عبير نعمة لـ «الشرق الأوسط»: ولادة أغنياتي عسيرة

«بيبقى ناس» ألبوم جديد للفنانة اللبنانية يُحاكي الأمل

عبير نعمة
عبير نعمة
TT

عبير نعمة لـ «الشرق الأوسط»: ولادة أغنياتي عسيرة

عبير نعمة
عبير نعمة

في البداية مبروك الألبوم، وأهلاً بكِ في «الشرق الأوسط». نرحب بعبير نعمة، فنانة الارتقاء اللبناني. ثماني أغنيات، هو ألبومها الجديد «بيبقى ناس»، من إنتاج «Universal Music MENA» وتوزيعها، الصادر قبل أيام ليُحلي الذائقة.
الجمال فريد من نوعه، كتفتح الحبق وفوح عطره. هذه القماشة الفنية تُحيد نفسها عن السرب، وتتألق. لا يعنيها التحاقها بالسائد، ولا الانجراف خلف الصخب المُستهلَك. تُحلق في فضاء رقيق بصحبة النسائم، وبرغم الموت التام، تستدعي الأمل. تطل بإيجابية على الناس المُتعبة، بصوتها العذب، كينبوع في الفجر. تقول لـ«الشرق الأوسط» إنها لن تتوقف عن الحلم و«من دونه نحن موتى». نحاورها في معضلة الأمل؛ في الغناء ولعبة «السوشيال ميديا»؛ الوطن القتيل والعائلة.
كيف استطعتِ خرق الخذلان وتجاوز التعثر والتفكك، بألبوم تعلوه الابتسامة؟ نسألها عن شعور بالذنب يولده التفاؤل، حين يتعلق الأمر بالأوطان المذبوحة. «التفاؤل حلم»، تجيب، «وأفضّل تسميته أملاً، أو أمنية، أو صلاة إلى الله. يحملنا الإيمان إلى الاعتقاد بأنه بعد العتمة، لا بد من ضوء ومن شمس تشرق، فتنادينا للوقوف أمام إشراقها. وهو إيمان مني بجدوى الخير والجمال. علينا جميعاً أن نحاول من أجل إرادة الوجود. أبواب السلام والحب لن تقفل في وجه أوطاننا الملوعة بالظلم والقهر والفساد. أحلمُ إيماناً بالإنسان وقوته الداخلية. يسمونها غريزة البقاء أو غريزة الحياة، فنتطلع إلى الشمس برغم الظلمات».
جميلة الأغنيات، لكن «أديش بحبك»، من كلمات مروان خوري وألحانه، و«آه آه آه» بصوتها العذب، تشبه الدفء وسط صقيع جماعي. يا لها من تركيبة! تشعر بالامتنان لهذا التعاون وتعتقد أن الآتي سيحمل المزيد. تجمعهما الموسيقى «وصداقة رائعة». تعود إلى محنة «كورونا» الصعبة: «حينها، عانى مروان ظروفاً قاسية بعد خسارة والدته. انتظرتُ استراحة الجرح، فيعود إلى العطاء. ثم ولدت أغنية (أديش بحبك). الكليب قريباً، بكاميرا إيلي فهد. سيأخذ الأغنية إلى مكان آخر».
في الانتظار؛ ودعينا الآن نتمهل أمام علاقتكِ بـ«السوشيال ميديا». بعيدة عبير نعمة عن الخواء والثرثرة، حساباتها للترويج لأعمالها، ولا مكان للسخافة والبلاهة. تتفاعل مع الناس، تقرأ كل تعليق وتجيب عن كل رسالة بتأثر، «وأحياناً يمر الليل وأنا أجيبهم، بشغف وحب». لا تخوض معارك: «الموسيقى أفضل سُبل الحوار. هي لغتي. ولستُ من الصنف الزاحف خلف القيل والقال. لي دائرتي الخاصة، وبعض الأشخاص المحيطين. ولدي عائلتي. حياتي الشخصية أتركها لي. (أنا هيك)»، بسعادة واختصار.
لكن، للأسف، «تُفرخ» مواقع التواصل «نجوماً» مما هب ودب، فتُسرع إلى التصويب: «النجم هو صاحب رسالة؛ فنانٌ قادر على التأثير والتغيير. يؤكد حضوره بصقل مساره الموسيقي، فلا ينطفئ بعد أغنيتين. الأهم أن يكون مثقفاً، متحلياً بالمبادئ، ويكون حقيقياً (أصلياً) (Authentic) بالإنجليزية للدقة».
والنجوم الحقيقيون أصحاب خيارات صعبة في زمن «الطقطوقة» والأغنية المسلوقة. حدثي «الشرق الأوسط» عن ولادة أغنياتك، وهل من معاناة؟ تصف الولادة بـ«العسيرة»: «على الأغنية أن تعني لي الكثير وتحمل وراءها حكاية، فتلمس القلب. وأن تكون مختلفة، تحاكي الفن الراقي. هذا صعب. الملحنون والشعراء أيضاً يعانون صعوبة في ابتكار موضوعات مغايرة. التجديد معضلة لا تواجه المغني فقط، بل أيضاً الملحن والشاعر. نعود إلى إشكالية الوقت والظرف. على الفنان أن يكون مستعداً نفسياً ليشعر بأن شيئاً قد أوقد ناره، فيُبدع ويُجدد. الصعوبة جماعية».
رائعٌ أنكِ ابنة عائلة فنية أنيقة (9 أشقاء وشقيقات جميعهم فنانون)، فالطيبون في عائلاتنا يُبلسمون شرور الأيام. أي أثر للعائلة فيكِ؟ جوابٌ سريع، واثق: «عائلتي مسؤوليتي، هي البداية والنهاية. علاقتنا وطيدة كالحياة. معاً نشكل قوة، فنتكاتف في الشؤون الشخصية والموسيقية. رابط الفن بيننا متجذر». علمها والدها أن تنظر إلى السنوات من عيون مَن تحب. «مهما ضاقت هالأحوال، من الدمعة بترسم بسمة»، تغني في «بيبقى ناس»، للقلوب الصافية وكم هي نادرة!
تنتظر الأمان، وتتوق ليزهر الأمل. لا تكف عن الحلم، «من دونه نحن موتى». تؤلمها بيروت، «حرقة في القلب». تتراءى لها كعجوز تتبرج في انتظار موتها، لكنها لا تموت. نتحدث عن أغنية «هيدا وطني»، من كلمات جرمانوس جرمانوس، وألحان جوزف خليفة، وتوزيع جورج فرنسيس. ونسأل بدهشة: كيف استطعتِ غناءها بأمل وجمالية؟ أليس نكراناً للواقع أن تغني «لبنان لجايي ما بينسى/ خبيتو بقلبي بسنيني/ خباني وردة بكتابه؟» أهو نشيد فوق الجراح؟ قد لا يشبه لبنان اليوم الأغنيات المُهداة له. توافق عبير نعمة، «لكن في الغناء رجاء وتطلعات، لذلك نغني للوطن. ما البديل؟ هل نغني للدمار؟ للأسى؟ للانهيار؟ الموسيقى صرختنا، فربما إن غنينا للبنان، سنستعيده يوماً».
يُحزنها الوطن المقتول، ومصدومة من إذلال إنسانه: «الحياة باتت شبه مستحيلة. نغني في محاولة للتنفس تحت الماء ونحن نختنق. إننا نبحث عن خشبة نجاة، وربما عن مكان بديل لا يكون وطناً، لكن لا خيار سوى الانتماء إليه». «بيبقى بقلبي وعم أشتاق له»، تغني. الوفاء أحياناً عقاب.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)