بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

خسر جمهور المصوّتين ولم يبقَ أمامه سوى تغيير النهج أو السقوط

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»
TT

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

آخر ما كان يتخيّله نفتالي بنيت في حياته هو أن يطيح «معلمه» ومثله الأعلى بنيامين نتنياهو ويحل محله في رئاسة الحكومة الإسرائيلية. لكنه اتخذ قراره ليفعل ذلك ونجح. وهو اليوم يخوض المعركة الكبرى؛ كيف يحافظ على مقعده، في وقت يرفض نتنياهو القبول بالنتيجة، ويتعهد أمام رفاقه في الليكود بأن يسقط بنيت في غضون بضعة أسابيع.
بنيت يعرف أن هذه معركة حياة أو موت سياسي، فإذا لم يحافظ على مقعده طيلة الفترة المخصصة له (27 شهراً)، وعلى تحالفه مع يائير لابيد، وحكومتهما المشتركة طيلة الفترة المقررة لها، حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، فإنه سيتحطّم سياسياً. والسبب أنه بمجرد إسقاط نتنياهو عن الحكم وتشكيل حكومة «المحرّمات» (التحالف مع اليسار ومع الحركة الإسلامية)، خسر معظم المصوّتين التقليديين من اليمين. وبالتالي، إذا أراد أن يصمد في الحلبة السياسية، عليه أن يغيّر «الشعب»، أي جمهور المصوّتين، ويذهب إلى اتجاهات أخرى في اليمين الليبرالي واليمين الوسط. ولكي يغير جمهور ناخبيه، عليه أن يتغيّر بنفسه. وهذه هي القضية... وهذا هو السؤال؛ هل يستطيع بنيت أن يتغيّر؟

مَن يراجع سيرة نفتالي بنيت، سيستصعب جداً أن يراه قادراً على التغير لدرجة يمكن معها أن يصبح قائداً مقبولاً للرأي العام السائد في إسرائيل. فهو ينتمي إلى فئة تحتل زاوية في أقصى اليمين المتطرف. وعليه، فإذا التزم بتصريحاته السياسية، سيدخل حتماً في صدام مع الإدارة الأميركية ومع المجتمع الدولي، وسيقود إسرائيل إلى صدامات حربية مع الفلسطينيين وعلى كل الجبهات.
فالرجل يرفض فكرة «الدولة الفلسطينية»، ويعتبر إسرائيل «دولة يهودية تمتد حدودها على الأرض الواقعة ما بين البحر والنهر». وتفوّه في الماضي بالقول إن «الدولة الفلسطينية» هي الأردن، رافضاً «خطة صفقة القرن» التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. أما الحل الذي يوفره للفلسطينيين فهو في إطار ما أسماه «مبادرة التهدئة» (Stability Initiative)، وبموجبها تضم إسرائيل المنطقة «ج»، البالغة 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية، ومعها القدس الشرقية، وتوسّع فيها المستوطنات وتبني مستوطنات جديدة بلا قيود. ويبقي للفلسطينيين المنطقتين «ب» و«أ» البالغة مساحتاهما معاً 40 في المائة من الضفة، لتكون «حكماً ذاتياً» خاضعاً للسيطرة الأمنية للجيش والاستخبارات الإسرائيلية. وهو يدرك أن الفلسطينيين لن يقبلوا بهذا الحل، ولذا يرى أن على إسرائيل فرض إرادتها بالقوة، من خلال «ردود فعل عسكرية هجومية صارمة تصفّي العمليات المسلحة الفلسطينية ومَن يقف وراءها».
بنيت يرفض أيضاً صفقات تبادل أسرى مع الفلسطينيين، ويقول: «هؤلاء إرهابيون يجب قتلهم، لا إطلاق سراحهم». ويصعق عندما يسمع كلمة احتلال: «هذه أرض إسرائيل التي وعدنا بها الله، وليست أرضاً محتلة». وعندما تولّى منصب رئيس المجلس العام للمستوطنات في الضفة الغربية (2010 - 2012)، قاد حملة ضد حكومة بنيامين نتنياهو بحجة أنها تجمّد البناء في المستوطنات. وطالب بالاعتراف بالبؤر الاستيطانية العشوائية وتحويلها إلى قرى معترف بها. وعلى هذه الخلفية، أسّس حركة سياسية تحت اسم «إسرائيليون»، وقصد بها أن المستوطنين إسرائيليون، ويستحقون الاعتراف بمكانتهم في الضفة لغربية عن طريق فرض السيادة الإسرائيلية على المنطقة. ونجح بنيت في تشكيل حزب، ثم تحالف أحزاب، حصل في الانتخابات على 12 مقعداً.
في نوفمبر 2019، عيّنه نتنياهو وزيراً للأمن، وتسلم منصبه بعد ساعات فقط من تنفيذ الجيش الإسرائيلي اغتيال بهاء أبو العطا، قائد قوات «الجهاد الإسلامي» في شمال قطاع غزة، فاعتبر ذلك «هدية من السماء» وشكر نتنياهو على ثقته به لهذه الدرجة، لأن هذا الاغتيال قاد إلى تدهور أمني وتبادل قصف الصواريخ لعدة أيام. ومع أنه لم يبقَ في المنصب سوى 6 أشهر، راح يتباهى أنه «لقّن الإرهاب الفلسطيني درساً» و«أوقف التموضع الإيراني في سوريا» و«ردع حزب الله» و«أوقف المظاهرات الفلسطينية على الجدار في غزة»... ما أثار حفيظة قادة الجيش. واستخدم نتنياهو الموضوع للسخرية منه: «أنا عيّنته وزيراً للدفاع. لماذا لا تضحكون؟»، كذا قال نتنياهو لرفاقه في قيادة الليكود يومها.
ولكن بنيت اعتبر تجربته في هذه الوزارة ذروة النجاح، على الصعيد العسكري وعلى صعيد محاربة «كوفيد 19». وبعدما أقاله نتنياهو من المنصب، أصدر كتاباً عن تجربته في مكافحة الجائحة، وعرض نفسه كمن يصلح لمنصب رئاسة الحكومة، لأنه عرف كيف يدير هذه المعركة بشكل سليم. ومع أن كثيرين امتدحوا أداءه في هذه القضية، إذ أبدى روح تعاون مع مرؤوسيه، وحافظ على أعصاب باردة، وحقّق إنجازات عدة في جلب أدوات فحص الفيروس وإدارة مواقع الفحص، وضم الجيش إلى الجهود الصحية، فإن فكرة توليه رئاسة الحكومة لم تلقَ التأييد، واعتبرت قفزة كبرى إلى عالم الخيال.

رئاسة الحكومة

مع هذا، أبقى بنيت حلمه بالوصول إلى رئاسة الحكومة طي الكتمان، ولم يتفوّه به إلا مطلع السنة الماضية. يومها أسرّ به إلى أحد أصدقائه، قائلاً: «كل سياسي يحلم أن يكون رئيس حكومة، وأنا ما زلت شاباً، وأستطيع الانتظار بضع سنوات أخر. لكنني اليوم أريد هذا المنصب كي أخلّص البلاد من حكم بنيامين نتنياهو». في حينه، ابتسم صديقه غير مصدّق، إذ كان بنيت يومها يقود كتلة برلمانية في المعارضة، من 3 نواب فقط.
أضف إلى ذلك، أن بنيت نفسه لم يتصرّف في عمله السياسي كمن يسعى لإزاحة نتنياهو. وظل يتحدث عن حكم اليمين وعن خطر اليسار ويهاجم الأحزاب العربية ويرفض محاولات نتنياهو التقرّب إلى «الحركة الإسلامية» بقيادة النائب منصور عباس. كذلك حذّر نتنياهو من التراجع عن «قانون القومية اليهودية» في سبيل إرضاء واستمالة عباس. وبفضل مواقفه هذه، حظي بتأييد 274 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، وكان الحزب الثالث في صفوف المستوطنين (بعد «الصهيونية الدينية» التي حصلت على 21 في المائة، والليكود الذي حصل على 19 في المائة من أصواتهم). وكان الحزب الرابع في صفوف اليمين؛ خصوصاً في مناطق الريف. إلا أن الاستطلاع الأخير الذي أجري بعد تشكيل الحكومة الجديدة، أشار إلى أنه خسر 40 في المائة من قوته بمجرد إسقاطه نتنياهو واختياره تشكيل حكومة مع اليسار والحركة الإسلامية. ولو جرت الانتخابات اليوم لكان رصيده هبط من 7 إلى 4 مقاعد. وأصبح على حافة نسبة الحسم، ويمكن أن يختفي من الحلبة السياسية.
في المقابل، إذا كان نتنياهو يريد إسقاط حكومة بنيت ويعود ليحتل مكانه في رئاسة الحكومة، فإن «جيشاً» من نشطاء اليمين المناصر لنتنياهو يدير حرب شوارع بهدف تصفية بنيت سياسياً، حتى جسدياً. ولذا يحظى بحراسة مشددة، حتى قبل نجاح جهود تشكيل الحكومة، لأنه تلقى تهديدات بالقتل بعد نعته بـ«الخائن» و«سارق الأصوات» وما زال خصومه ينشرون له صوراً مركّبة إلكترونياً تظهره كمن يعتمر الكوفية الفلسطينية، ويرتدي زي ضابط نازي، ويضع شارباً شبيهاً بشارب زعيم النازية الألماني هتلر. وهذه الصور تذكر الإسرائيليين بما فعله «جيش» اليمين المتطرف عام 1995، وانتهى يومها باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين.
لهذا، فإن بنيت يُعتبر الآن «محروقاً» لدى اليمين. وهو يعرف أن موقعه في رئاسة الحكومة هو الدفيئة السياسية الوحيدة التي يستطيع العيش فيها. ولكي يحافظ على حياته السياسية، عليه أن يعزز وجوده وشعبيته فيها. فهذه هي الوسيلة الوحيدة لكي يحمي نفسه من هجوم نتنياهو وجيشه.

بطاقة هوية

ولد نفتالي بنيت يوم 25 مارس (آذار) 1972 في مدينة حيفا، لأبوين نشيطين في الحركة الصهيونية. الوالدان انحدرا من عائلة بولندية هربت إلى الولايات المتحدة بعدما تعرّضت لملاحقات النازية، وعام 1967 هاجرا إلى إسرائيل. وبعد ولادة نفتالي، وهو الأخ الأصغر بين 3 أبناء، عادت العائلة إلى أميركا عام 1973 لأن الأم لم تستطع الانسجام مع المجتمع الإسرائيلي المخيّب لآمالها. ولكن ما أن حطت العائلة في سان فرانسيسكو، حتى نشبت حرب أكتوبر (تشرين الأول)، فقرّر الوالد أنه لا يستطيع البقاء في الخارج ويجب أن يعود ليشارك في الحرب دفاعاً عن إسرائيل.
ترعرع نفتالي في حيفا. وفيها تخرّج من المدرسة العسكرية برتبة ضابط في الجيش. وخلال هذه المرحلة مال إلى التديّن، كردّ فعل منه على العداء الذي انتشر في إسرائيل ضد تيار «الصهيونية الدينية» بعدما اغتال أحد أفراد هذا التيار رئيس الوزراء إسحاق رابين. وفي الجيش، خدم في عدة وحدات قتالية حتى أصبح ضابطاً برتبة رائد في وحدة النخبة «سييريت متكال» (دورية رئاسة الأركان). وفيها أكمل خدمته الاحتياطية.
بنيت عمل بستانياً إبان دراسته الجامعية. وحصل على شهادتي القانون وإدارة الأعمال عام 1966. وأخذ يشق طريقه في إدارة مصالح تجارية. وعام 1999 تزوّج وانتقل للعيش مع زوجته غيلات في وسط البلاد، بمدينة الأثرياء رعنانا. وأنجب الزوجان 4 أطفال، سُمي أحدهم يوني، على اسم شقيق بنيامين نتنياهو، الذي كان قائداً في وحدة الكوماندوز المختارة، وقتل خلال تحرير الرهائن في أوغندا. وأيضاً عام 1999 انطلق إلى عالم الأعمال، وهذه المرة ليس كموظف فحسب، بل كصاحب أسهم. وأسس مع شركاء آخرين شركة تكنولوجيا متقدمة باسم «سايوتا - cyota» متخصصة في حماية المعلومات في شبكة الإنترنت. وتطوّرت الشركة ليصل عدد عمالها إلى نحو 400 موظف، وبعد 6 سنوات باعها لشركة أميركية بمبلغ 145 مليون دولار. وأسس شركة أخرى في الولايات المتحدة باسم «سولوتو» وباعها بمبلغ 138 مليون دولار.
وبعد جني بنيت هذه الثروة، تعرّف إلى أييليت شاكيد، رئيسة مكتب بنيامين نتنياهو، التي دعته إلى تولي منصب المدير العام للمكتب. ولكونه محباً لنتنياهو بشكل كبير، قرر العمل تطوّعاً من دون أجر. وفي إطار وظيفته، وضع خطة إصلاح جهاز التربية والتعليم التي بادر إليها نتنياهو. ثم أدار حملة نتنياهو في الانتخابات التمهيدية لرئاسة حزب الليكود، وحقق له فوزاً ساحقاً. لكن بنيت وشاكيد اصطدما مع زوجة نتنياهو، فتوقفا عن العمل معه. وأصبح بنيت في العام 2009 مديراً عاماً لمجلس المستوطنات. وبعد فترة، أسس مع شاكيد حركة «يسرائيل شيلي» التي حاربت نزع الشرعية عن إسرائيل، ومنظمات ما بعد الصهيونية، والمقاطعات ضد إسرائيل، ودعت إلى فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات.
وعام 2012، اختارت مجلة «فوربس» بنيت لقائمة خريجي وحدات الكوماندوز الإسرائيليين الذين نجحوا في عالم الأعمال. وفي العام ذاته، صدر كتابه «إكزيت»، وهو كتاب إرشادي لمبادري «الهايتك» في إسرائيل. ثم في انتخابات 2013 قاد حزب «البيت اليهودي» الذي فاز بـ12 مقعداً. ومع تشكيل نتنياهو الحكومة عيّن بنيت وزيراً لـ4 وزارات في آنٍ واحد معاً، هي الاقتصاد، والديانات، والقدس، والشتات. وكذلك عيّن عضواً في المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر في الحكومة، ورئيساً للمجلس الوزاري المصغر لخفض غلاء المعيشة. ولكن، في انتخابات 2015 تشقق التحالف وهبط تمثيله إلى 8 مقاعد. وتولى في الحكومة منصب وزير التربية والتعليم ووزير الشتات.
ثم عام 2018، أعاد بنيت تسمية حزب البيت اليهودي باسم يمينا (إلى اليمين)، ليعتمد خطاباً دينياً قومياً متشدداً، تبنى موضوع الاستيطان. وبعدما فشل مع حليفته شاكيد في تجاوز «نسبة الحسم» في انتخابات أبريل (نيسان) 2019. عاد في انتخابات سبتمبر (أيلول) عام 2019 إلى الكنيست وتولى لـ6 أشهر منصب وزير الدفاع.
وفي الانتخابات الأخيرة، حصل على 7 مقاعد، لكنه خسر مقعداً منها إثر رفض النائب عميحاي شيكلي خطته لإسقاط حكومة نتنياهو وتشكيل حكومة مع لابيد. ومع ذلك، فإنه تولى رئاسة الحكومة الجديدة، وسيبقى في هذا المنصب، في حال استمرار الحكومة، طيلة 27 شهراً، ليتناوب معه لابيد على المنصب.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.