من التاريخ: معركة ديو البحرية

من التاريخ: معركة ديو البحرية
TT

من التاريخ: معركة ديو البحرية

من التاريخ: معركة ديو البحرية

متى بدأت راية الدولة الإسلامية تختفي على المستوى الدولي؟ سؤال له إجابات عديدة من قبل المستشرقين والمؤرخين، فالبعض يرى أن ذلك حدث بتفتت السلطة المركزية للدولة الإسلامية، بينما يرى آخرون أنه نتاج لظهور القوى العظمى الأخرى في الوقت الذي ضعفت فيها الكيانات الإسلامية بصفة عامة، ويقدم آخرون رؤيتهم بأن الدولة الإسلامية خفتت إثر تفتتها السياسي إلى كيانات متناحرة أغلب الوقت ومتحدة في الاستثناءات، ولا خلاف على أن كل هذه الإجابات تحمل في طياتها كثيرا من الصدق، ولكنها غير كافية لشرح هذا الانحدار التدريجي لهذه القوة على المستوى الدولي منذ ظهور الدولة الإسلامية وحتى نهاية الدولة العثمانية، فمن منظور العلاقات الدولية فإن هناك سببا آخر لم يعطه المؤرخون، في تقديري، البحث الكافي، وهو أن الدولة أو الدول الإسلامية المتعاقبة لم تهتم، بالشكل الكافي، بالقوة البحرية، واكتفت بدورها على الاعتماد على القوة البرية التي كان لها دورها الهام بطبيعة الحال، ولكن مع المتغيرات الدولية في نهاية القرن الخامس عشر أصبحت القوة البرية وحدها غير كافية للعب الدور الدولي المأمول عندما أصبحت الصراعات الدولية الحاسمة تقع خارج أقاليم هذه القوى، ولكنها أثرت عليها في الوقت نفسه، ويمكن بداية ربط هذه الحقيقة بعصر الاكتشافات الجغرافية، التي لم يكن للعرب أو الخلافة الإسلامية دور يُذكر فيها، بل كانت مهمشة تماما.
لقد بدأت أوروبا عصر الاكتشافات الجغرافية، فكانت البرتغال في مطلعها بفضل الأمير «هنري الملاح» الذي اهتم كثيرا بتطوير قدرات بلاده البحرية، والسعي لاكتشاف الطرق البحرية الجديدة والعالم الجديد، فبدأت الاستكشافات تتوالى، خاصة في غرب أفريقيا، ثم اكتشف «دياز» طريق رأس الرجاء الصالح، ومن بعده وصل «فاسكو دي جاما» إلى الهند عبر طريق الرجاء، وبدأت البرتغال تتوسع تدريجيا في شرق أفريقيا وتقيم موانئها في الجزيرة العربية، إلى أن احتلت مضيق هرمز ومنه اتجهت إلى غرب الهند لتقيم رؤوسا تجارية لها وتبدأ في تغيير الخريطة التجارية الدولية بشكل مفاجئ.
وفي هذه الأثناء قبع المماليك في مصر في حالة من الفوضى وسوء الإدارة، معتمدين على الدور التجاري الهام لمصر في طريق التجارة الدولية، وعلى تحالفها التقليدي مع الجمهوريات التجارية الهامة في إيطاليا، على رأسها البندقية، التي كانت تقبل في ذلك الوقت العملة المصرية وتتداولها نظرا للترابط التجاري مع مصر، حيث كانت التجارة الشرقية تمر عبر الهند ومنها إلى البحر الأحمر ومن بعده عبر الجمال إلى موانئ البحر المتوسط ثم إلى أوروبا، وكانت الدولة المملوكية تعتمد على المكوس أو الجمارك على هذه السلع كدخل أساسي لها بعدما فشل الكثير من سلاطينها في تحسين أوضاع البلاد والنهوض بها كما كان متوقعا لدولة بها كل مقومات القوة مثل مصر، ولكن التجارة صارت في خطر كبير بعدما اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، وسعوا لجعله الطريق الأساسي لمرور تجارة الحرير والتوابل منه إلى أوروبا، وأصبحت الدولة المملوكية في مصر في خطر استراتيجي كبير خاصة بعدما استولى البرتغاليون على مدينة سومطرة في مدخل البحر الأحمر، وأصبحت تجارتهم في خطر؛ ولكن المماليك لم يكونوا وحدهم مهددين من هذه التطورات، بل إن الدولة العثمانية الفتية التي كانت تستعد لترث الخلافة الإسلامية تأثرت هي أيضا بسبب فرضية تغيير مسار التجارة الدولية؛ لأن الطريق الجديد أصبح يهدد الطريق البري التقليدي للتجارة نفسها من الصين إلى أوروبا، وهنا تلاقت مصالح هذه الدولة مع الدولة المملوكية في مطلع القرن السادس عشر ومعهما الجمهوريات التجارية الأوروبية، فضلا عن جمهورية «كجرات» في شمال شرقي الهند، التي بدأت تعاني من التهميش البرتغالي بعد أن كانت تجارتها مزدهرة، وبدا من الضروري إيجاد تسوية لهذه المشكلة الحقيقية التي باتت تهددهم جميعا.
وكان الحل المتاح أمامهم جميعا هو الاتحاد، خاصة بعدما أوفدت البندقية مراسيلها لبناء هذا التحالف، وأبدت استعدادا كبيرا للمساهمة في النشاط العسكري للتخلص من الخطر البرتغالي الجديد، وهو ما أسفر عن تحالف منطقي قامت على أثره البندقية بتمويل جزء كبير من الجهد البحري لإرسال السفن الحربية إلى مصر بمساعدة عثمانية في العدة والعتاد وتوفير بعض الجنود، وبالفعل وصلت السفن إلى موانئ البحر المتوسط وتم تفكيكها، ومنها إلى البحر الأحمر، وتم وضع الأسطول تحت قيادة «حسين الكردي»، وتم إرساله إلى مدينة «ديو» البحرية في عام 1507 ميلادية لحلفائهم في جمهورية «كجرات» استعدادا لحسم معركة التجارة العالمية في المحيط الهندي، وقد جاءت المبشرات الأولية إيجابية للأسطول المملوكي؛ فقد دخل في معركة هامة للغاية مع البرتغاليين عرفت تاريخيا بمعركة «شاول CHAUL» وكانت النتيجة هزيمة القوة البحرية البرتغالية التي كان يقودها ابن الوالي البرتغالي «الميدا» الذي قتل في المعركة، وهو ما جعل والده مصمما على الثأر له بكل ثمن إلى الحد الذي دفعه لرفض قرار ملك البرتغال بتغييره ووضع حاكم برتغالي جديد بدلا منه، وذلك لحين الثأر لابنه.
وهكذا أصبحت المعركة الفاصلة مسألة وقت بين البرتغاليين والتحالف المملوكي، فكانت معركة «ديو البحرية» في الثاني من فبراير (شباط) عام 1509م أو 915 هجرية، وقد كانت في حقيقة الأمر محسومة لصالح البرتغاليين رغم التفوق النسبي في عدد السفن والمقاتلين لصالح المماليك، وذلك لأن البرتغاليين كانوا أكثر تقدما في بناء السفن والتكتيكات البحرية من نظرائهم المصريين أو حلفائهم من الهنود والعثمانيين، كما أن البحرية المملوكية لم تكن لديها القدرة على التفوق التكتيكي بسبب غياب المدفعية الثقيلة لأسباب مرتبطة بحجم السفن وهيكلها، وهو ما أعطى البرتغاليين التفوق الكامل، خاصة بعدما لجأ المماليك لمحاولة البقاء بالقرب من الشاطئ اعتمادا على غطاء المدفعية التي توفرها القاعدة العسكرية لميناء «ديو» في مواجهة التفوق البرتغالي، ولكن هذا أفقد الأسطول المملوكي القدرة على المناورة وتركه فريسة في أيدي «ألميدا» الذي استغل الظروف بقوة من خلال تنفيذ المناورات التي سمحت له بإنزال قواته في ميناء ديو ودحر القوات المتحالفة وهزيمتهم هزيمة منكرة، وقام بأسر ما استطاع من المماليك وقام بحرقهم والتنكيل بهم ثأرا لمقتل ابنه، واستولى على المدينة، ولكنه رفض إخضاعها لحكمه للتكلفة العالية للإبقاء عليها، ولكنه خلق منها حليفا بعدما أبقى تشكيلا عسكريا فيها، ولكنه أخذ منها ما يقرب من 300 ألف قطعة من الذهب ثمنا للهزيمة.
لقد أدت هذه الهزيمة البحرية الثقيلة إلى نتائج دولية كبيرة، فلقد انفرد البرتغاليون بطريق التجارة الجديد في المحيط الهادي، مما سمح لهم بأن يمدوا نفوذهم من اليابان شرقا إلى البرازيل غربا، وسيطروا على طريق التجارة الآسيوية بعدما انخفضت أسعار التوابل والمنسوجات الحريرية الآسيوية الموردة إلى أوروبا، وقد نتج عن ذلك أيضا بداية انهيار القوى الأوروبية التجارية، وعلى رأسها البندقية وجمهورية «راجوسا» وهي ميناء «دوبروفنيك» اليوم، بينما انحصرت قوة العثمانيين في المتوسط وشرق أوروبا، وقد حاول السلطان سليمان القانوني تعديل الوضع في 1547 بإرسال قوة بحرية لضرب طريق التجارة البرتغالي، ولكنها هُزمت مرة أخرى. أما في مصر، فإن هذه الهزيمة مثلت نهاية الدور الذي لعبته على المستوى الدولي كقوة عظمى ومن بعدها لم تعد قوة دولية، واكتفى التاريخ بمنحها دورا قويا كقوة إقليمية فريدة بعد بناء مصر الحديثة على أيدي محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر.
إن معركة «ديو البحرية» هي في حقيقة الأمر تجسيد لحقائق عدة، لعل أهمها هو أن عصر العولمة بمفهومه الواسع قد بدأ مع الاستكشافات الجغرافية، ولم يكن لمصر أو القوة الإسلامية الأخرى، ممثلة في الدولة العثمانية، دور فيه، بل إنهما كانا على نقيض حركة التاريخ، وغير راغبتين في اللحاق بالحركة الدولية الجديدة، فلم يستثمرا في حركة التاريخ، واكتفيا بمحاولة وقف عجلته لأسباب تتعلق في الأساس بعدم القدرة على السيطرة على أدواته لغياب بُعد القوة البحرية القادرة في السياسة الدولية، فضلا عن ترك حركة الاستكشافات للغير، وهو ما أفقدهما الحصول على رأس المال الجديد الذي ولدته الثورة التجارية الدولية التي فجرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهنا يمكن القول بأن الدولة المصرية والعثمانية وضعتا أرجلهما على أول طريق الخروج من الحلبة السياسية الدولية، الأولى بعد معركة «ديو» التي أعقبها وقوعها فريسة لتوسع الدولة العثمانية، والثانية عندما تقطعت أيديها البحرية بعد معركة «ليبانتو» البحرية الشهيرة في 1573 وانحسار مدها البري بعدها بعدة عقود.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.