلغ 250 مليار شيقل، تشمل كل التكاليف المباشرة من تشغيل طائرات، وذخائر، ووقود، وغذاء، وأيّام خدمة جنود الاحتياط، وإخلاء المواطنين من الشمال والجنوب، وإعادة تأهيل المصابين، وما شابه ذلك، والتكاليف غير المباشرة مثل أضرار السياحة، وتعويضات مستقبليّة لرجال الأعمال، والبيوت والأملاك المُتضرّرة.

لكنَّ إسرائيل تمتلك احتياطياً بقيمة 200 مليار دولار، ويدرك السوق أنّ «لدينا عدّة مخازن مليئة بالمواد الحيوية تعافت بأعجوبة منذ اندلاع الحرب حتّى اليوم»، على ما قال بن ديفيد. ويتابع: «يبلغ الناتج المحلّي الإجمالي في وضعنا الحالي نحو 400 مليار دولار، وهو قريب جداً مما كان عليه الحال قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ويشير الإنفاق اليومي من خلال بطاقات الائتمان، الذي يُشكّل 50 في المائة من الناتج المحلّي الإجماليّ، من ضمن أمور أخرى، إلى قدرات المستهلكين الاقتصاديّة، وإلى ميل هامشي للاستهلاك، وهو ارتفع بنحو 25 في المائة. وكذلك الحال بالنسبة لمعدّل العائد السنوي لسداد السندات الحكوميّة، الذي يعكس توقّعات المستثمرين بالربح، إذ ارتفع بالفعل إلى 5 في المائة، أكثر بما يقارب نصف في المائة من ذروته في فترة جائحة كورونا، لكنّه توقّف عند هذا الحدّ».

وأضاف بن ديفيد: «نجحت وزارة الماليّة في تجنيد الأموال حتّى في هذه الفترة، والتقدير هو أنّ المؤسّسات ستنشئ طلبات سندات بقيمة 100 مليار شيقل، ستحوَّل إلى خزينة الدولة خلال هذا العام. هذا على الرغم من علاوة المخاطرة لإسرائيل الممتدّة على 5 أعوام بنسبة 1.4 في المائة، والتي عرضتها وزارة الماليّة الأميركيّة العام الماضي».

من جهته، تباهى سموتريتش بأن «خروج المستثمرين الأجانب من البورصة في تل أبيب، والذي وصل إلى نحو 34 مليار في الربع الأخير من عام 2023، قد توقف ولا يتعدّى الآن نسبة 1 في المائة. يصل ملف الأملاك الماليّة العامّة إلى قيمة 5.68 تريليون شيقل، وهي أعلى قيمة له تاريخياً. ويتعافى مجال العقارات، إذ ترتفع أسعار الشقق مُجدّداً». ويضيف: «صحيح أنّ العجز في الميزانيّة يقترب من نسبة 7 في المائة، لكنّه أقلّ من نسبة 12 في المائة في فترة جائحة كورونا والذي تمّ تداركه خلال عامٍ واحد –مما يدعو إلى التفاؤل. لقد تعافت سوق العمل، وعاد الطلب على العمّال، الذي كان قد انخفض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، تقريباً إلى طبيعته، مما أعاد مستويات الأجور إلى ما كانت عليه عشيّة الحرب. حتى صناعة الهاي تك التي تشغّل نحو 16 في المائة من الموظّفين في قطاع الأعمال والمسؤولة اليوم عن 58 في المائة من التصدير، الذي تعرض لضربة في الحرب، فإنها لا تزال تشكّل المحرّك الاقتصاديّ، وتمكن من تجنيد أموال بقيمة 3.5 مليار دولار في الربع الأخير الذي انتهى في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام، وهو الأعلى منذ سنتين».

الأمور ليست وردية

لكنَّ اليمين الإسرائيلي يتجاهل بذلك التراجعات الكبيرة في أداء لاقتصاد ويبدو كمن يُخفي نصف الحقيقة. فالأمور ليست ورديّة، على هذا النحو. فالحكومة رصدت مبلغ 7.5 مليار شيقل من الميزانية مخصصة لتمويل أحزاب الائتلاف الحكومي. والعجز في الموازنة مرتفع بمقاييس غير مسبوقة ويبلغ نحو 30 مليار دولار، الأمر الذي سيتطلب تخفيضات في الميزانية وزيادة الضرائب بما يصل إلى أكثر من 18 مليار دولار، وهو ما سيتم الشعور به بشدة في نوعية الحياة وانخفاض الخدمات للجمهور الإسرائيلي بشكل عام. ومظاهر مقاطعة إسرائيل في العالم تتسع. وشركات التصنيف الائتماني قررت خفض التدريج الائتماني لإسرائيل. وفرع السياحة في إسرائيل انخفض بنسبة 81 في المائة، وفرع البناء يعاني الشلل منذ أن غاب العمال الفلسطينيون (150 ألف عامل منهم 70 ألفاً في البناء). وفشلت إسرائيل في جلب عمال أجانب يحلون محل عمال الضفة الغربية.

وسبق لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن ذكرت أن الحرب في غزة تسبب تحديات وصعوبات لم يسبق لها مثيل في إسرائيل، مع تأزم وضع المجتمعات المحلية، ورغبة جنود الاحتياط في العودة إلى ديارهم، وممارسة العالم ضغوطاً عديدة للتخفيف من الخسائر في صفوف المدنيين في غزة، وتعرض الاقتصاد الإسرائيلي لأزمة تلو الأخرى.

وتُضاف إلى كل ذلك تكاليف الخدمة في جيش الاحتياط، حيث تم تجنيد 300 ألف جندي في بداية الحرب وانخفض العدد حالياً إلى 50 ألفاً. فكل جندي احتياطي يتقاضى 82 دولاراً يومياً، وبلغ إجمالي هذه المدفوعات وحدها 2.5 مليار دولار في أول 3 أشهر من الحرب. وعلى الجبهة المدنية، بلغت التعويضات التي تُدفع للنازحين عن بيوتهم 2.7 مليار دولار لتلك الأشهر الثلاثة، علماً بأن عدد هؤلاء النازحين يبلغ نحو 125 ألف شخص.

وباتت تكلفة الحرب على غزة موضع نقاش وانتقادات داخل إسرائيل، خصوصاً في ظل استمرارها مع عدم تحقيق النتائج التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية حتى الآن، وفقاً لمراقبين.