بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

خسر جمهور المصوّتين ولم يبقَ أمامه سوى تغيير النهج أو السقوط

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»
TT

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

بروفايل: نفتالي بنيت... رئيس حكومة «المحرّمات»

آخر ما كان يتخيّله نفتالي بنيت في حياته هو أن يطيح «معلمه» ومثله الأعلى بنيامين نتنياهو ويحل محله في رئاسة الحكومة الإسرائيلية. لكنه اتخذ قراره ليفعل ذلك ونجح. وهو اليوم يخوض المعركة الكبرى؛ كيف يحافظ على مقعده، في وقت يرفض نتنياهو القبول بالنتيجة، ويتعهد أمام رفاقه في الليكود بأن يسقط بنيت في غضون بضعة أسابيع.
بنيت يعرف أن هذه معركة حياة أو موت سياسي، فإذا لم يحافظ على مقعده طيلة الفترة المخصصة له (27 شهراً)، وعلى تحالفه مع يائير لابيد، وحكومتهما المشتركة طيلة الفترة المقررة لها، حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، فإنه سيتحطّم سياسياً. والسبب أنه بمجرد إسقاط نتنياهو عن الحكم وتشكيل حكومة «المحرّمات» (التحالف مع اليسار ومع الحركة الإسلامية)، خسر معظم المصوّتين التقليديين من اليمين. وبالتالي، إذا أراد أن يصمد في الحلبة السياسية، عليه أن يغيّر «الشعب»، أي جمهور المصوّتين، ويذهب إلى اتجاهات أخرى في اليمين الليبرالي واليمين الوسط. ولكي يغير جمهور ناخبيه، عليه أن يتغيّر بنفسه. وهذه هي القضية... وهذا هو السؤال؛ هل يستطيع بنيت أن يتغيّر؟

مَن يراجع سيرة نفتالي بنيت، سيستصعب جداً أن يراه قادراً على التغير لدرجة يمكن معها أن يصبح قائداً مقبولاً للرأي العام السائد في إسرائيل. فهو ينتمي إلى فئة تحتل زاوية في أقصى اليمين المتطرف. وعليه، فإذا التزم بتصريحاته السياسية، سيدخل حتماً في صدام مع الإدارة الأميركية ومع المجتمع الدولي، وسيقود إسرائيل إلى صدامات حربية مع الفلسطينيين وعلى كل الجبهات.
فالرجل يرفض فكرة «الدولة الفلسطينية»، ويعتبر إسرائيل «دولة يهودية تمتد حدودها على الأرض الواقعة ما بين البحر والنهر». وتفوّه في الماضي بالقول إن «الدولة الفلسطينية» هي الأردن، رافضاً «خطة صفقة القرن» التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. أما الحل الذي يوفره للفلسطينيين فهو في إطار ما أسماه «مبادرة التهدئة» (Stability Initiative)، وبموجبها تضم إسرائيل المنطقة «ج»، البالغة 60 في المائة من مساحة الضفة الغربية، ومعها القدس الشرقية، وتوسّع فيها المستوطنات وتبني مستوطنات جديدة بلا قيود. ويبقي للفلسطينيين المنطقتين «ب» و«أ» البالغة مساحتاهما معاً 40 في المائة من الضفة، لتكون «حكماً ذاتياً» خاضعاً للسيطرة الأمنية للجيش والاستخبارات الإسرائيلية. وهو يدرك أن الفلسطينيين لن يقبلوا بهذا الحل، ولذا يرى أن على إسرائيل فرض إرادتها بالقوة، من خلال «ردود فعل عسكرية هجومية صارمة تصفّي العمليات المسلحة الفلسطينية ومَن يقف وراءها».
بنيت يرفض أيضاً صفقات تبادل أسرى مع الفلسطينيين، ويقول: «هؤلاء إرهابيون يجب قتلهم، لا إطلاق سراحهم». ويصعق عندما يسمع كلمة احتلال: «هذه أرض إسرائيل التي وعدنا بها الله، وليست أرضاً محتلة». وعندما تولّى منصب رئيس المجلس العام للمستوطنات في الضفة الغربية (2010 - 2012)، قاد حملة ضد حكومة بنيامين نتنياهو بحجة أنها تجمّد البناء في المستوطنات. وطالب بالاعتراف بالبؤر الاستيطانية العشوائية وتحويلها إلى قرى معترف بها. وعلى هذه الخلفية، أسّس حركة سياسية تحت اسم «إسرائيليون»، وقصد بها أن المستوطنين إسرائيليون، ويستحقون الاعتراف بمكانتهم في الضفة لغربية عن طريق فرض السيادة الإسرائيلية على المنطقة. ونجح بنيت في تشكيل حزب، ثم تحالف أحزاب، حصل في الانتخابات على 12 مقعداً.
في نوفمبر 2019، عيّنه نتنياهو وزيراً للأمن، وتسلم منصبه بعد ساعات فقط من تنفيذ الجيش الإسرائيلي اغتيال بهاء أبو العطا، قائد قوات «الجهاد الإسلامي» في شمال قطاع غزة، فاعتبر ذلك «هدية من السماء» وشكر نتنياهو على ثقته به لهذه الدرجة، لأن هذا الاغتيال قاد إلى تدهور أمني وتبادل قصف الصواريخ لعدة أيام. ومع أنه لم يبقَ في المنصب سوى 6 أشهر، راح يتباهى أنه «لقّن الإرهاب الفلسطيني درساً» و«أوقف التموضع الإيراني في سوريا» و«ردع حزب الله» و«أوقف المظاهرات الفلسطينية على الجدار في غزة»... ما أثار حفيظة قادة الجيش. واستخدم نتنياهو الموضوع للسخرية منه: «أنا عيّنته وزيراً للدفاع. لماذا لا تضحكون؟»، كذا قال نتنياهو لرفاقه في قيادة الليكود يومها.
ولكن بنيت اعتبر تجربته في هذه الوزارة ذروة النجاح، على الصعيد العسكري وعلى صعيد محاربة «كوفيد 19». وبعدما أقاله نتنياهو من المنصب، أصدر كتاباً عن تجربته في مكافحة الجائحة، وعرض نفسه كمن يصلح لمنصب رئاسة الحكومة، لأنه عرف كيف يدير هذه المعركة بشكل سليم. ومع أن كثيرين امتدحوا أداءه في هذه القضية، إذ أبدى روح تعاون مع مرؤوسيه، وحافظ على أعصاب باردة، وحقّق إنجازات عدة في جلب أدوات فحص الفيروس وإدارة مواقع الفحص، وضم الجيش إلى الجهود الصحية، فإن فكرة توليه رئاسة الحكومة لم تلقَ التأييد، واعتبرت قفزة كبرى إلى عالم الخيال.

رئاسة الحكومة

مع هذا، أبقى بنيت حلمه بالوصول إلى رئاسة الحكومة طي الكتمان، ولم يتفوّه به إلا مطلع السنة الماضية. يومها أسرّ به إلى أحد أصدقائه، قائلاً: «كل سياسي يحلم أن يكون رئيس حكومة، وأنا ما زلت شاباً، وأستطيع الانتظار بضع سنوات أخر. لكنني اليوم أريد هذا المنصب كي أخلّص البلاد من حكم بنيامين نتنياهو». في حينه، ابتسم صديقه غير مصدّق، إذ كان بنيت يومها يقود كتلة برلمانية في المعارضة، من 3 نواب فقط.
أضف إلى ذلك، أن بنيت نفسه لم يتصرّف في عمله السياسي كمن يسعى لإزاحة نتنياهو. وظل يتحدث عن حكم اليمين وعن خطر اليسار ويهاجم الأحزاب العربية ويرفض محاولات نتنياهو التقرّب إلى «الحركة الإسلامية» بقيادة النائب منصور عباس. كذلك حذّر نتنياهو من التراجع عن «قانون القومية اليهودية» في سبيل إرضاء واستمالة عباس. وبفضل مواقفه هذه، حظي بتأييد 274 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، وكان الحزب الثالث في صفوف المستوطنين (بعد «الصهيونية الدينية» التي حصلت على 21 في المائة، والليكود الذي حصل على 19 في المائة من أصواتهم). وكان الحزب الرابع في صفوف اليمين؛ خصوصاً في مناطق الريف. إلا أن الاستطلاع الأخير الذي أجري بعد تشكيل الحكومة الجديدة، أشار إلى أنه خسر 40 في المائة من قوته بمجرد إسقاطه نتنياهو واختياره تشكيل حكومة مع اليسار والحركة الإسلامية. ولو جرت الانتخابات اليوم لكان رصيده هبط من 7 إلى 4 مقاعد. وأصبح على حافة نسبة الحسم، ويمكن أن يختفي من الحلبة السياسية.
في المقابل، إذا كان نتنياهو يريد إسقاط حكومة بنيت ويعود ليحتل مكانه في رئاسة الحكومة، فإن «جيشاً» من نشطاء اليمين المناصر لنتنياهو يدير حرب شوارع بهدف تصفية بنيت سياسياً، حتى جسدياً. ولذا يحظى بحراسة مشددة، حتى قبل نجاح جهود تشكيل الحكومة، لأنه تلقى تهديدات بالقتل بعد نعته بـ«الخائن» و«سارق الأصوات» وما زال خصومه ينشرون له صوراً مركّبة إلكترونياً تظهره كمن يعتمر الكوفية الفلسطينية، ويرتدي زي ضابط نازي، ويضع شارباً شبيهاً بشارب زعيم النازية الألماني هتلر. وهذه الصور تذكر الإسرائيليين بما فعله «جيش» اليمين المتطرف عام 1995، وانتهى يومها باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين.
لهذا، فإن بنيت يُعتبر الآن «محروقاً» لدى اليمين. وهو يعرف أن موقعه في رئاسة الحكومة هو الدفيئة السياسية الوحيدة التي يستطيع العيش فيها. ولكي يحافظ على حياته السياسية، عليه أن يعزز وجوده وشعبيته فيها. فهذه هي الوسيلة الوحيدة لكي يحمي نفسه من هجوم نتنياهو وجيشه.

بطاقة هوية

ولد نفتالي بنيت يوم 25 مارس (آذار) 1972 في مدينة حيفا، لأبوين نشيطين في الحركة الصهيونية. الوالدان انحدرا من عائلة بولندية هربت إلى الولايات المتحدة بعدما تعرّضت لملاحقات النازية، وعام 1967 هاجرا إلى إسرائيل. وبعد ولادة نفتالي، وهو الأخ الأصغر بين 3 أبناء، عادت العائلة إلى أميركا عام 1973 لأن الأم لم تستطع الانسجام مع المجتمع الإسرائيلي المخيّب لآمالها. ولكن ما أن حطت العائلة في سان فرانسيسكو، حتى نشبت حرب أكتوبر (تشرين الأول)، فقرّر الوالد أنه لا يستطيع البقاء في الخارج ويجب أن يعود ليشارك في الحرب دفاعاً عن إسرائيل.
ترعرع نفتالي في حيفا. وفيها تخرّج من المدرسة العسكرية برتبة ضابط في الجيش. وخلال هذه المرحلة مال إلى التديّن، كردّ فعل منه على العداء الذي انتشر في إسرائيل ضد تيار «الصهيونية الدينية» بعدما اغتال أحد أفراد هذا التيار رئيس الوزراء إسحاق رابين. وفي الجيش، خدم في عدة وحدات قتالية حتى أصبح ضابطاً برتبة رائد في وحدة النخبة «سييريت متكال» (دورية رئاسة الأركان). وفيها أكمل خدمته الاحتياطية.
بنيت عمل بستانياً إبان دراسته الجامعية. وحصل على شهادتي القانون وإدارة الأعمال عام 1966. وأخذ يشق طريقه في إدارة مصالح تجارية. وعام 1999 تزوّج وانتقل للعيش مع زوجته غيلات في وسط البلاد، بمدينة الأثرياء رعنانا. وأنجب الزوجان 4 أطفال، سُمي أحدهم يوني، على اسم شقيق بنيامين نتنياهو، الذي كان قائداً في وحدة الكوماندوز المختارة، وقتل خلال تحرير الرهائن في أوغندا. وأيضاً عام 1999 انطلق إلى عالم الأعمال، وهذه المرة ليس كموظف فحسب، بل كصاحب أسهم. وأسس مع شركاء آخرين شركة تكنولوجيا متقدمة باسم «سايوتا - cyota» متخصصة في حماية المعلومات في شبكة الإنترنت. وتطوّرت الشركة ليصل عدد عمالها إلى نحو 400 موظف، وبعد 6 سنوات باعها لشركة أميركية بمبلغ 145 مليون دولار. وأسس شركة أخرى في الولايات المتحدة باسم «سولوتو» وباعها بمبلغ 138 مليون دولار.
وبعد جني بنيت هذه الثروة، تعرّف إلى أييليت شاكيد، رئيسة مكتب بنيامين نتنياهو، التي دعته إلى تولي منصب المدير العام للمكتب. ولكونه محباً لنتنياهو بشكل كبير، قرر العمل تطوّعاً من دون أجر. وفي إطار وظيفته، وضع خطة إصلاح جهاز التربية والتعليم التي بادر إليها نتنياهو. ثم أدار حملة نتنياهو في الانتخابات التمهيدية لرئاسة حزب الليكود، وحقق له فوزاً ساحقاً. لكن بنيت وشاكيد اصطدما مع زوجة نتنياهو، فتوقفا عن العمل معه. وأصبح بنيت في العام 2009 مديراً عاماً لمجلس المستوطنات. وبعد فترة، أسس مع شاكيد حركة «يسرائيل شيلي» التي حاربت نزع الشرعية عن إسرائيل، ومنظمات ما بعد الصهيونية، والمقاطعات ضد إسرائيل، ودعت إلى فرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات.
وعام 2012، اختارت مجلة «فوربس» بنيت لقائمة خريجي وحدات الكوماندوز الإسرائيليين الذين نجحوا في عالم الأعمال. وفي العام ذاته، صدر كتابه «إكزيت»، وهو كتاب إرشادي لمبادري «الهايتك» في إسرائيل. ثم في انتخابات 2013 قاد حزب «البيت اليهودي» الذي فاز بـ12 مقعداً. ومع تشكيل نتنياهو الحكومة عيّن بنيت وزيراً لـ4 وزارات في آنٍ واحد معاً، هي الاقتصاد، والديانات، والقدس، والشتات. وكذلك عيّن عضواً في المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر في الحكومة، ورئيساً للمجلس الوزاري المصغر لخفض غلاء المعيشة. ولكن، في انتخابات 2015 تشقق التحالف وهبط تمثيله إلى 8 مقاعد. وتولى في الحكومة منصب وزير التربية والتعليم ووزير الشتات.
ثم عام 2018، أعاد بنيت تسمية حزب البيت اليهودي باسم يمينا (إلى اليمين)، ليعتمد خطاباً دينياً قومياً متشدداً، تبنى موضوع الاستيطان. وبعدما فشل مع حليفته شاكيد في تجاوز «نسبة الحسم» في انتخابات أبريل (نيسان) 2019. عاد في انتخابات سبتمبر (أيلول) عام 2019 إلى الكنيست وتولى لـ6 أشهر منصب وزير الدفاع.
وفي الانتخابات الأخيرة، حصل على 7 مقاعد، لكنه خسر مقعداً منها إثر رفض النائب عميحاي شيكلي خطته لإسقاط حكومة نتنياهو وتشكيل حكومة مع لابيد. ومع ذلك، فإنه تولى رئاسة الحكومة الجديدة، وسيبقى في هذا المنصب، في حال استمرار الحكومة، طيلة 27 شهراً، ليتناوب معه لابيد على المنصب.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.