في فلسفة الكتابة الروائية

قوانين أقرب إلى بديهيات قد لا ننتبه إليها في حياتنا اليومية الصاخبة

أليف شافاك
أليف شافاك
TT

في فلسفة الكتابة الروائية

أليف شافاك
أليف شافاك

ربما سيكون من قبيل الكلام غير المسوّغ أن نتحدّث عن قوانين للرواية. الرواية ليست فيزياء أو كيمياء أو رياضيات، والقوانين في نهاية الأمر حقيقة تختصُّ بها المباحث العلمية، بحسب ما ترسّخ في مواضعاتنا الثقافية العامّة. يضافُ إلى هذه الحقيقة حقيقة أخرى، مفادُها أننا سمعنا عن كثير من القوانين التي أراد لها بعضُ الروائيين أن ترتقي لتكون بمثابة قوانين شاملة للكتابة الروائية (هاروكي موراكامي، أليف شافاك، مثلاً)، لكنّ هذه القوانين المدّعاة لا ترقى إلى مرتبة القوانين الشاملة، كونها تختلف اختلافاً بيناً من كاتب لآخر، وبالتالي فهي فاقدة لصفة العمومية الشاملة، ثم إنها مهما بالغت في ادعاء قانونيتها المزعومة، فهي ليست سوى اختيارات تقنية شخصية لا تمثّلُ أكثر من مقاربات محدّدة نحو آلية الكتابة السردية يروّجُ لها أصحابها، ويرون فيها مسالك آمنة في غابة السرد الروائي. الفردانية المفرطة تبقى السمة المميزة لمثل هذه الرؤى الشخصية، حتى لو حقّقت نجاحات لا يمكن نكرانها أو الالتفاف عليها في مواضع محدّدة قليلة من الصنعة الروائية.
ثمة قوانين للإبداع؛ هذه حقيقة خبرتها في حياتي. كل منشط معرفي له قوانينه، لكن ينبغي منذ البدء أن نعرف أنّ هذه القوانين ليست صياغات نهائية، بل تنشأ بموجب التشكيلة العقلية لكلّ مبدع. تصحّ هذه المقايسة على أساطين الفيزياء والرياضيات مثلما تصحّ على مبدعي السرد (والروائيين منهم بخاصة).
قادتني مهنتي الروائية إلى اعتماد قوانين محدّدة في صناعة الشخصية الروائية، وهذه أقربُ إلى موجّهات دليلية عامة في الكتابة الروائية. وسنرى أنّ هذه القوانين أقرب إلى بديهيات، لكنها بديهيات قد لا ننتبه إليها في حياتنا اليومية الصاخبة. كما أنّ هذه البديهيات مستمدّة من علم النفس المعرفي وفلسفة العقل، وليست أفكاراً نابعة من الفضاء السردي ذاته (ولهذا السبب بالتحديد يصحُّ تسميتها بميتافيزيقا الكتابة الروائية، كونها تتماثلُ مع قوانين النظم الشكلية Formal Systems، إذ إنها غير مُسببة، بل نقبلها قبولاً ناشئاً عن قناعتنا بها، مثلما يحصل مع النظم الاعتقادية Belief Systems). أريد القول إنّ الفاعلية الروائية منشط أوسع بكثير من نطاق الدراسات الروائية، بل تتجاوزها إلى دوائر معرفية كثيرة تجعل من الفاعلية الروائية (والسردية عامة) حقلاً معرفياً ينتمي إلى حقل الدراسات المعرفية المشتبكة.
إذا كان أمر انتخاب ما يُوصفُ بأنه قوانين للرواية حتى اليوم (على الشاكلة التي فعلَتْها نخبة من الروائيات والروائيين) جهداً بشرياً مكتنفاً بالفردانية المفرطة، مقتصراً على آليات الكتابة الروائية وموضوعاتها، فما الجدوى إذن من محاولتي تشخيص قوانين للرواية؟ أقولُ إنّ محاولتي تختلف اختلافاً كاملاً عن المحاولات الحثيثة السابقة من جانب روائيات وروائيين على مستوى العالم بأكمله: ما أسعى إليه في القوانين التالية هو رسمُ خريطة مفاهيمية لقوانين محدّدة لكلّ فاعلية روائية (وليس قوانين حاكمة لآليات الكتابة الروائية أو موضوعاتها أو أي تفصيلة أخرى تقع داخل الهيكل السردي للرواية)، وبالتالي يمكن توصيفُ هذه الخريطة المفاهيمية بأنها أقربُ إلى المخطّط المفاهيمي الذي تعبّر عنه القوانين الثلاثة الحاكمة للفيزياء النيوتنية. لن يخفى على القارئ صفة العمومية في هذه القوانين التي ينقادُ لها كلّ عمل روائي، وسيكون الأمر أقرب إلى لعبة ذهنية لذيذة عندما نحاولُ تطبيق هذه القوانين على الأعمال الروائية التي عرفناها (أو سنعرفها) في المستقبل.
سأحدّدُ الآن هذه القوانين المقترحة للرواية، فضلاً عن محاولة توصيفها بعبارات قليلة مختصرة، مع ملاحظة أنّ السرد هنا يعملُ بمثابة جسم معرفي معادل للرواية، على الرغم من أنّ الفاعلية السردية أوسع نطاقاً من الفاعلية الروائية:
القانون الأول (قانون الإمكانية): ومفاده كلّ ما يمكن تخيله يمكنُ تضمينه في سياق فاعلية سردية.
ويحضرني في هذا المقام مَيْلُ مؤسسة «ناسا» الفضائية لتوظيف روائيين معروفين (ليسوا بالضرورة من كُتّاب رواية الخيال العلمي)، وكذلك المخرجين السينمائيين، في جهود تصميم المركبات الفضائية التي تسعى إلى الهبوط على كواكب بعيدة (مثل المريخ)... كيف حصل هذا الأمر؟ يعرف مسؤولو «ناسا» بالتأكيد، عبر تاريخ فكري طويل من الخبرة الممتدة، أنّ العقل الروائي أو ذلك السينمائي الذي يوظّف الجهود الروائية في أعمال مرئية هما بين أفضل العقول التي يمكنها تقديم حلول مناسبة لمعضلات تقنية كبيرة، لأنّ الفاعلية الروائية (وهي نتاج خيال خلاق) إذ تحوّلُ الخيال إلى منتجات روائية، فإنها غالباً ما تختارُ مقاربات ممكنة في إطار الجهد البشري، حتى لو كانت هذه الإمكانية غير متاحة في وقتنا الراهن؛ هذا هو بالضبط ما حصل في الروايات العظيمة (سواء في حقل الخيال العلمي أو سواه).
القانون الثاني: (قانون العوالم المتوازية)، ومفاده أنّ الخيال البشري شيء أكبر من المرئي والمحسوس، وأنّ ما نكتب عنه قد لا يحصل في عالمنا الواقعي، بل في عوالم متوازية.
ويتماثلُ هذا القانون مع فكرة العوالم المتوازية في ميكانيكا الكم، والتمثلُ الروائي لهذه الفكرة هي أنّ الحدث الروائي يمكنُ أن يحصل في عالمٍ موازٍ لعالمنا، بصرف النظر عن مدى معقوليته لنا أو استعصائه على إمكانية التحقق في عالمنا المادي بسبب نقص القدرة التقنية أو لغرائبيته بالنسبة لكينونتنا البشرية. وواضحٌ أنّ مفهوم العوالم المتوازية يمثلُ عنصر شحن لا نظير له في قدرته على الارتقاء بخيالنا البشري وتجاوز كلّ المحدّدات الواقعية التي نضعها أمام إمكانياتنا، وتوسيع تخوم تعاملنا المادي في نطاق وجودنا الفيزيائي المحكوم بمحدّدات طبيعية أو متخيلة.
القانون الثالث: (قانون الاحتمالات المتناقصة)، ومفاده أنّ التشخيص الروائي يقلّل من الاحتمالات الممكنة لمآلات الشخصيات الروائية.
وهنا، تكون الرواية عند خطّ الشروع أشبه بولوجنا عالماً شبكياً (Networked) كثيف التعقيد، مثل عالم «غوغل» مثلاً. ففي اللحظة التي ننقر فيها على البحث في موضوعة محدّدة، نكون قد غادرنا العالم الغوغلي المشتبك نحو فضاء محدّد تكون الروابط الرقمية فيه -بالتبعية- أقلّ تعقيداً واشتباكاً من العالم الغوغلي العام عند نقطة الشروع، ثمّ عندما نقصرُ البحث عن تفاصيل محدّدة من تلك الموضوعة المختارة إنما نكون قد قلّصنا حجم ودرجة تعقيد الاشتباكات الثانوية. وتفيد هذه المقاربة الغوغلية في توصيف ما يحصلُ عند رسم الشخصيات الروائية، ويكمن جزء من البراعة الروائية في انتخاب شخصيات يتفق المتبقّي من روابطها البشرية مع شكل وطبيعة الترسيمة العقلية والنفسية التي يريدها الروائي لها، وبكيفية تخدم العمل الروائي وتعزّزه.
القانون الرابع: (قانون الخبرة و/أو الأخلاقيات)، ومفاده أنّ الرواية تعملُ على تعزيز منسوب الخبرة البشرية لدينا و/أو منسوب الأخلاقيات البشرية.
ما الذي تبتغيه كلّ رواية؟ إنها تبتغي الارتقاء بالخبرة البشرية و/أو تعزيز أخلاقياتنا البشرية في التعامل مع البشر والطبيعة. والخبرة البشرية هنا تعني تحديداً كلّ معرفة من شأنها جعل البشر يعيشون حياة طيبة (طبقاً للمواصفات الفلسفية المتفق عليها)، وبكيفية سعت كثير من الفلسفات القديمة والجديدة لتعزيزها، أو أنّ الخبرة البشرية تعني حلولاً أفضل لمعضلات إنسانية وتقنية. ولا بد في هذا الشأن أيضاً من الإشارة إلى أنّ الأخلاقيات (Ethics) شيء يتمايز عن الأخلاق (Morals): الأخلاقيات هي أقرب إلى أعراف متفق عليها أو مدوّنات سلوكية ترتقي بنوعية العيش البشري.
القانون الخامس: (قانون الأنتروبيا الروائية)، وهو قانون متصل بالقانون الرابع ناتج عن مفاعيله، ومفاده أنّ العمل الروائي يساهمُ في تناقص الأنتروبيا المجتمعية.
ولأوضّح أولاً المقصود بالأنتروبيا (Entropy) الفيزيائية: الأنتروبيا (الشواش أو الفوضى أو التشتت أو اللاانتظام في المكافئ العربي للمفردة) هي إحدى المعالم المميزة للقانون الثاني في الديناميكا الحرارية الذي لعب دوراً عظيم الأهمية في تاريخ العلم، ومفاده أنّ المنظومات الطبيعية تميلُ إلى زيادة الفوضى مع الزمن لو تُرِكت لحالها دونما مؤثر خارجي.
والرواية لأنها تعملُ على تعزيز منسوب الخبرة البشرية و/أو الأخلاقيات البشرية، فإنها تساهمُ في تخفيض مناسيب الحيرة والتشتت والمتاهات الفكرية غير المنتجة، وبالتالي هي تعمل على تقليل منسوب الأنتروبيا المجتمعية الكلية، وجعلها قادرة على العمل الجاد المنظّم الموجّه نحو أهداف كبيرة، وهو الأمر الذي تفتقده -للأسف- المجتمعات الغائصة في وحول التناحر الداخلي والصراع المجتمعي.
الخلاصة من هذه القوانين الروائية: الرواية منتجٌ بشري يمثلُ أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان. ولو تفكّرنا في طبيعة القوانين الحاكمة لكلّ الأعمال الروائية، يمكننا حينئذ توظيف الأعمال الروائية الحقيقية في الارتقاء بنوعية الحياة البشرية، وتعزيز ممكنات الفعل الفردي والمجتمعي، وكبحِ منغّصات العيش البشري، أو بعضها في أقل تقدير.



البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.