محمية طبيعية أميركية لساكن وحيد

بعدما انتصرت جماعات المحافظة على البيئة على المطوّرين العقاريين

TT

محمية طبيعية أميركية لساكن وحيد

من أعلى شجرة قديمة مطلة على حافة جرف كبير، يحظى زوج من النسور الصلعاء بمنظر بانورامي رائع لتلك الجزيرة الصغيرة المستقرة داخل مضيق «خوان دي فوكا» قبالة سواحل ولاية واشنطن الغربية في الولايات المتحدة الأميركية. وفي بقعة سفلية بعيدة، يجلس مارتي بلوواتر، وهو الإنسان الوحيد القاطن لتلك الجزيرة النائية، على مقعد خشبي تحيط به الأعشاب الطويلة المتمايلة، ليراقب النسور الصلعاء بمنظاره من بعيد.
على مدار العقود الخمسة الماضية، كانت «جزيرة الحماية في محمية الحياة البرية الوطنية» هي موضع المراقبة الوحيد بالنسبة إلى بلوواتر. مع كثير من تراكمات الذكريات التي مر بها هناك طوال حياته. إذ يتذكر ترحيبه بستة من الغزلان التي وصلت إلى الجزيرة سباحةً من البر الأميركي الرئيسي ثم تحولت مع مرور الوقت إلى قطيع صغير لطيف من الغزلان الأليفة. ثم يتذكر أيضاً استضافته لخمسة أزواج من طيور السنونو التي اتخذت أعشاشها في موسم الربيع من كل عام، كما يذكر حفلتي الزفاف اليتميتين اللتين شهدتهما تلك الجزيرة، منهما حفلة زفافه على زوجته.
يبلغ بلوواتر من 72 عاماً من عمره، وهو الشخص الوحيد التي قضى جُل حياته على تلك الجزيرة الصغيرة التي لا تتجاوز 370 فداناً من المساحة الممتدة على طول ميلين فقط من الأراضي. كانت الجزيرة الصغيرة هدفاً للمطورين العقاريين في سبعينات القرن الماضي، الذين وضعوا لها خطط التطوير لكي تكون منتجعاً سياحياً شاطئياً يضم مرسى ومهبطاً للطائرات الصغيرة. وتحول الطيارون وقتذاك إلى مندوبين للمبيعات حيث كانوا يجوبون أنحاء الجزيرة رفقة المشترين المحتملين لاختيار قطع الأراضي التي تروق لهم. ولقد تم بيع عدة مئات من قطع الأراضي بالفعل هناك.
شاهد بلوواتر الجزيرة في عام 1971، عندما كان يبلغ من العمر 23 عاماً فقط، ووقع في عشقها منذ الوهلة الأولى. وتمكن بمساعدة من والديه من شراء قطعة أرض هناك بمبلغ باهظ للغاية وقتها بلغ 7 آلاف دولار كاملة.
يقول بلوواتر عن ذلك: «لقد طاروا بنا إلى هناك، وقدموا لنا المأكولات والمشروبات اللذيذة، وباعوا لنا الوهم على أراضي تلك الجزيرة. لقد شعرت منذ اللحظة الأولى بالخصوصية الفريدة من نوعها التي يوفرها مكان كهذا. إنها تستقر على إحدى المواضع الساحرة القليلة التي تحظى بها هذه البلاد».
بحلول عام 1973 وباستخدام المواد التي تمكّن من جلبها بالقوارب من البر الرئيسي لولاية واشنطن، شرع في بناء كابينة صغيرة على الطراز الريفي ذات إطلالة رائعة على الجبال الأولمبية ناحية الغرب، وعلى خليج ديسكفري القريب صوب الجنوب.
لكنّ أحداً لم يقتنع بالحلم الساحر الذي توفره أجواء هذه الجزيرة الصغيرة. وحاربت منظمة المحافظة على الطبيعة، رفقة منظمات بيئية وحقوقية أخرى، جهود التطور العقاري والسياحي على أراضي الجزيرة، إثر خشيتها من أن تتسبب في دمار موائل وأعشاش الطيور البحرية المتنوعة من شاكلة «طيور وحيد القرن» التي تفضل بناء أعشاشها على المنحدرات الجبلية الحادة لوضع بيضها. وكذلك طيور النورس البحرية ذات الأجنحة الزرقاء المميزة. لاقت فكرة ضرورة اعتبار الجزيرة محمية طبيعية قبولاً كبيراً عند بلوواتر، غير أنه أراد في نفس الوقت الاحتفاظ بقطعة الأرض باهظة الثمن التي يمتلكها هناك. ودخل رفقة مجموعة من الملاك الآخرين في معارك قضائية من أجل هذا الغرض.
في أثناء جلسات الاستماع العامة التي جرت في أوائل ثمانينات القرن الماضي، أدلى السيد مارتي بشهادته قائلاً: «تساورني عدة شواغل مهمة فيما يتصل بمستقبل الجزيرة. أولاً، أن تبقى الجزيرة على الدوام كما هي عليه مكاناً يحمل سمة خصوصية تميزها عن غيرها. وثانياً، عدم التضحية بحقوقي الفردية كمالك لأحد العقارات على الجزيرة. وأعتقد أن كلا الأمرين ممكن».
انتصرت حملة المحافظة على البيئة في تلك المعركة القضائية، وجرى تصنيف الجزيرة كمحمية وطنية مخصصة لحماية الحياة البرية اعتباراً من عام 1982، وعُرضت على ملاك الأراضي في الجزيرة عروض إعادة الشراء، كما عُرضت على مجموعة ممن بنوا المنازل بالفعل على أراضي الجزيرة الحق في الإقامة لفترات تتراوح بين 15 و25 عاماً أو حق الاستخدام الحصري مدى الحياة. وكان بلوواتر من بين أولئك الذين تخيروا الإقامة في الجزيرة مدى الحياة.
تعد جزيرة الحماية مغلقة أمام الجمهور في الآونة الراهنة، وينبغي على القوارب التي لم تحصل على تصريح خاص بالرسوّ على شواطئ الجزيرة أن تلتزم بالبقاء على مسافة 200 قدم من الشاطئ. يوضح بلووتر: «لا توجد جزيرة أخرى بين هذا الموضع وبين ولاية ألاسكا يمكن القول بأنها تقترب في الشبه من هذه الجزيرة الفريدة. وكان قرار التطوير العقاري أبعد ما يكون عن الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله في مثل هذا المكان الفريد. ولكنها بالنسبة لي كانت ولا تزال بمثابة الحلم البديع الذي لن أتمكن من تحقيق غيره عبر مليون سنة أخرى».
على مدار العقود الخمسة الماضية، وبمعاونة مستمرة من الأصدقاء، تمكن السيد مارتي من تحسين حالة منزله المتواضع هناك –وهو واحد من بين ستة مبانٍ أخرى لا تزال قائمة على أراضي برووتكشن آيلاند. وهناك موقد بسيط من الحطب تغذيه قطع الخشب الطافية على الشاطئ القريب يوفر الحرارة المناسبة في ليالي الشتاء الباردة. في حين يعمل موقد الطهي وسخان المياه على غاز البروبان، في غياب تام للكهرباء هناك.
يحصل بلوواتر على مستلزمات حياته عبر المرسى الصغير الذي تديره إدارة المصايد والحياة البرية الأميركية، وهي الإدارة التي تشرف على الطرق الترابية القليلة التي تمر بالجزيرة. وتساعده شاحنته القديمة في جلب المؤن والمستلزمات على طول الطريق الترابي شديد الانحدار وحتى منزله المتواضع، الذي يقع على مسافة ميل واحد من المرسى، في حين تراقبه النسور الصلعاء التي تحلق في السماء، مع فقمات المياه التي تستلقي مستمتعة على الشواطئ الرملية الهادئة. في حين تلعب ثعالب المياه في مرح وتعاود الغوص والظهور عبر الشواطئ الصخرية. وتعلن طيور النورس الزرقاء عن نفسها بالصراخ والضوضاء التي تصدرها في خلفية المشهد الطبيعي الخلاب على مدى أغلب شهور السنة.
لم تعد العزلة الشديدة تزعجه في شيء، لا سيما مع زيارات الأصدقاء التي تتكرر بين الحين والآخر، وبدرجة كافية تسمح له بالاستمتاع بحياته الخاصة الوحيدة.
ويوضح ذلك بقوله: «أشعر كأنني أعيش على مسافة مليون ميل من البر الرئيسي، مع أنني وفي غضون 20 دقيقة فقط يمكن أن أستقلّ سيارتي لأكون في وسط مدينة بورت تاونسند. ومن هواياتي المفضلة في هذا المكان تصوير مشاهد الحياة البرية المتجددة في أثناء المشي لمسافات طويلة حول أنحاء الجزيرة».
على مر السنين الطويلة، كانت حياته المهنية وعلاقاته الشخصية هي التي تحدد مقدار الوقت التي يمكنه قضاؤه على هذه الجزيرة. إذ كان يعمل لدى «إدارة متنزهات سياتل» و«حديقة حيوانات وودلاند بارك» لعدة سنوات قبل إحالته إلى التقاعد في عام 2010 كرئيس تنفيذي لدى «المؤسسة المتحدة لعموم القبائل الهندية الأميركية». ويعمل بلوواتر الشغوف للغاية بالسفر والترحال، على تقسيم وقته الحالي ما بين السكنى في الجزيرة والخروج في الرحلات البرية في مقطورته السكنية المتنقلة، إذ يسافر إلى خارج الجزيرة، ويبحر بالقوارب إلى جزر سان خوان في الشمال.
راقب بلووتر مجريات الحياة تدفقاً وانحساراً على هذه الجزيرة عبر سنوات طويلة من عمره. وشاهد بنفسه عودة النسور الصلعاء من حالة الانقراض المتصورة قبل ذلك –إذ تضاعفت أعدادها في جميع أنحاء الولايات المتحدة أربع مرات منذ عام 2009 وحتى الآن، وذلك وفقاً لتقرير حكومي صدر حديثاً– كما أنه راقب تراجع أعداد طيور النورس ونجوم البحر في نفس الفترة، ذلك الاحتمال الذي أثار لديه كثيراً من القلق.
«خلال 50 عاماً، كنت أراقب النسور التي تأتي وتغادر، ولم تكن تسبب أي مشكلة تُذكر. لكن الآن، هناك الكثير من تلك النسور، وهذا لا يسبب التوزان الطبيعي في الجزيرة. إذ إن مساحات القتل والاصطياد لديها غير محدودة من أجل تأمين الغذاء، الأمر الذي ينذر بهلاك الموارد الأخرى المتاحة على الجزيرة. لقد طاردوا طيور الغاق حتى غادرت الجزيرة تماماً، ولم تتمكن من تنشئة أي من صغارها. إنني أفتقد تلك الطيور للغاية. ولكن بقدر محبتنا للنسور وبقائها، لا بد من فعل شيء ما لإعادة التوازن البيئي إلى طبيعته».
- خدمة {نيويورك تايمز}


مقالات ذات صلة

الأرض «تضمد جروحها» بعد الزلازل القوية

علوم يؤكد الباحثون أن الصدوع التي تقع على أعماق سحيقة في باطن الأرض يمكن أن تلتحم من جديد بعد انكسارها نتيجة الهزات الأرضية (بيكسباي)

الأرض «تضمد جروحها» بعد الزلازل القوية

توصل فريق من علماء الجيولوجيا في الولايات المتحدة إلى أن الصدوع الزلزالية العميقة في باطن الأرض يمكن أن تلتئم في غضون ساعات بعد حدوث الهزات الأرضية القوية.

«الشرق الأوسط» (سان فرنسيسكو)
يوميات الشرق السلحفاة «غرامّا» تأكل جذع موز في حديقة حيوان سان دييغو بالولايات المتحدة 17 مايو 2023 (أ.ب)

نفوق السلحفاة «غرامّا» الشهيرة عن عمر 141 عاماً

نفقت «غرامّا»، السلحفاة العملاقة التي عاشت أكثر من 141 عاماً، في حديقة سان دييغو بأميركا، بعدما أصبحت رمزاً محلياً وواحدة من أقدم السلاحف المعروفة عالمياً.

«الشرق الأوسط» (سان دييغو (الولايات المتحدة))
يوميات الشرق طائر حائر في منتصف النهار يتصرَّف كما لو أنّ الفجر عاد (رويترز)

غابت الشمس 4 دقائق فظنَّت الطيور أنّ الفجر عاد!

درس العلماء آثار الكسوف في الطيور التي تسترشد في تحرّكاتها اليومية والموسمية على نحو كبير بضوء الشمس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق انتظار الحافلة يصبح موعداً مع الفنّ (فيسبوك)

انتظار الحافلة لم يعد مملاً... محطات تتحوّل إلى لوحات في مدينة إنجليزية

حوَّل مشروع فنّي 4 محطات انتظار حافلات إلى تصاميم تحتفي بتراث البلدة وطبيعتها المحلّية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «الكارياريا» بطل الطيور (أ.ب)

الصقر الأسرع في سماء نيوزيلندا يحصد لقب «طائر العام»

تُوِّج الصقر النيوزيلندي فائزاً بمسابقة «طائر العام» السنوية في البلاد، حاصداً 21 في المائة من الأصوات الصحيحة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».