بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

خسر جمهور المصوّتين ولم يبقَ أمامه سوى تغيير النهج أو السقوط

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»
TT

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

آخر ما كان يتخيّله نفتالي بنيت في حياته هو أن يطيح «معلمه» ومثله الأعلى بنيامين نتنياهو ويحل محله في رئاسة الحكومة الإسرائيلية. لكنه اتخذ قراره ليفعل ذلك ونجح. وهو اليوم يخوض المعركة الكبرى؛ كيف يحافظ على مقعده، في وقت يرفض نتنياهو القبول بالنتيجة، ويتعهد أمام رفاقه في الليكود بأن يسقط بنيت في غضون بضعة أسابيع.
بنيت يعرف أن هذه معركة حياة أو موت سياسي، فإذا لم يحافظ على مقعده طيلة الفترة المخصصة له (27 شهراً)، وعلى تحالفه مع يائير لابيد، وحكومتهما المشتركة طيلة الفترة المقررة لها، حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، فإنه سيتحطّم سياسياً. والسبب أنه بمجرد إسقاط نتنياهو عن الحكم وتشكيل حكومة «المحرّمات» (التحالف مع اليسار ومع الحركة الإسلامية)، خسر معظم المصوّتين التقليديين من اليمين. وبالتالي، إذا أراد أن يصمد في الحلبة السياسية، عليه أن يغيّر «الشعب»، أي جمهور المصوّتين، ويذهب إلى اتجاهات أخرى في اليمين الليبرالي واليمين الوسط. ولكي يغير جمهور ناخبيه، عليه أن يتغيّر بنفسه. وهذه هي القضية... وهذا هو السؤال؛ هل يستطيع بنيت أن يتغيّر؟

مَن يراجع سيرة نفتالي بنيت، سيستصعب جداً أن يراه قادراً على التغير لدرجة يمكن معها أن يصبح قائداً مقبولاً للرأي العام السائد في إسرائيل. فهو ينتمي إلى فئة تحتل زاوية في أقصى اليمين المتطرف. وعليه، فإذا التزم بتصريحاته السياسية، سيدخل حتماً في صدام مع الإدارة الأميركية ومع المجتمع الدولي، وسيقود إسرائيل إلى صدامات حربية مع الفلسطينيين وعلى كل الجبهات.
فالرجل يرفض فكرة «الدولة الفلسطينية»، ويعتبر إسرائيل «دولة يهودية تمتد حدودها على الأرض الواقعة ما بين البحر والنهر». وتفوّه في الماضي بالقول إن «الدولة الفلسطينية» هي الأردن، رافضاً «خطة صفقة القرن» التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. أما الحل الذي يوفره للفلسطينيين فهو في إطار ما أسماه «مبادرة التهدئة» (Stability Initiative)، وبموجبها تضم إسرائيل المنطقة «ج»، البالغة 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية، ومعها القدس الشرقية، وتوسّع فيها المستوطنات وتبني مستوطنات جديدة بلا قيود. ويبقي للفلسطينيين المنطقتين «ب» و«أ» البالغة مساحتاهما معاً 40 في المائة من الضفة، لتكون «حكماً ذاتياً» خاضعاً للسيطرة الأمنية للجيش والاستخبارات الإسرائيلية. وهو يدرك أن الفلسطينيين لن يقبلوا بهذا الحل، ولذا يرى أن على إسرائيل فرض إرادتها بالقوة، من خلال «ردود فعل عسكرية هجومية صارمة تصفّي العمليات المسلحة الفلسطينية ومَن يقف وراءها».
بنيت يرفض أيضاً صفقات تبادل أسرى مع الفلسطينيين، ويقول: «هؤلاء إرهابيون يجب قتلهم، لا إطلاق سراحهم». ويصعق عندما يسمع كلمة احتلال: «هذه أرض إسرائيل التي وعدنا بها الله، وليست أرضاً محتلة». وعندما تولّى منصب رئيس المجلس العام للمستوطنات في الضفة الغربية (2010 - 2012)، قاد حملة ضد حكومة بنيامين نتنياهو بحجة أنها تجمّد البناء في المستوطنات. وطالب بالاعتراف بالبؤر الاستيطانية العشوائية وتحويلها إلى قرى معترف بها. وعلى هذه الخلفية، أسّس حركة سياسية تحت اسم «إسرائيليون»، وقصد بها أن المستوطنين إسرائيليون، ويستحقون الاعتراف بمكانتهم في الضفة لغربية عن طريق فرض السيادة الإسرائيلية على المنطقة. ونجح بنيت في تشكيل حزب، ثم تحالف أحزاب، حصل في الانتخابات على 12 مقعداً.
في نوفمبر 2019، عيّنه نتنياهو وزيراً للأمن، وتسلم منصبه بعد ساعات فقط من تنفيذ الجيش الإسرائيلي اغتيال بهاء أبو العطا، قائد قوات «الجهاد الإسلامي» في شمال قطاع غزة، فاعتبر ذلك «هدية من السماء» وشكر نتنياهو على ثقته به لهذه الدرجة، لأن هذا الاغتيال قاد إلى تدهور أمني وتبادل قصف الصواريخ لعدة أيام. ومع أنه لم يبقَ في المنصب سوى 6 أشهر، راح يتباهى أنه «لقّن الإرهاب الفلسطيني درساً» و«أوقف التموضع الإيراني في سوريا» و«ردع حزب الله» و«أوقف المظاهرات الفلسطينية على الجدار في غزة»... ما أثار حفيظة قادة الجيش. واستخدم نتنياهو الموضوع للسخرية منه: «أنا عيّنته وزيراً للدفاع. لماذا لا تضحكون؟»، كذا قال نتنياهو لرفاقه في قيادة الليكود يومها.
ولكن بنيت اعتبر تجربته في هذه الوزارة ذروة النجاح، على الصعيد العسكري وعلى صعيد محاربة «كوفيد 19». وبعدما أقاله نتنياهو من المنصب، أصدر كتاباً عن تجربته في مكافحة الجائحة، وعرض نفسه كمن يصلح لمنصب رئاسة الحكومة، لأنه عرف كيف يدير هذه المعركة بشكل سليم. ومع أن كثيرين امتدحوا أداءه في هذه القضية، إذ أبدى روح تعاون مع مرؤوسيه، وحافظ على أعصاب باردة، وحقّق إنجازات عدة في جلب أدوات فحص الفيروس وإدارة مواقع الفحص، وضم الجيش إلى الجهود الصحية، فإن فكرة توليه رئاسة الحكومة لم تلقَ التأييد، واعتبرت قفزة كبرى إلى عالم الخيال.

رئاسة الحكومة

مع هذا، أبقى بنيت حلمه بالوصول إلى رئاسة الحكومة طي الكتمان، ولم يتفوّه به إلا مطلع السنة الماضية. يومها أسرّ به إلى أحد أصدقائه، قائلاً: «كل سياسي يحلم أن يكون رئيس حكومة، وأنا ما زلت شاباً، وأستطيع الانتظار بضع سنوات أخر. لكنني اليوم أريد هذا المنصب كي أخلّص البلاد من حكم بنيامين نتنياهو». في حينه، ابتسم صديقه غير مصدّق، إذ كان بنيت يومها يقود كتلة برلمانية في المعارضة، من 3 نواب فقط.
أضف إلى ذلك، أن بنيت نفسه لم يتصرّف في عمله السياسي كمن يسعى لإزاحة نتنياهو. وظل يتحدث عن حكم اليمين وعن خطر اليسار ويهاجم الأحزاب العربية ويرفض محاولات نتنياهو التقرّب إلى «الحركة الإسلامية» بقيادة النائب منصور عباس. كذلك حذّر نتنياهو من التراجع عن «قانون القومية اليهودية» في سبيل إرضاء واستمالة عباس. وبفضل مواقفه هذه، حظي بتأييد 274 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، وكان الحزب الثالث في صفوف المستوطنين (بعد «الصهيونية الدينية» التي حصلت على 21 في المائة، والليكود الذي حصل على 19 في المائة من أصواتهم). وكان الحزب الرابع في صفوف اليمين؛ خصوصاً في مناطق الريف. إلا أن الاستطلاع الأخير الذي أجري بعد تشكيل الحكومة الجديدة، أشار إلى أنه خسر 40 في المائة من قوته بمجرد إسقاطه نتنياهو واختياره تشكيل حكومة مع اليسار والحركة الإسلامية. ولو جرت الانتخابات اليوم لكان رصيده هبط من 7 إلى 4 مقاعد. وأصبح على حافة نسبة الحسم، ويمكن أن يختفي من الحلبة السياسية.
في المقابل، إذا كان نتنياهو يريد إسقاط حكومة بنيت ويعود ليحتل مكانه في رئاسة الحكومة، فإن «جيشاً» من نشطاء اليمين المناصر لنتنياهو يدير حرب شوارع بهدف تصفية بنيت سياسياً، حتى جسدياً. ولذا يحظى بحراسة مشددة، حتى قبل نجاح جهود تشكيل الحكومة، لأنه تلقى تهديدات بالقتل بعد نعته بـ«الخائن» و«سارق الأصوات» وما زال خصومه ينشرون له صوراً مركّبة إلكترونياً تظهره كمن يعتمر الكوفية الفلسطينية، ويرتدي زي ضابط نازي، ويضع شارباً شبيهاً بشارب زعيم النازية الألماني هتلر. وهذه الصور تذكر الإسرائيليين بما فعله «جيش» اليمين المتطرف عام 1995، وانتهى يومها باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين.
لهذا، فإن بنيت يُعتبر الآن «محروقاً» لدى اليمين. وهو يعرف أن موقعه في رئاسة الحكومة هو الدفيئة السياسية الوحيدة التي يستطيع العيش فيها. ولكي يحافظ على حياته السياسية، عليه أن يعزز وجوده وشعبيته فيها. فهذه هي الوسيلة الوحيدة لكي يحمي نفسه من هجوم نتنياهو وجيشه.

بطاقة هوية

ولد نفتالي بنيت يوم 25 مارس (آذار) 1972 في مدينة حيفا، لأبوين نشيطين في الحركة الصهيونية. الوالدان انحدرا من عائلة بولندية هربت إلى الولايات المتحدة بعدما تعرّضت لملاحقات النازية، وعام 1967 هاجرا إلى إسرائيل. وبعد ولادة نفتالي، وهو الأخ الأصغر بين 3 أبناء، عادت العائلة إلى أميركا عام 1973 لأن الأم لم تستطع الانسجام مع المجتمع الإسرائيلي المخيّب لآمالها. ولكن ما أن حطت العائلة في سان فرانسيسكو، حتى نشبت حرب أكتوبر (تشرين الأول)، فقرّر الوالد أنه لا يستطيع البقاء في الخارج ويجب أن يعود ليشارك في الحرب دفاعاً عن إسرائيل.
ترعرع نفتالي في حيفا. وفيها تخرّج من المدرسة العسكرية برتبة ضابط في الجيش. وخلال هذه المرحلة مال إلى التديّن، كردّ فعل منه على العداء الذي انتشر في إسرائيل ضد تيار «الصهيونية الدينية» بعدما اغتال أحد أفراد هذا التيار رئيس الوزراء إسحاق رابين. وفي الجيش، خدم في عدة وحدات قتالية حتى أصبح ضابطاً برتبة رائد في وحدة النخبة «سييريت متكال» (دورية رئاسة الأركان). وفيها أكمل خدمته الاحتياطية.
بنيت عمل بستانياً إبان دراسته الجامعية. وحصل على شهادتي القانون وإدارة الأعمال عام 1966. وأخذ يشق طريقه في إدارة مصالح تجارية. وعام 1999 تزوّج وانتقل للعيش مع زوجته غيلات في وسط البلاد، بمدينة الأثرياء رعنانا. وأنجب الزوجان 4 أطفال، سُمي أحدهم يوني، على اسم شقيق بنيامين نتنياهو، الذي كان قائداً في وحدة الكوماندوز المختارة، وقتل خلال تحرير الرهائن في أوغندا. وأيضاً عام 1999 انطلق إلى عالم الأعمال، وهذه المرة ليس كموظف فحسب، بل كصاحب أسهم. وأسس مع شركاء آخرين شركة تكنولوجيا متقدمة باسم «سايوتا - cyota» متخصصة في حماية المعلومات في شبكة الإنترنت. وتطوّرت الشركة ليصل عدد عمالها إلى نحو 400 موظف، وبعد 6 سنوات باعها لشركة أميركية بمبلغ 145 مليون دولار. وأسس شركة أخرى في الولايات المتحدة باسم «سولوتو» وباعها بمبلغ 138 مليون دولار.
وبعد جني بنيت هذه الثروة، تعرّف إلى أييليت شاكيد، رئيسة مكتب بنيامين نتنياهو، التي دعته إلى تولي منصب المدير العام للمكتب. ولكونه محباً لنتنياهو بشكل كبير، قرر العمل تطوّعاً من دون أجر. وفي إطار وظيفته، وضع خطة إصلاح جهاز التربية والتعليم التي بادر إليها نتنياهو. ثم أدار حملة نتنياهو في الانتخابات التمهيدية لرئاسة حزب الليكود، وحقق له فوزاً ساحقاً. لكن بنيت وشاكيد اصطدما مع زوجة نتنياهو، فتوقفا عن العمل معه. وأصبح بنيت في العام 2009 مديراً عاماً لمجلس المستوطنات. وبعد فترة، أسس مع شاكيد حركة «يسرائيل شيلي» التي حاربت نزع الشرعية عن إسرائيل، ومنظمات ما بعد الصهيونية، والمقاطعات ضد إسرائيل، ودعت إلى فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات.
وعام 2012، اختارت مجلة «فوربس» بنيت لقائمة خريجي وحدات الكوماندوز الإسرائيليين الذين نجحوا في عالم الأعمال. وفي العام ذاته، صدر كتابه «إكزيت»، وهو كتاب إرشادي لمبادري «الهايتك» في إسرائيل. ثم في انتخابات 2013 قاد حزب «البيت اليهودي» الذي فاز بـ12 مقعداً. ومع تشكيل نتنياهو الحكومة عيّن بنيت وزيراً لـ4 وزارات في آنٍ واحد معاً، هي الاقتصاد، والديانات، والقدس، والشتات. وكذلك عيّن عضواً في المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر في الحكومة، ورئيساً للمجلس الوزاري المصغر لخفض غلاء المعيشة. ولكن، في انتخابات 2015 تشقق التحالف وهبط تمثيله إلى 8 مقاعد. وتولى في الحكومة منصب وزير التربية والتعليم ووزير الشتات.
ثم عام 2018، أعاد بنيت تسمية حزب البيت اليهودي باسم يمينا (إلى اليمين)، ليعتمد خطاباً دينياً قومياً متشدداً، تبنى موضوع الاستيطان. وبعدما فشل مع حليفته شاكيد في تجاوز «نسبة الحسم» في انتخابات أبريل (نيسان) 2019. عاد في انتخابات سبتمبر (أيلول) عام 2019 إلى الكنيست وتولى لـ6 أشهر منصب وزير الدفاع.
وفي الانتخابات الأخيرة، حصل على 7 مقاعد، لكنه خسر مقعداً منها إثر رفض النائب عميحاي شيكلي خطته لإسقاط حكومة نتنياهو وتشكيل حكومة مع لابيد. ومع ذلك، فإنه تولى رئاسة الحكومة الجديدة، وسيبقى في هذا المنصب، في حال استمرار الحكومة، طيلة 27 شهراً، ليتناوب معه لابيد على المنصب.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.