مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو

شهدت 4 رؤساء و3 انقلابات عسكرية خلال أقل من 10 سنوات

مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو
TT

مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو

مالي... حلبة صراع بين باريس وموسكو

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالأمس، أن عملية «برخان» العسكرية التي يخوضها جيش بلاده في منطقة الساحل الأفريقي، بما فيها جمهورية مالي، ستنتهي في غضون أسابيع، لتتحول وفق «تغيير عميق» إلى تحالف دولي لمكافحة المتطرفين في المنطقة. وأوضح ماكرون خلال مؤتمر صحافي: «في نهاية المشاورات (...) سنبدأ تغييرا عميقا لوجودنا العسكري في منطقة الساحل»، مؤكدا نهاية «برخان» وإبدال ما سماه تحالفا دوليا يضم دول المنطقة بها.
لقد بدأ التدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل في يناير (كانون الثاني) 2013، بعملية «سيرفال» لطرد تنظيم «القاعدة» من شمال مالي، لتتحول في أغسطس (آب) 2014 إلى عملية «برخان» التي يبلغ قوامها 5100 جندي فرنسي وتنشط في دول الساحل الخمس، موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو. ومما ذكره ماكرون إنه في غضون أسابيع ستعلن عن آليات وأجندة لإنهاء هذه العملية العسكرية، وتحويلها إلى قوة دعم للجيوش المحلية الراغبة في ذلك. وكان قد سبق للرئيس الفرنسي أن أعلن خلال العام الماضي رغبته في تقليص عدد القوات الفرنسية الموجودة في الساحل الأفريقي لمحاربة الجماعات الإسلامية المسلحة. كذلك هدد ماكرون بالانسحاب من مالي بعد الانقلاب الذي وقع فيها نهاية مايو (آيار) الماضي. وفي أي حال، يأتي هذا القرار في ظل تصاعد تيار مناهض للوجود العسكري في مالي وبعض دول غرب أفريقيا، ومطالب متصاعدة في مالي، بالذات، بضرورة التعاون العسكري مع روسيا.
عندما انقلب ضباط من الجيش في مالي على الرئيس الانتقالي، نهاية مايو (أيار) الماضي، خرجت مظاهرة مؤيدة لتحركهم، كان في مقدمتها شاب يرفع لافتة تطالب برحيل فرنسا التي تنشر 5100 جندي في البلد لمحاربة الإرهاب، ولكن الشاب المتحمس يقترح إبدال روسيا بفرنسا، لأنه مقتنع بأن مالي عاجزة عن الوقوف وحدها، وعليها أن تختار الوصي عليها من بين القوى العظمى.
مالي، التي تحمل اسم واحدة من أعرق الإمبراطوريات التاريخية في غرب أفريقيا، استقلت عن فرنسا عام 1960. ولكن منذ ذلك الوقت عجز الماليون عن إقامة مشروع «الدولة الوطنية»، بسبب الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، والفشل في تحقيق الوحدة الوطنية بين الجنوب الذي تقطنه قبائل الماندينغ الأفريقية، والشمال الذي يقطنه الطوارق والعرب. ومنذ 2012 دخلت مالي في منعرج خطير، حين سيطر تنظيم «القاعدة» على ثلثي مساحة البلاد في الشمال، وبدأ يزحف نحو العاصمة باماكو في الجنوب. حينها قاد ضباط من أصحاب الرتب المتوسطة انقلاباً عسكرياً أطاح بالرئيس الراحل أمادو توماني توري، لتدخل البلاد في مرحلة انتقالية قادها الرئيس ديونكوندا تراوري، الذي استغاث في شهر يناير (كانون الثاني) 2013 بالرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، طالباً منه التدخل عسكرياً لمنع سقوط العاصمة باماكو في أيدي الإرهابيين، فأطلق هولاند عملية «سيرفال» العسكرية، التي ما تزال مستمرة حتى اليوم تحت اسم «برخان».
طيلة هذه السنوات كان الفرنسيون يتحدثون عن تكاليف بشرية ومادية باهظة للحرب على الإرهاب في مالي، ويعلنون بين الفينة والأخرى نيتهم الانسحاب، بيد أنهم في النهاية رفعوا عدد جنودهم من 3500 جندي عام 2013. ليصل عام 2020 إلى أكثر من 5100 جندي، ونجح الفرنسيون في تصفية عشرات القادة البارزين في «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، من أبرزهم أمير التنظيم عبد المالك دروكدال.
وخلال شهر سبتمبر (أيلول) 2013 نصّب الماليون إبراهيم بابكر كيتا رئيساً جديداً للبلاد، وكانت مهمته الأولى هي حل المعضلة الأمنية. غير أنه لم ينجح في ذلك رغم أن الماليين أعادوا انتخابه عام 2018، وبعد مرور سنتين من ولايته الثانية و7 سنوات من حكمه، نفد صبر الماليين حين أدركوا أنه بدّل الحرب على «القاعدة» في جبال وعرة بأقصى الشمال، بالمواجهة في وسط البلاد وفي الجنوب. ودخل «تنظيم داعش» المنطقة بقوة، وتكرّس الشرخ الاجتماعي والعرقي في البلاد، وانهار الاقتصاد، فخرجت مظاهرات وبدأ عصيان مدني.
لقد اقترنت معارضة الرئيس كيتا بالموقف المعادي لفرنسا، لأن كيتا في نظر أغلب الماليين هو الرئيس الذي جلبه الفرنسيون، كما أن فشله في تحقيق الأمن هو فشل للجيش الفرنسي. وبالتالي، فإن الانقلاب الذي أطاح بكيتا في أغسطس (آب) الماضي، رافقته مطالب صريحة بطرد القوات الفرنسية. إلا أن فرنسا عارضت انقلاب أغسطس، ودعت الضباط الذين قادوه إلى تسليم الحكم للمدنيين والعودة إلى الوضع الدستوري. وعندها قرر الجيش تعيين رئيس مدني انتقالي، هو باه أنداو، على أن يكون زعيم الانقلاب الكولونيل أسيمي (هاشمي) غويتا، نائباً للرئيس الانتقالي، وحُددت مهلة 18 شهراً لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في البلاد.
ولكن عند منتصف المسافة، بعد مرور 9 أشهر من هذه المهلة، وقعت الانتكاسة. إذ قرر الوزير الأول، بموافقة من الرئيس الانتقالي، يوم الاثنين 24 مايو (أيار) الماضي مباشرة بعد عودة الرئيس من زيارة إلى باريس، إعفاء وزيري الدفاع والأمن الوطني من منصبيهما، وهما ضابطان من أبرز قادة انقلاب أغسطس الماضي. على الإثر، وقع انقلاب جديد، وصفه وزير الخارجية الفرنسي بأنه «انقلاب داخل انقلاب»، أما الرئيس إيمانويل ماكرون فقد هدّد بسحب قواته من مالي، وأعلن رسمياً تعليق التعاون العسكري «مؤقتاً» مع الجيش المالي. واليوم، يتحدث الماليون عن محاولة باريس قلب الطاولة على ضباط محسوبين على موسكو، حين أوعزت إلى الرئيس الانتقالي بإقالتهم من الحكومة، وإبعادهم عن مركز اتخاذ القرار، لكن الضباط كانوا أسرع منه... فأقالوا الرئيس وتحكّموا في مقاليد الحكم.

حلبة الصراع
لم يعد الصراع بين باريس وموسكو في أفريقيا جنوب الصحراء صراعاً خفياً، خاصة بعدما أصبحت روسيا اللاعب الأقوى في جمهورية أفريقيا الوسطى، التي علقت باريس المساعدات التي كانت تقدم لها وأوقفت التعاون العسكري معها، في أعقاب اتهام حكومتها بـ«التواطؤ» في حملة معلومات مضللة ضد باريس تدعمها روسيا. ويعتقد الصحافي الموريتاني موسى ولد حامد، المدير الناشر لصحيفة «بلادي» الناطقة باللغة الفرنسية، أن «روسيا تحاول منذ سنوات دخول أفريقيا جنوب الصحراء، وقد اقتربت بالفعل من أن تنتزع جمهورية أفريقيا الوسطى من النفوذ التقليدي الفرنسي. وعلى الرغم من وجود قاعدة عسكرية فرنسية في هذا البلد، فإن مَن يباشر الحياة السياسية والأمنية هم الروس وأعوانهم، وهناك أكثر من 3 آلاف مقاتل من مجموعة فاغنر (الأمنية) الروسية».
ويرى الصحافي الموريتاني، المتابع لتطور الأحداث في أفريقيا منذ أكثر من عقدين، أن «لدى روسيا خطة محكمة لزيادة نفوذها في أفريقيا، وخاصة مناطق النفوذ الفرنسي». ويؤكد أن التحرك الروسي أخذ أبعاداً دبلوماسية وعسكرية وأمنية، حتى إعلامية، وهو يقوم على استغلال أخطاء الفرنسيين وتحريك مشاعر عدوانية تجاه فرنسا، عبر إحياء ذكريات حقبة الاستعمار.
في المقابل، من المؤكد أن الفرنسيين لن يخسروا معركة النفوذ في هذه المنطقة بسهولة، وهذا ما يؤكده الباحث السياسي المالي الدكتور فاكابي سيسوكو، الذي يعتبر أن الماليين الذين يطالبون بطرد القوات الفرنسية «يتجاهلون أن فرنسا ترسل أبناءها للموت في مالي منذ نحو 10 سنوات، إنها لا تفعل ذلك من أجل عيون الماليين، وإنما لحماية مصالحها».
أما الناشطة السياسية الشابة آدام ديكو، التي تقود جمعية شبابية لترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية في مالي، فتعتقد أن «فرنسا لن تتنازل عن مالي، لأنها بوابة تسعى الدول العظمى دخول المنطقة عبرها، وفرنسا تريد التحكم في هذه البوابة».
لكن ولد حامد يرى أن إدارة الرئيس ماكرون في «وضعية حرجة ومأزق حقيقي»، ويفسر ذلك بأن «فرنسا مقبلة على انتخابات رئاسية في غضون عام، وهو ما يحد من الخيارات أمام ماكرون، فلا يمكنه التصرف كما يحلو له»، ومن جهة أخرى «تعرضت السياسات الفرنسية في الساحل لضربة قوية بعد مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي، وما أعقبه من انقلاب عسكري وأوضاع غير مستقرة، في بلد كانت تراهن عليه فرنسا في حربها على الإرهاب».
وتابع الصحافي الموريتاني أن «خروج تشاد من المشهد وضع الفرنسيين في ورطة، لأن مالي وبوركينا فاسو والنيجر ليست دولاً قادرة على أن تكون حليفة في الحرب على الإرهاب. وأكبر مشكلة واجهت الفرنسيين منذ تدخلهم العسكري هي أن مالي نفسها غير موجودة، ولم تنجح في أن تكون شريكاً في هذه الحرب، فهي لا تملك جيشاً ولا سلطة سياسية ثابتة تتمتع بالشرعية. أما موريتانيا فهي البقعة الهادئة الوحيدة في المنطقة، لكن بؤر التوتر تحيط بها من كل جانب».
وهكذا أصبح المستقبل غامضاً أمام مشروع مجموعة دول الساحل الخمس، الذي أسس برعاية فرنسية عام 2014. وهو ما يعقد الأمور أكثر بالنسبة لفرنسا. بل إن الأوضاع ساءت أكثر حين برز التيار المعادي لفرنسا، وتغلغل في الشارع المالي. وهو ما يفسره الصحافي الموريتاني بأنه «موقف نابع من اعتقاد الماليين بأن فرنسا موالية لحركات الطوارق في الشمال، التي تطالب بالانفصال».

حضن «الدب الروسي»
الشاب قاسم كوليبالي يقود حالياً مبادرة سياسية شبابية لدعم الانقلاب الأخير في مالي، وهو ينشط من أجل تدخل عسكري روسي في مالي، مبرراً ذلك بأن «روسيا ستكون شريكاً أفضل لنا. علاقاتنا معها قديمة جداً، ولكن يجب إعادة إحيائها، ووضعها في نفس مستوى التعاون الذي يربطنا مع الشركاء الآخرين، وخاصة فرنسا». ويضيف كوليبالي أنه نظّم رفقة مجموعة من الشباب «المتطوّعين» حملات إعلامية وجولات ميدانية من أجل «شرح الوضع الجيو استراتيجي الصعب الذي توجد فيه مالي، كما وجّهنا رسائل إلى السفارة الروسية في باماكو، وأجرينا اتصالات مع العاملين فيها، لإقناع موسكو بضرورة التحرك جدياً لمساعدة مالي».
وخلال النقاشات التي يجريها كوليبالي مع الماليين في الشوارع، ومع وسائل الإعلام المحلية، فإنه يستحضر موقف الزعيم الاستقلالي الراحل موديبو كيتا، أول رئيس لدولة مالي بعد استقلالها عن فرنسا عام 1960. وكان موديبو كيتا اشتراكياً حتى النخاع، وربطته علاقات قوية مع الاتحاد السوفياتي، وحصل من موسكو على تمويلات كبيرة خلال حقبة الستينات، على حد تعبير قاسم كوليبالي. وفي الوقت ذاته يهاجم كوليبالي الفرنسيين، فيقول: «من الواضح أننا لم نحقق أي نتائج إيجابية من التعاون مع فرنسا والاتحاد الأوروبي. وبعد مرور 10 سنوات تقريباً على الوجود العسكري الفرنسي في الأراضي المالية، الوضع يزداد سوءاً، ولا يمكننا أن نستمر في هذا التوجه»، بل إنه يتفاءل أكثر حين يقول إن «الشراكة مع روسيا من شأنها أن تسرّع في القضاء على الإرهاب».
في المقابل، الناشط السياسي بصيرو بن دومبيا، لديه وجهة نظر مختلفة، إذ يقول: «لا أعتقد أن مغادرة فرنسا ستنهي الإرهاب، حتى مجيء روسيا لن ينهيه. الأزمة أعمق من ذلك، ولكن يجب أن ندرك أنه في مجال التعاون العسكري لا شيء مجاني. وروسيا التي ترتفع المطالب بدخولها إلى مالي، هي التي تدخّلت في سوريا لمنع سقوط نظام بشار الأسد، وهي تدخلت عبر شركات أمنية خاصة، ولم تطلق رصاصة ولا صاروخاً إلا وهناك فاتورة ستدفع مقابله، إنهم تجّار ولا يعطون بالمجّان».
في هذا السياق، يوضح الصحافي الموريتاني موسى ولد حامد أن «روسيا مختلفة عن بقية القوى العظمى الحاضرة في أفريقيا، فهي لا تبحث عن الثروات أو الخيرات أو المواد الأولية، بل تبحث عن سوق لبيع الأسلحة، ومالي تمثل واحدة من أكبر هذه الأسواق في أفريقيا». وهذا ما يعني أن توطين الإرهاب في مالي ومنطقة الساحل، يخدم روسيا أكثر من القضاء عليه. ثم يتابع، أن روسيا والصين «قدمتا أكبر خدمة لقادة انقلاب باماكو، حين اجتمع مجلس الأمن الدولي للحديث عن انقلاب مالي، ولم يتمكن من اتخاذ أي قرار ضد الانقلابيين، بسبب روسيا والصين. وهذا ما أثار الشكوك حول العلاقة بين الانقلابيين وموسكو، خاصة أن هناك من يشير إلى ضباط شباب، من قادة الانقلاب الأخير، تربطهم علاقات وطيدة بروسيا... وسعى عدد منهم لإبرام صفقات سلاح مع موسكو، كانت مثار جدل واسع في الإعلام الفرنسي والمالي».
ورغم الدعوات المتزايدة بضرورة انسحاب فرنسا ودخول روسيا إلى مالي، يرفض المحامي المالي عمر كوناري ذلك السيناريو، فيعلّق: «أنا لست مع الانسحاب المفاجئ للقوات الفرنسية، كما أنني لست مع مجيء مفاجئ وفوضوي للقوات الروسية. موقفي هو أن يكون هناك تفكير معمق للتوصل إلى مخرج يوافق عليه الجميع، مع رفض الخضوع لضغط الشارع». ويقدم المحامي وجهة نظر بدأت تتردد كثيراً في الشارع المالي، وهي إمكانية التعايش بين باريس وموسكو في مالي، ضمن إطار تحالف دولي لمحاربة الإرهاب. ويوضح المحامي أن «الأراضي المالية شاسعة، وفي حين يوجد الفرنسيون والأوروبيون في الشمال والشرق، يمكن لروسيا أن تتدخل عسكرياً في الجنوب أو الغرب... وهذا مهم لمحاربة الإرهاب».
ختاماً، وباختصار، ما يخشاه الماليون هو العودة دوماً إلى المربع الأول. فخلال أقل من 10 سنوات مرّ على البلد 4 رؤساء، و3 انقلابات عسكرية، واقتراعان رئاسيان. وفي كل مرة، عادت الأمور أسوأ مما كانت عليه، وثمة أصوات قليلة تدعو إلى البحث عن «خلل بنيوي» يجب تصحيحه، داعية إلى «إعادة تأسيس» الدولة وفق عقد اجتماعي جديد. هذا على الأرجح ما يراه الماليون، إلا أن القرار سينتظر حسم الصراع بين «الديك الفرنسي» و«الدب الروسي» و«التنّين الصيني» في صحراء مالي الغنية بالعواصف.

أرض مالي الملغّمة!
> مالي التي تحولت إلى ساحة لصراع القوى العظمى، ينتظرها «مستقبل غامض» حسب رأي الصحافي الموريتاني موسى ولد حامد، وبالتالي فإنها لن تكون شريكاً جاداً لأي طرف دولي، سواء كان فرنسا أو روسيا، وإنما قد تكون ساحة للصراع أو سوقاً للبيع.
ويضيف ولد حامد: «لا أعتقد أن الماليين قادرون على الخروج من هذه الأزمة في المنظور القريب، لأنها أزمة داخل كثير من الأزمات. فالبلد يعاني معضلة في التماسك الاجتماعي، وتشكلت هويات صغرى أقوى من الهوية الوطنية. وبالتالي أصبحت الأرضية في مالي ملغّمة، والسلطة المركزية فاقدة للشرعية وغير مستقرة، والطبقة السياسية هشة، والجيش غير موجود، إنها دولة يمكن وصفها بالفاشلة».
ولكن ولد حامد يعتقد أن أخطر ما تواجهه مالي في المستقبل القريب هو «غياب شخصيات سياسية محورية قادرة على أن تجمع الناس، ما عدا الإمام محمود ديكو الذي لا يثق فيه الفرنسيون، ولكنهم قد يضطرون للقبول به، مع أنه لا يملك خطة للخروج بمالي من هذه الوضعية».
أما الناشطة السياسية الشابة آدام ديكو، التي تقود جمعية شبابية لترسيخ قيم المواطنة والديمقراطية في مالي، فتتمسك بالأمل وتعتقد أن الشرط الأول للخروج بمالي من هذه الوضعية هو «احترام المهلة المحددة للفترة الانتقالية، لأن ما نخشاه هو بقاء الانقلابيين في الحكم». وتضيف أن «الفترة الانتقالية ليس مطلوباً منها أن تحل جميع مشكلات مالي، لأن الإصلاح عملية تتطلب الوقت».
ومن جانبه، لا يولي الدكتور فاكابي سيسوكو أي اهتمام للمدة الزمنية للفترة الانتقالية، بل يعتقد أن تنظيم انتخابات شفافة وديمقراطية هو الأهم، ويقول في هذا السياق: «حين نشاهد عسكريين قادرين على اقتحام المجال السياسي بهذه الطريقة، وإقالة رئيس انتقالي هم من اختاروه، وفق آليات هم من وضعوها... فما هو الضامن أنهم لن يعودوا في نهاية الفترة الانتقالية لتغيير قواعد اللعبة من جديد، فيقلبوا نتائج الانتخابات الرئاسية حين يهزم مرشحهم؟ وما هو الضامن بأنهم لن يقرروا في النهاية تمديد الفترة الانتقالية بطريقة أحادية ببساطة، لأنهم يملكون السلاح؟».



قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
TT

قمة «بريكس» تسهم في التفاهم على خفض التوتر بين الهند والصين

لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)
لقطة جامعة لحضور قمة "البريكس" في قازان (رويترز)

جاء الإعلان عندما أبلغ وزير الخارجية الهندي فيكرام ميسري وسائل الإعلام أن «الهند والصين توصلتا إلى اتفاق على طول خط السيطرة الفعلية»، ولم يلبث أن أكد لين جيان، الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية، إبرام الاتفاق.

يُذكر أن المواجهة على امتداد «خط السيطرة الفعلية» (الحدودي)، بدأت بمناوشات بين القوات الهندية والصينية على ضفاف بحيرة بانغونغ خلال مايو (أيار) 2020. ثم توترت العلاقات بين البلدين بعد اندلاع اشتباكات مميتة في يونيو (حزيران) 2020 – تضمنت استخدام الصخور والقضبان الحديدية وتبادل اللكمات - حول نهر غالوان، الواقع على ارتفاع كبير، وبانغونغ تسو في إقليم لاداخ؛ ما أسفر عن مقتل 20 جندياً هندياً، إلى جانب عدد غير معروف من القوات الصينية، قدّرته وسائل إعلام روسية بما يتجاوز 40. سقوط أول الضحايا على «خط السيطرة الفعلية» منذ 45 سنة دفع العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوى لها منذ حرب الحدود عام 1962. وأدّت التدابير المضادة القوية للهند، والوجود العسكري الكثيف لها، إلى مواجهة حدودية استمرت لأكثر من أربع سنوات، مع تمركز أكثر من 50 ألف جندي على الجانبين. ومن ناحيته، أكد الجانب الهندي أن مجمل العلاقات مع الصين «يتعذر تطبيعها من دون إقرار حالة من السلام والهدوء على الحدود» بينهما.

«خط السيطرة الفعلية»... نقطة اشتعال تاريخية

يكمن السبب الجذري للصراع بين الهند والصين، في حدودهما المشتركة الممتدة لمسافة 3440 كيلومتراً، والتي يشار إليها عادةً باسم «خط السيطرة الفعلية». ولطالما كانت هذه الحدود الجبلية غير المحدّدة على نحو واضح، ولا سيما أنها تمر عبر تضاريس وعرة، مصدراً دائماً للتوتر بين القوتين النوويتين. وبعكس الحدود الدولية التقليدية، يشكل «خط السيطرة الفعلية» خط الحدود بين الصين والهند فقط «بحكم الأمر الواقع»؟ ذلك أن ثمة تبايناً كبيراً بين البلدين حيال تصوره وتعريفه.

تاريخياً، لدى كل من الهند والصين وجهة نظر خاصة مختلفة بشأن ترسيم خط السيطرة الفعلية؛ الأمر الذي أدى إلى اشتعال نزاعات متكرّرة حول السيطرة على النقاط الاستراتيجية على طول الحدود. وبناءً عليه؛ ما دفع إذن باتجاه هذا التطور الإيجابي في العلاقات؟

في هذا الصدد، أعرب الصحافي الهندي جواراف ساوانت، الذي يزور روسيا حالياً لتغطية أخبار مجموعة «البريكس»، عن اعتقاده بأن بين العوامل وراء ذوبان الثلوج بين نيودلهي وبكين «انتخابات الشهر المقبل في الولايات المتحدة». وشرح أن «السباق الانتخابي (الأميركي) متقارب، وثمة احتمال واضح لعودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض». وأردف أن تراجع مستوى التوتر بالعلاقات بين البلدين سيخدم كلاً منهما. ومن وجهة نظر الصين، فإن قيادة هندية تسعى إلى سياسة خارجية مستقلة منفصلة عن المصالح الغربية أفضل بالتأكيد لبكين.

أهمية قمة «البريكس»

والآن، لماذا تشكّل قمة «البريكس» السادسة عشرة لحظة مهمة، في الدبلوماسية العالمية؟

في الواقع، للمرة الأولى منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا اجتمع عدد كبير من قادة العالم في روسيا، وهو ما فُسّر بأنه فشل للمحاولات الغربية في عزل موسكو، وهذا أمر قد يؤثر كذلك على توازن القوى العالمي. ثم إنه يدور موضوع قمة هذا العام حول «تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين».

معلومٌ أن مجموعة «البريكس» انطلقت، بداية الأمر، من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب إفريقيا. إلا أنها سرعان ما برزت منصةً رئيسية للتعاون الاقتصادي والسياسي العالمي. وفي عام 2023، انضم أعضاء جدد للمجموعة، بينهم المملكة العربية السعودية، وإيران، ومصر والإمارات العربية المتحدة؛ ما جعلها أكثر شمولاً.

واليوم، مع ناتج محلي إجمالي يبلغ 60 تريليون دولار، تمثل دول «البريكس» 37.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة بذلك «مجموعة الدول السبع». ومع مواصلة «البريكس» توسعها، كبر دورها وازداد وضوحاً على صعيد إعادة تشكيل ديناميكيات القوة العالمية. وهنا أضاف الصحافي الهندي ساوانت أن «هذا النوع من الود الذي يتأمله الهنود والروس والصينيون على الأرض - إلى جانب آخرين داخل (البريكس) - من شأنه أن يثير قلق الغرب»، مشيراً إلى أن مودي وشي سيعقدان لقاءً ثنائياً على هامش القمة.

ولجهة مسألة «العزلة»، تكشف قمة «البريكس» عن أن روسيا بعيدة كل البعد عن العزلة، لدى توجه قادة من مختلف الدول إلى قازان للمشاركة في مناقشات يمكن أن تشكل مستقبل الحكم العالمي. واللافت، طبعاً، أن القمة لم تجتذب حلفاء روسيا المقربين فحسب، بل اجتذبت أيضاً عدداً من الدول التي تتطلع إلى تعزيز العلاقات مع موسكو.

قمة «البريكس» المنعقدة لثلاثة أيام، وسط إجراءات أمنية مشددة، تعد أكبر حدث دولي تستضيفه روسيا منذ أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواته بغزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. وفي حين يسعى بوتين، صراحةً، إلى بناء تحالف من خلال «البريكس» قادر على تحدّي «هيمنة» الغرب، صرّح رئيس الوزراء الهندي مودي أثناء زيارته روسيا بأن زيارتيه إلى روسيا في الأشهر الثلاثة الماضية «تعكسان التنسيق الوثيق والصداقة العميقة بين البلدين». وأضاف: «لقد عزّزت قمتنا السنوية في موسكو في يوليو (تموز)، تعاوننا في كل المجالات... وفي غضون 15 سنة، بنت مجموعة (البريكس) هويتها الخاصة. واليوم، تسعى الكثير من دول العالم للانضمام إليها».

وحول الموضوع الأوكراني، من وجهة نظر هندية، يرى المحلل السياسي سوشانت سارين أنه «على الصعيد الدبلوماسي، سار مودي على حبل مشدود منذ بدء الصراع في أوكرانيا... إذ تعهّدت نيودلهي بتقديم الدعم الإنساني لكييف، لكن مع تجنب الإدانة الصريحة للهجوم الروسي بالوقت ذاته. ثم في يوليو، زار مودي موسكو، أعقب ذلك بزيارة إلى كييف خلال أغسطس (آب)، داعياً إلى عقد مباحثات لإنهاء الصراع. وأثمرت جهوده بالفعل إلى دعوات إلى أن تضطلع الهند بدور وسيط بين الجانبين».

كذلك، مع إعراب مودي عن دعم الهند «حل عاجلاً» للوضع في أوكرانيا، ومعه مختلف جهود إرساء السلام والاستقرار، خاطب الزعيم الهندي نظيره الروسي قائلاً في حديث بينهما: «كنا على اتصال دائم بشأن الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ونعتقد أن النزاعات يجب أن تُحل سلمياً فقط. ونحن ندعم تماماً الجهود الرامية إلى استعادة السلام والاستقرار سريعاً... وكل جهودنا تعطي الأولوية للجوانب الإنسانية».

الرئيس الروسي يلقي كلمته في القمة (رويترز)

من جهتها، أضافت مصادر بوزارة الشؤون الخارجية الهندية، على صلة بمكتب «البريكس» أن «المناقشات حول إقرار عملة للـ(بريكس)، لتحدي هيمنة الدولار الأميركي تكتسب زخماً. كما تقدّم القمة منصّة للدول تعينها على توحيد صفوفها ضد العقوبات التعسفية التي يفرضها الغرب. ومع توسع (البريكس) وتطورها، بات من الواضح أن هذه المجموعة تستطيع أن تلعب دوراً مركزياً في تشكيل نظام عالمي جديد، وتحدي الهيمنة الغربية التقليدية. وسيكون دور الهند في (البريكس)، إلى جانب علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، أساسياً في تحديد كيفية تطور هذا التوازن الجديد للقوى».

لقاء محتمل بين مودي وشي

وعودة إلى موضوع العلاقات الهندية - الصينية، ذكّر الصحافي مانيش جها، بأنه «لم يعقد الطرفان مباحثات رسمية ثنائية منذ عام 2019؛ ولذا فإن أي تقارب اليوم سيكون تطوّراً محموداً... وسيحظى بمتابعة أميركية من كثب». وأضاف جها: «الواضح أن واشنطن استغلت فتور العلاقات بين مودي وشي للتقرّب من نيودلهي، وتعزيز التجمّعات الإقليمية مثل مجموعة (الكواد «الرباعية»)، التي تضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، مع العمل على الضغط على الهند للانضمام إلى العقوبات ضد روسيا؛ الأمر الذي رفضته نيودلهي حتى الآن». ثم تابع: «لا يمكن تجاهل دور روسيا بصفتها وسيطاً في هذه العملية، ذلك أنها تظل شريكاً استراتيجياً رئيسياً لكل من الهند والصين. ورغم التحديات التي تفرضها الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حافظت الهند على علاقة متوازنة مع روسيا؛ ما يضمن بقاء مكانتها على الساحة العالمية قوية».

في الحقيقة، هذا الوضع مربح لكل من الهند والصين. فبالنسبة للصين، التي تمرّ بفترة ركود اقتصادي، سيكون استئناف النشاط الاقتصادي الطبيعي مع الهند بمثابة مكافأة. وبسبب حروب التعرفات الجمركية مع الولايات المتحدة - التي بدأت مع إدارة دونالد ترمب واستمرت خلال رئاسة جو بايدن - بدت بكين حريصة على استئناف العلاقات الاقتصادية مع نيودلهي، بينما يواصل القادة الميدانيون العسكريون والدبلوماسيون مناقشة وحل السقطات التي وقعت عام 2020، وهذا رغم إصرار نيودلهي على عدم استئناف العلاقات الطبيعية مع بكين إلى حين تسوية القضايا العالقة منذ وقوع المواجهات العسكرية ذلك العام.

في هذه الأثناء، تراقب واشنطن التطوّرات. وفعلاً صرّح ناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، بأن واشنطن تتابع هذه التطورات (في العلاقات الهندية – الصينية عن قرب». لكن الوزارة لم تذكر ما إذا كانت نيودلهي قد أبلغت واشنطن - الشريك الجيوسياسي الرئيسي – بالاتفاق.

في هذا السياق، نشير إلى أنه منذ مواجهات عام 2020، عززت نيودلهي علاقاتها مع واشنطن لمواجهة ما تعتبره الدولتان «تحركات بكين العدوانية ضد جيرانها». وجرى تسليط الضوء على هذه العلاقة المتعمقة من خلال توقيع «اتفاقيات التعاون الدفاعي»، بما في ذلك تقارير عن تبادل المعلومات الاستخباراتية.

ومع ذلك، ظهرت مخاوف في واشنطن بشأن التقارب المتزايد بين نيودلهي وموسكو، وخصوصاً في خضم الضغوط الغربية لعزل الرئيس بوتين دولياً، في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا.

من جانب آخر، من وجهة نظر الصين، فإن القضاء على أسباب الانزعاج من الهند قد يجعل الفلبين نقطة الاشتعال الرئيسية بسبب مطالبات إقليمية متضاربة. (إلى جانب تايوان، التي تدّعي الصين أحقية السيادة عليها). أما الهند فترى أن تحقيق انفراج في العلاقات مع الصين، أمر بالغ الأهمية؛ لأنه يتيح لها مساحة أكبر للمناورة التفاوضية مع شركائها الغربيين، خصوصاً واشنطن، في أعقاب التوتر الدبلوماسي مع كندا.