هولدرلين شاعراً حتى الجنون!

لم يجسد أحدٌ جوهر الشعر وبراءته وفجيعته مثلما جسده

هولدرلين
هولدرلين
TT

هولدرلين شاعراً حتى الجنون!

هولدرلين
هولدرلين

متى اكتشف الفرنسيون هولدرلين؟ سؤال مطروح بشكل سيئ، كان ينبغي أن نتساءل بالأحرى: متى اكتشف الألمان هولدرلين؟ ففي أرضه وموطنه الأصلي ظل هولدرلين مجهولاً حتى بدايات القرن العشرين، أي بعد أكثر من نصف قرن على وفاته (1770 - 1843).
عندما اكتشف الشعراء الألمان أعماله بعد ستيفان جورج، وريلكه، وتراكل، جن جنونهم وراحوا يتساءلون: كيف يمكن لشاعر ضخم في مثل هذا الحجم والمستوى أن يكون مهملاً إلى مثل هذا الحد؟ كيف يمكن أن يجهله معاصروه؟ عندئذ أصبح مرجعيتهم الشعرية، وراحوا يتحدثون عنه بمناسبة وغير مناسبة. عندئذ راحوا يبجلونه ويرفعون اسمه عالياً. وحتى نيتشه راح يتحدث عنه بكل إعجاب. ومن يستطيع أن يعجب نيتشه إن لم يكن فلتة من فلتات الزمان؟ عندما ينرفز نيتشه يهتز العالم. هذا ناهيكم بهيدغر الذي ظل مبهوراً به طيلة حياته وكرس له صفحات طوالاً: أناشيد هولدرلين: ألمانيا ونهر الراين، مقاربات هولدرلين، إلخ... بل وقال عنه ما يلي: «هولدرلين يضيء لنا المستقبل لأن شعره يرهص بالقدر العالمي للإنسان الحديث». وعندئذ سمع به جيرانهم الفرنسيون، فراحوا يبحثون عنه أيضاً ويترجمون أشعاره.
ووصل الأمر بموريس بلانشو إلى حد التحدث عن «الكلام المقدس لهولدرلين»!
لقد جسد هولدرلين جوهر الشعر وراديكاليته الحيوية في قصائده، جسد البراءات المطلقة للشعر. وما معنى الشعر من دون براءاته الأولى المتفجرة كالصواعق والأنهار والشلالات؟ ما معنى القصيدة إن لم تكن كفلق الصبح؟ القصيدة تخترق المستحيلات، تبدد الظلمات. القصيدة تحقق الانفراجات بعد الانسدادات. ولذلك ما إن نقرأ قصيدة لها معنى حتى نتنفس الصعداء، حتى نشعر بالارتياح. وربما رقصنا فرحاً أو خرجنا عن طورنا. ربما شعرنا أن العالم تغير، والكون اتسع... إذا كان هناك شاعر لا يغش في شعره، فهو هولدرلين. وقد عاش الشعر كتساؤل مفتوح وكملاذ يلجأ إليه إذا ما ادلهمت الدنيا في وجهه. وقد ادلهمت كثيراً حتى فقد عقله في نهاية المطاف وهو في السابعة والثلاثين فقط. ومعلوم أنه عاش نصف حياته في الصحو والنصف الآخر في متاهات الغياب.
لكن حتى قصائد «الغياب» التي كتبت في المرحلة المترجرجة بين المرحلتين لا تستهينوا بها. إنها من أجمل ما يكون. لنستمع إلى إحداها التي ربما كانت آخر ما كتب قبل أن ينطفئ كلياً، ويقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون:
حلاوة هذا العالم ذقتها كلها
الشباب لم يعد نهراً على الأفق
نيسان وأيار أصبحا بعيدين
الصيف نفسه أصبح بعيداً
وأنا لم أعد شيئاً
لم تعد لي رغبة في الحياة
كان هولدرلين شاباً جميلاً جداً. يقال بأنه عندما كان يدخل الغرفة يضيئها. وكان مثقفاً من أعلى طراز. كان أستاذه ومعبوده جان جاك روسو. كان مثله الأعلى. وقد رثاه بقصيدة عصماء أو أكثر من قصيدة. كلهم كانوا مبهورين بجان جاك روسو. صديقه هيغل أيضاً. وقبله كانط. العباقرة تعرف بعضها... وسبب جنونه هو أنه وقع في حب امرأة متزوجة وقد ماتت لوعة وأسى بسببه أو بسبب فراقه بعد أن انفضحت القصة. وعندما سمع بموتها، وكان في مدينة بوردو الفرنسية، اختل عقله وعاد سيراً على الأقدام إلى ألمانيا. هو «قتلها» وهي جننته. رجعنا إلى مجنون ليلى والحب الأقصى.
بعضهم يصف هولدرلين بالشاعر المطلق. إنه الشاعر الأصفى أو الأنقى في تاريخ ألمانيا. عفواً ريلكه! وعفواً نيتشه أيضاً! وربما عفواً هيدغر! لم يجسد أحد جوهر الشعر، وبراءته، وفجيعته، مثلما جسدها هولدرلين.
ولد في عائلة شريفة متواضعة. وعاش طفولة متقشفة صارمة في ظل الأديرة والكنائس المنتشرة بكثرة بين الغابات والأنهار والبحيرات في واحدة من أجمل مناطق ألمانيا. ثم فقد أباه وهو صغير، ودخل إلى المدارس الدينية لكي يرضي أمه وجدته اللتين كانتا تحلمان له بمستقبل باهر. كيف؟ كرجل دين في الأرياف!... أما هو فكان يحلم بمستقبل آخر معاكس تماماً. كان يريد أن يصبح مثقفاً حداثياً تنويرياً ليس إلا. كان يريد أن ينفض عن نفسه غبار الزمن والقرون والأصوليات.
وفي جامعة توبنجن، راح يكتشف الآداب والأساطير الإغريقية. وهناك تعرف على شابين من جيله سوف يكون لهما مستقبل عظيم لاحقاً: هيغل وشيلنغ. هؤلاء هم الرفاق الثلاثة على مقاعد الدرس بل وسكنوا جميعاً الغرفة ذاتها.
تصوروا الأمر: ثلاثة عباقرة في غرفة واحدة! هو سوف يصل إلى قمة الشعر، وهما سيصلان إلى قمة الفكر. وسوف تتعانق القمتان، قمة الشعر وقمة الفكر، في شخصه لأنه كان فيلسوفاً ومفكراً عميقاً أيضاً. انظروا روايته الشعرية الفلسفية الهائلة: هيبريون. ولكنه كان متمزقاً على نفسه لأن ألمانيا ذاتها كانت متمزقة بين الدين/ والفلسفة، أو بين الإيمان/ والعقل. ويقال بأن المناقشات الصاخبة التي دارت حول الإلحاد أقلقت روحه كثيراً. كان ذلك عصر الزعزعات الكبرى التي تلخصها عبارة واحدة: كيف يمكن للروح أن تنتقل فجأة من عصر الدين إلى عصر الفلسفة؟ كيف يمكن أن ننفصل عن الأصولية المتغلغلة في أعماقنا وجذورنا؟ كيف يمكن أن ننتصر على أنفسنا؟ الحل الوحيد هو المصالحة بين الدين والفلسفة. فإذا ما فهمنا الدين بشكل صحيح فلا توجد أي مشكلة. المشكلة هي في الفهم الخاطئ والظلامي للدين لا في الدين ذاته. الدين حمال أوجه.
في الجامعة راح هولدرلين يكتشف لأول مرة الفكر التحريري أو التنويري: أي فكر لايبنتز، وفولتير، وكانط، وفيخته، وجان جاك روسو، إلخ. وكانوا يقرأون كتب فلاسفة الأنوار سراً ويخفونها تحت اللحاف إذا ما دخل المفتش الكهنوتي فجأة إلى الغرفة!
على أي حال فالسؤال الكبير الذي كان مطروحاً على مثقفي ألمانيا هو التالي: كيف يمكن أن تخرج من الرؤية القديمة للعالم وتعتنق الرؤية العلمية والفلسفية للعالم؟ سوف يدفع هولدرلين ثمن هذا الخروج، هذا العبور الصعب غالياً. سوف يكلفه نزيفاً حاداً. وهو السؤال ذاته المطروح على المثقفين العرب حالياً.
من هذه الناحية فإن مسافة التفاوت التاريخي بين أوروبا والعالم العربي أو الإسلامي ككل تبلغ مائتي سنة على الأقل. نضيف بأن الصراع الطائفي بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين كان لا يزال هائجاً مشتعلاً في ألمانيا آنذاك. وكان يقلقه أيضاً ويؤلمه. الآن لم يعد له وجود بفضل الاستنارة العقلية والتقدم الهائل والمعارك الطاحنة التي خاضها الفلاسفة والأدباء والشعراء في أوروبا على مدار ثلاثة قرون متواصلة. انظروا بهذا الصدد «المانيفست الأول للفلسفة المثالية الألمانية»، وهي أعظم فلسفة ظهرت في العصور الحديثة. ومن الذي كتبه: هل هو هولدرلين أم هيغل أم شيلنغ؟ لا يهم. الثلاثة كتبوه حوالي عام 1796. وماذا يقول؟ باختصار شديد ما يلي: «لا يمكن لألمانيا أن تنهض فعلاً إلا بعد بلورة فهم جديد كلياً للدين المسيحي. ينبغي بأي شكل الخروج من الفهم القديم الجامد المتحجر. وينبغي بشكل خاص أن نتحرر من الفهم الطائفي الضيق المتعصب الراسخ في العقلية الجماعية رسوخ الجبال. وإلا فلن يحصل التحرير الكبير، ولن تحصل النهضة الألمانية المنتظرة».
بهذا المعنى، وبتصرف. والآن بالله عليكم أسألكم: عم يتحدث هذا النص التاريخي بالضبط: عن الأمة الألمانية في القرن الثامن عشر، أم عن الأمة العربية في القرن الحادي والعشرين؟ أترك لكم حرية الجواب.
لكن ماذا عن شعر هولدرلين؟ لقد كان رومانطيقياً مهووساً بالطبيعة: أي بتعاقب الفصول والسنين، بمواسم الحصاد والقطاف، بالنمو والانحطاط، بالحياة والموت، بالفرح والألم، بالبرق والرعد، بالأزهار والأشجار، بكل شيء. لنستمع إلى هذا المقطع القصير الذي قد يتجاوز كل شعر:
آه ما أجمل سطوع الشمس وأزهار الأرياف!
الأيام تجيء، مفعمة بالأزهار، الأيام ناعمة، وديعة.
المساء أيضاً له أزهاره. والنهارات المضيئة
تنزل من السماء
هناك حيث تولد الأيام...
ولنستمع إلى هذا المقطع أيضاً من قصيدة بعنوان: «تماماً، كما في يوم الراحة»:
تماماً، كما في يوم الراحة، الفلاح
يخرج مع الفجر لكي يتفقد حقله
بعد تلك الليلة الليلاء المشتعلة بأنوار البرق،
رسول النداوة والطراوة،
البرق الذي تساقط بلا توقف طوال الليل.
ولا يزال في البعيد يزمجر صوت الرعد،
والنهر يعود إلى شواطئه،
والأرض الندية تخضوضر،
وتحت المطر الغزير للسماء،
الكرمة تختلج مشبعة بالماء، وأشجار الروضة
تلمع تحت شمس هادئة.
هذا هو هولدرلين الذي أتحفنا، أضاء لنا الطريق، أكاد أقول جن من أجلنا أو نيابة عنا على فرض أننا لسنا مجانين! لقد وصل بالأدب الألماني إلى قمة القمم شعراً ونثراً. ولكنه كان يعاني من عذاب نفسي حاد ظل يصارعه كالتنين حتى آخر لحظة قبل أن يستسلم له ويغطس رويداً رويداً في بحر الجنون.



مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).