جورج وسوف... «ياه عالزمن» وتبدُّل الناس

غنّى للشفاء في «مكملين معاكم» ولإرادة الحياة

جورج وسوف في «مكملين معاكم»
جورج وسوف في «مكملين معاكم»
TT

جورج وسوف... «ياه عالزمن» وتبدُّل الناس

جورج وسوف في «مكملين معاكم»
جورج وسوف في «مكملين معاكم»

أطلق جورج وسوف أغنيته الجديدة «ياه عالزمن»، وقال بالمختصر المفيد: «من وحي هذه الأيام»، غدرٌ وتقلّبات وقسوة قلوب. سلّم قيادة الفيديو كليب لفادي حداد، فقدّم قصة مؤلمة: أم وأب يربّيان ابنهما، وحين يدور دولاب الزمن ويبتسم الحظ، يُبادلهما الوفاء بالنكران. «ياه عالزمن والدنيا واللي بتعملو، ليه الحياة بتخلّي ناس يتبدّلو». صدقُ الكلام لأحمد المالكي، واللحن الجريح لمصطفى شكري. يتولّى أحمد أمين التوزيع، بما يُذكّر بأصالة الأغنية المصريّة، المُسجّلة في استوديو اللبناني هادي شرارة. «الحب لعنة لما ناس بيبعدو»، ومُرّة هي لعنات الأحباب.
«مليون مشاهدة في اليوم الأول» على «يوتيوب»، وجورج وسوف ممتنّ: «شكراً». فكرة الفيديو كليب بطعم الدمع. يربّي والدان ابناً حتى يشتدّ العود، فينطلق نحو مستقبله ويغلق أبوابه. يسهران، ويشقيان، ويزرعان العطاء، ثم يكون الحصاد خيبة الجحود والجفاف. كاميرا فادي حداد على الجرح. تزيّنه بمشهديات جمالية، من دون أن تقلل من حجم النزف. قصة على هيئة رحلة سينمائية تحاكي إنسان اليوم، المتورّط تماماً في الماديات. يستميله البريق، فينسى المعدن الصافي. إنسان البحث عن المال والكسب والوصول بأي ثمن. هنا مفهومان يتصارعان: القيم (أو ما بقي منها) والواقع الجديد بشروطه وقواعده، بانفلاته ونظامه. أجيال تتربّى «برموش العين»، «بالشبر والندر»، وأمام أول إغراء، تدير الظهر. «الوعد معنى وناس كتير بتردده، وما يعرفوش قيمته». سلطان الطرب لا يغنّي ليراكم أعداداً ويُكسّر الأرقام، يغنّي للعزاء.
الأب صيّاد، في الفيديو كليب، يجوب البحار من أجل الرزق. علّمته الحياة مقارعة الأمواج ورميها بالشِباك مهما علت أو عاندت. يبذل العُمر ليكبر الابن، ولا يمدّ اليد لمُذلّ. سيارة الأجرة وصلت، وحان وقت الوداع. أحياناً، لا ينفع الدمع حتى في التخفيف عن المرء. حين يتعلّق الأمر بالعائلة، يحلّ الفقد بأقصى درجات الالتهاب. «ويلي راح ما بقاش بيرجع»، يغنّي السلطان. تحمل الحياة الابن إلى أماكنها الواسعة، وتشاء رفعه إلى المباهج والانفراجات. ماذا يبقى؟ قلّة وفاء وقطع جسور. يشعر الوالدان بالاستغراب، أين ابن العُمر، أين ثمرة الحياة، أين جدوى الأمومة والأبوة؟ لا جواب. حين يأتيان إليه، لظنّ أنّه ثمة انشغالات أو سوء تفاهم أو خطب ما، يصدّ اللقاء بالبرودة، والشوق بالجفاء. «ما دام لنا غير جرح ساب... حبة عذاب، محتاج سنين عشان يلمّ ونقفله».
كلّ عناصر النجاح في هذه الأغنية، والفيديو كليب إضافة، يتمّم الجمال بالجمال. قوّة الصورة ليست فحسب في مناظر الطبيعة والبحر الذي يذكّر بأغنية فيروز «قد البحر بحبك»، بل في العبرة وطرح إشكالية الطعنات البشرية. قد يتحمّل المرء خذلان الأيام، لكنّ خذلان أقرب الناس يهدّ الحيل. فادي حداد دوزنَ ما بين البصمة على الديكور والدرس الإنساني. أعطى لكلّ جانب حقّه. فجورج وسوف في الكليب «طرف مُحايد»، يغنّي للمتألّمين بعد الصفعة. تدور القصة «بعيداً عنه»، من دون أن تخرجه من عمقها، لتصبح قصة «الجميع». قصتنا أمام كلّ خيبة، وبعد كلّ ثقة، وفي نهاية كلّ طريق.
«مكملين معاكم»: الغناء للشفاء
يحطّ بنا المزاج على سهرة «مكملين معاكم»، برعاية هيئة الترفيه السعودية. تجدونها على «شاهد VIP»، وقد أحياها وسوف ضمن سهرات «حفلات الصيف». ليت الوباء اللعين لم يفترس الجَمعات الفرِحة، لكنّا ترقّبنا أبو وديع في صيف قرطبا (قضاء جبيل اللبنانية) بسهرة تُرقّص الليل. باللباس الأسود الموحّد مع لباس الفرقة الموسيقية، يغنّى ما يزيد على ثمانين دقيقة، وقوفاً برغم التعب، منتصراً لإرادة الحياة. تبدو اليد اليسرى شبه متوقّفة عن تأدية وظائفها، يربطها بحزام أسود، ويتركها تستريح. يغنّي «صابر وراضي» و«ما جاش في بالي تيجي تتطمن عليّ». دائماً هناك المرارة والعضّ الباهظ على النفس. «يلي ادّيتهم زماني، نسيو زماني بثواني». و«إزاي بعد دا كلو يسبني، ما تصوّرتش غدره في يوم». الإنسان، بعد السنوات، يصبح محاولات وإصراراً على مزيد من كسب الوقت. كيف؟ بالغناء برغم الأوجاع في حالة جورج وسوف. لم ننسَ فيديو ممارسته الرياضة الذي اجتاح «السوشيال ميديا». وصفها بالقصاص، لكن لا مفرّ. هذا البدن، إن لم يروّضه المرء، عاجلَه بالهزائم. الوقوف على المسرح علاج. اختيار الكلام، الإصغاء بخبرة إلى اللحن المناسب، الدخول إلى الاستوديو، و«مواجهة» الجمهور. كلّها علاجات. و«أنا ال فيَّ جراح، أطبّا الكون ما تشفيني»، غنّى يوماً تحفته «طبيب جراح»، وأعادها في سهرة «مكملين معاكم»، كأنّه يهديها لنفسه، يُطبطب عليها، ويقول لها، لا بأس، كلّ شيء سيكون بخير.
غنّى القدود، «أنت أحلى الناس في نظري، جلّ من سواك يا قمري»، والأخيرة بالقاف، على الطريقة الحلبية. السهرة متعة، وأنت في المنزل. دندِن «بعيد عنك» بصوت وسوف: «نسيت النوم وأحلامه»، وإن لاحت علامات الإرهاق، بعد أكثر من ساعة على الغناء، اتّكأ قليلاً، وأكمل: «ما تبعدنيش بعيد عنك». مرَّر «اسمعوني أقولكم إيه»، وختم بواحدة من الجماليات: «حبيت أرمي الشبك عقلب ما بينشبك». لا تتكرّر.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)