من التاريخ: معركة ديو البحرية

من التاريخ: معركة ديو البحرية
TT

من التاريخ: معركة ديو البحرية

من التاريخ: معركة ديو البحرية

متى بدأت راية الدولة الإسلامية تختفي على المستوى الدولي؟ سؤال له إجابات عديدة من قبل المستشرقين والمؤرخين، فالبعض يرى أن ذلك حدث بتفتت السلطة المركزية للدولة الإسلامية، بينما يرى آخرون أنه نتاج لظهور القوى العظمى الأخرى في الوقت الذي ضعفت فيها الكيانات الإسلامية بصفة عامة، ويقدم آخرون رؤيتهم بأن الدولة الإسلامية خفتت إثر تفتتها السياسي إلى كيانات متناحرة أغلب الوقت ومتحدة في الاستثناءات، ولا خلاف على أن كل هذه الإجابات تحمل في طياتها كثيرا من الصدق، ولكنها غير كافية لشرح هذا الانحدار التدريجي لهذه القوة على المستوى الدولي منذ ظهور الدولة الإسلامية وحتى نهاية الدولة العثمانية، فمن منظور العلاقات الدولية فإن هناك سببا آخر لم يعطه المؤرخون، في تقديري، البحث الكافي، وهو أن الدولة أو الدول الإسلامية المتعاقبة لم تهتم، بالشكل الكافي، بالقوة البحرية، واكتفت بدورها على الاعتماد على القوة البرية التي كان لها دورها الهام بطبيعة الحال، ولكن مع المتغيرات الدولية في نهاية القرن الخامس عشر أصبحت القوة البرية وحدها غير كافية للعب الدور الدولي المأمول عندما أصبحت الصراعات الدولية الحاسمة تقع خارج أقاليم هذه القوى، ولكنها أثرت عليها في الوقت نفسه، ويمكن بداية ربط هذه الحقيقة بعصر الاكتشافات الجغرافية، التي لم يكن للعرب أو الخلافة الإسلامية دور يُذكر فيها، بل كانت مهمشة تماما.
لقد بدأت أوروبا عصر الاكتشافات الجغرافية، فكانت البرتغال في مطلعها بفضل الأمير «هنري الملاح» الذي اهتم كثيرا بتطوير قدرات بلاده البحرية، والسعي لاكتشاف الطرق البحرية الجديدة والعالم الجديد، فبدأت الاستكشافات تتوالى، خاصة في غرب أفريقيا، ثم اكتشف «دياز» طريق رأس الرجاء الصالح، ومن بعده وصل «فاسكو دي جاما» إلى الهند عبر طريق الرجاء، وبدأت البرتغال تتوسع تدريجيا في شرق أفريقيا وتقيم موانئها في الجزيرة العربية، إلى أن احتلت مضيق هرمز ومنه اتجهت إلى غرب الهند لتقيم رؤوسا تجارية لها وتبدأ في تغيير الخريطة التجارية الدولية بشكل مفاجئ.
وفي هذه الأثناء قبع المماليك في مصر في حالة من الفوضى وسوء الإدارة، معتمدين على الدور التجاري الهام لمصر في طريق التجارة الدولية، وعلى تحالفها التقليدي مع الجمهوريات التجارية الهامة في إيطاليا، على رأسها البندقية، التي كانت تقبل في ذلك الوقت العملة المصرية وتتداولها نظرا للترابط التجاري مع مصر، حيث كانت التجارة الشرقية تمر عبر الهند ومنها إلى البحر الأحمر ومن بعده عبر الجمال إلى موانئ البحر المتوسط ثم إلى أوروبا، وكانت الدولة المملوكية تعتمد على المكوس أو الجمارك على هذه السلع كدخل أساسي لها بعدما فشل الكثير من سلاطينها في تحسين أوضاع البلاد والنهوض بها كما كان متوقعا لدولة بها كل مقومات القوة مثل مصر، ولكن التجارة صارت في خطر كبير بعدما اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، وسعوا لجعله الطريق الأساسي لمرور تجارة الحرير والتوابل منه إلى أوروبا، وأصبحت الدولة المملوكية في مصر في خطر استراتيجي كبير خاصة بعدما استولى البرتغاليون على مدينة سومطرة في مدخل البحر الأحمر، وأصبحت تجارتهم في خطر؛ ولكن المماليك لم يكونوا وحدهم مهددين من هذه التطورات، بل إن الدولة العثمانية الفتية التي كانت تستعد لترث الخلافة الإسلامية تأثرت هي أيضا بسبب فرضية تغيير مسار التجارة الدولية؛ لأن الطريق الجديد أصبح يهدد الطريق البري التقليدي للتجارة نفسها من الصين إلى أوروبا، وهنا تلاقت مصالح هذه الدولة مع الدولة المملوكية في مطلع القرن السادس عشر ومعهما الجمهوريات التجارية الأوروبية، فضلا عن جمهورية «كجرات» في شمال شرقي الهند، التي بدأت تعاني من التهميش البرتغالي بعد أن كانت تجارتها مزدهرة، وبدا من الضروري إيجاد تسوية لهذه المشكلة الحقيقية التي باتت تهددهم جميعا.
وكان الحل المتاح أمامهم جميعا هو الاتحاد، خاصة بعدما أوفدت البندقية مراسيلها لبناء هذا التحالف، وأبدت استعدادا كبيرا للمساهمة في النشاط العسكري للتخلص من الخطر البرتغالي الجديد، وهو ما أسفر عن تحالف منطقي قامت على أثره البندقية بتمويل جزء كبير من الجهد البحري لإرسال السفن الحربية إلى مصر بمساعدة عثمانية في العدة والعتاد وتوفير بعض الجنود، وبالفعل وصلت السفن إلى موانئ البحر المتوسط وتم تفكيكها، ومنها إلى البحر الأحمر، وتم وضع الأسطول تحت قيادة «حسين الكردي»، وتم إرساله إلى مدينة «ديو» البحرية في عام 1507 ميلادية لحلفائهم في جمهورية «كجرات» استعدادا لحسم معركة التجارة العالمية في المحيط الهندي، وقد جاءت المبشرات الأولية إيجابية للأسطول المملوكي؛ فقد دخل في معركة هامة للغاية مع البرتغاليين عرفت تاريخيا بمعركة «شاول CHAUL» وكانت النتيجة هزيمة القوة البحرية البرتغالية التي كان يقودها ابن الوالي البرتغالي «الميدا» الذي قتل في المعركة، وهو ما جعل والده مصمما على الثأر له بكل ثمن إلى الحد الذي دفعه لرفض قرار ملك البرتغال بتغييره ووضع حاكم برتغالي جديد بدلا منه، وذلك لحين الثأر لابنه.
وهكذا أصبحت المعركة الفاصلة مسألة وقت بين البرتغاليين والتحالف المملوكي، فكانت معركة «ديو البحرية» في الثاني من فبراير (شباط) عام 1509م أو 915 هجرية، وقد كانت في حقيقة الأمر محسومة لصالح البرتغاليين رغم التفوق النسبي في عدد السفن والمقاتلين لصالح المماليك، وذلك لأن البرتغاليين كانوا أكثر تقدما في بناء السفن والتكتيكات البحرية من نظرائهم المصريين أو حلفائهم من الهنود والعثمانيين، كما أن البحرية المملوكية لم تكن لديها القدرة على التفوق التكتيكي بسبب غياب المدفعية الثقيلة لأسباب مرتبطة بحجم السفن وهيكلها، وهو ما أعطى البرتغاليين التفوق الكامل، خاصة بعدما لجأ المماليك لمحاولة البقاء بالقرب من الشاطئ اعتمادا على غطاء المدفعية التي توفرها القاعدة العسكرية لميناء «ديو» في مواجهة التفوق البرتغالي، ولكن هذا أفقد الأسطول المملوكي القدرة على المناورة وتركه فريسة في أيدي «ألميدا» الذي استغل الظروف بقوة من خلال تنفيذ المناورات التي سمحت له بإنزال قواته في ميناء ديو ودحر القوات المتحالفة وهزيمتهم هزيمة منكرة، وقام بأسر ما استطاع من المماليك وقام بحرقهم والتنكيل بهم ثأرا لمقتل ابنه، واستولى على المدينة، ولكنه رفض إخضاعها لحكمه للتكلفة العالية للإبقاء عليها، ولكنه خلق منها حليفا بعدما أبقى تشكيلا عسكريا فيها، ولكنه أخذ منها ما يقرب من 300 ألف قطعة من الذهب ثمنا للهزيمة.
لقد أدت هذه الهزيمة البحرية الثقيلة إلى نتائج دولية كبيرة، فلقد انفرد البرتغاليون بطريق التجارة الجديد في المحيط الهادي، مما سمح لهم بأن يمدوا نفوذهم من اليابان شرقا إلى البرازيل غربا، وسيطروا على طريق التجارة الآسيوية بعدما انخفضت أسعار التوابل والمنسوجات الحريرية الآسيوية الموردة إلى أوروبا، وقد نتج عن ذلك أيضا بداية انهيار القوى الأوروبية التجارية، وعلى رأسها البندقية وجمهورية «راجوسا» وهي ميناء «دوبروفنيك» اليوم، بينما انحصرت قوة العثمانيين في المتوسط وشرق أوروبا، وقد حاول السلطان سليمان القانوني تعديل الوضع في 1547 بإرسال قوة بحرية لضرب طريق التجارة البرتغالي، ولكنها هُزمت مرة أخرى. أما في مصر، فإن هذه الهزيمة مثلت نهاية الدور الذي لعبته على المستوى الدولي كقوة عظمى ومن بعدها لم تعد قوة دولية، واكتفى التاريخ بمنحها دورا قويا كقوة إقليمية فريدة بعد بناء مصر الحديثة على أيدي محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر.
إن معركة «ديو البحرية» هي في حقيقة الأمر تجسيد لحقائق عدة، لعل أهمها هو أن عصر العولمة بمفهومه الواسع قد بدأ مع الاستكشافات الجغرافية، ولم يكن لمصر أو القوة الإسلامية الأخرى، ممثلة في الدولة العثمانية، دور فيه، بل إنهما كانا على نقيض حركة التاريخ، وغير راغبتين في اللحاق بالحركة الدولية الجديدة، فلم يستثمرا في حركة التاريخ، واكتفيا بمحاولة وقف عجلته لأسباب تتعلق في الأساس بعدم القدرة على السيطرة على أدواته لغياب بُعد القوة البحرية القادرة في السياسة الدولية، فضلا عن ترك حركة الاستكشافات للغير، وهو ما أفقدهما الحصول على رأس المال الجديد الذي ولدته الثورة التجارية الدولية التي فجرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهنا يمكن القول بأن الدولة المصرية والعثمانية وضعتا أرجلهما على أول طريق الخروج من الحلبة السياسية الدولية، الأولى بعد معركة «ديو» التي أعقبها وقوعها فريسة لتوسع الدولة العثمانية، والثانية عندما تقطعت أيديها البحرية بعد معركة «ليبانتو» البحرية الشهيرة في 1573 وانحسار مدها البري بعدها بعدة عقود.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».