إسماعيل عامود: قصيدة النثر فقدت شفافيتها ودخلت في دهاليز غامضة

كان واحدا من روادها الثلاثة في سوريا

الشاعر السوري الراحل إسماعيل عامود
الشاعر السوري الراحل إسماعيل عامود
TT

إسماعيل عامود: قصيدة النثر فقدت شفافيتها ودخلت في دهاليز غامضة

الشاعر السوري الراحل إسماعيل عامود
الشاعر السوري الراحل إسماعيل عامود

رحل أخيرا في مسقط رأسه مدينة السلمية، وسط سوريا، الشاعر إسماعيل عامود عن عمر ناهز 85 عاما، الذي يعتبر واحدا من 3 شعراء هم رواد قصيدة النثر في سوريا مع ابني مدينته الشاعرين الراحلين محمد الماغوط وسليمان عواد، كما أنه أحد مؤسسي اتحاد الكتاب العرب أواخر ستينات القرن الماضي، والمفارقة هنا أن الشاعر عامود الذي كان يسكن العاصمة دمشق حتى وفاة زوجته المربية الدمشقية عائشة اللحام في منتصف الثمانينات انتقل للسكن في مسقط رأسه حيث تزوج من هناك. وقبل 13 عاما تلقت زوجته التي تعمل موظفة في بنك بالسلمية برقية تعزية من إدارة اتحاد الكتاب العرب يعزونها بوفاته. وعندما اتصلت مع منزله للتعزية ولنشر خبر الوفاة رد الشاعر عامود ضاحكا وكان ما زال بصحته الجيدة قائلا: «يبدو أن البعيد عن العين بعيد عن القلب! أشكرهم على كل حال.. هذه ضريبة الأديب والمبدع الذي يسكن في الأرياف والمدن البعيدة عن العاصمة!».
وللشاعر عامود 11 مجموعة شعرية مطبوعة كان أولها ديوانه «التسكع والمطر» الصادر بدمشق عام 1962. ومن ثم توالت دواوينه الشعرية بعد أن تفرغ للعمل الأدبي كأمين تحرير لمجلة الثقافة الدمشقية، ومنها: «السفر في الاتجاه المعاكس، من أغاني الرحيل، كآبة، أغنيات لأرصفة البالية، الكتابة في دفتر دمشق، العشق مدينة لا يسكنها الخوف، أشعار من أجل الصيف، إيقاعات في أنهار الشعر، قلت للجميلة، وخبز بلا ملح (وهو عن تجربة الإياب إلى مسقط رأسه السلمية)».
حول قصيدة النثر التي يكتبها وكان أحد روّادها في سوريا، قال عامود في حوار لي معه: «إن جيلي الذي ساهم في كتابة قصيدة النثر في سوريا كان يكتب بشفافية - مرمزة - من واقع الحال الوجداني - الروحي.. إذا صح لي هذا القول.. أي كتبنا قصيدة النثر من خلال تجربة حيّة كانت تتحرك عبر مدى من واقعنا، وهمومنا، وتطلعاتنا.. فيفهم قارئنا علينا فينسجمُ معنا ويحبنا.. أما في هذه الأيام (في الـ20 سنة الأخيرة) فإن قصيدة النثر فقدت شفافيتها وورديتها ودخلت في دهاليز غامضة ليس لها منافذ نحو الشمس!».
وللراحل رأي في المشهد الشعري السوري الحالي أوضحه في حواري هذا معه: «عموما إنه مشهد مهزوز. هناك فوضى غير مقدسة واختلاط وتشابك وتداخل في مدارسه الأدبية.. ولكنني متفائل بأن المشهد الثقافي سيأتيه الصحو والصفاء في قادم الأيام..أقول هذا لأن الشعر ابن الحياة، بل هو وليدها المدلل، إنه يترعرع ويتسامى مع الحياة وعلوها وينخفض بتأثير انخفاضها».
ويوجه عامود كلامه للشعراء الجدد الذين يكتبون قصيدة النثر قائلا: «مع أنني لست واعظا وموجها بالمعنى الخاص لهاتين الكلمتين إنما يمكن أن أقول لمن يكتب قصيدة النثر حاليا ما يلي: اقرأوا كثيرا للأعلام من الشعراء والأدباء من جميع أنحاء العالم وبخاصة أعلام أدبنا العربي القدماء والمحدثين والمعاصرين واستوعبوا جيدا ما تقرأونه.. ثم انسوا ما قرأتم.. ثم اكتبوا تجاربكم بصدق وبراءة وتركيز وصفاء واكتبوا من الطبع وليس من الذاكرة.. ولو شاكستم الحياة.. والزمن القادم هو الناقد وهو بالتالي الحكم؟!
ربطت الشاعر الراحل صداقات بعدد من الأدباء والشعراء حيث يقول في هذا المجال: في عام 1948 سكنت في مدينة دمشق وفيها التقيت وربطتني صداقات منذ أوائل الخمسينات بشعراء وأدباء كنا نجلس سوية وبشكل يومي تقريبا بمقهى الهافانا ففيه تعرفت بأدونيس (علي أحمد سعيد) الذي كان طالبا في الجامعة السورية ويعمل محررا في مجلة (الجندي) الدمشقية بين أعوام 1950، 1954 وتعرفت على شوقي بغدادي وشاكر مصطفى وزكريا تامر الذي كان صديقا وما زال (هو رفيق الدرب). وفي أوائل الستينات تعرفت على عدد من الشعراء العرب كانوا يزورون دمشق وربطتني صداقات معهم ومنهم الشاعر بدر شاكر السياب وعبد المعطي حجازي ورجاء النقاش الذي عمل في رئاسة تحرير جريدة (الجماهير) السورية، وكان الكاتب ياسين رفاعية يعمل محررا فيها».
ويروي عامود حكايته مع أدونيس والماغوط بقوله: «محمد الماغوط هو ابن مدينتي (سلمية) مسقط رأسينا، هو ابن السماء والأرض التي عشنا فيها طفولتنا ومطالع شبابنا.. فعلاقتي معه وعلاقة قرابة في البيت والمناخ والطقس الاجتماعي.. وعلى ما أذكر.. وتحديدًا فيما يتعلق بكتابة قصيدة النثر.. كان محمد الماغوط قد أرسل إلى أدونيس في مجلة (الجندي) سنة 1951 بعض قصائده للنشر في المجلة وكنت في بعض زياراتي لأدونيس في مجلة (الجندي) ويُريني بعض مقطوعات محمد الماغوط، ويقول لي: هذا هو ابن بلدتك يبعث إلينا هذا الشعر النثري الجميل، فأطلع - أنا - عليها بحكم القرابة الجغرافية وبحكم صداقتي لأدونيس في (الجندي).. وكان كلانا يعجب بهذه المقطوعات.. بالمناسبة إنني أكبر في العمر من محمد الماغوط بحدود 3 سنوات أو 4.. ووجودي قبله في دمشق جعلني أقرأ له في مجلات (الجندي)، و(الدنيا)، و(المدينة) وعندما جاء محمد إلى دمشق تواشجت الصداقة أكثر وكان بيننا سليمان عواد، وهنا التقينا نحن الثلاثة في تحريك قصيدة النثر ومنحها الاهتمام.. وكان عواد والماغوط أكثر إنتاجا لها مني، لأنني ملت أيضا لكتابة القصيدة المقفاة وقصيدة التفعيلة منذ عام 1946 ونشرهما في مجلات: (عصا الجنة) و(الجندي) و(الدنيا) و(الجمهورية) في سوريا، وفي مجلتي (الأحد) و(كل شيء) في بيروت».



الفتى حامل الطير وعنقود العنب

شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر
شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر
TT

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر
شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب، وفقاً لتأليف خاص، اعتُمد بشكل واسع في الفن الجنائزي الخاص بمدينة تدمر الأثرية، عروس بادية الشام ولؤلؤتها.

خرج هذا الشاهد من مقبرة أثرية تُعرَف بالمقشع، وهو اسم القرية التي تحاذيها، وتقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات. عُثر على هذا الشاهد في مطلع تسعينات القرن الماضي، خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها بعثة محلية، وهو من الحجر الجيري المحلّي، طوله 36 سنتمتراً، وعرضه 16 سنتمتراً، ويتكوّن من كتلة مستطيلة مجوّفة في الوسط، تعلوها مساحة هلالية أفقية. يحدّ هذه الكتلة عمودان ناتئان يعلوهما مكعّبان يشكّلان تاجين مجرّدين من أي عناصر تزيينية. وفوق هذين التاجين، يستقر الهلال الأفقي، مشكّلاً ما يُعرف باسم قوس النصر في قاموس الفن اليوناني الكلاسيكي.

في وسط المساحة المجوفة، وتحت قوس النصر، تنتصب قامة آدمية، وتبدو أشبه بتمثال نصفي حوى الجزء الأعلى من الساقين، تبعاً لتقليد اعتُمد بشكل واسع في البحرين بين القرنين الأول والثاني للميلاد، في الحقبة التي أطلق المستشرقون الإغريقيون على هذه الجزيرة الخليجية اسم تايلوس. تقف هذه القامة في وضعيّة المواجهة، وتنتصب بثبات في كتلة يغلب عليها طابع الجمود والسكون. تُمثّل هذه القامة فتى يافعاً يقف بثبات، رافعاً يده اليسرى نحو أعلى الصدر، محتضناً في قبضته عصفوراً كبيراً حُدّدت معالمه بشكل مختزل. يحضر هذا الطير المجرّد في وضعية جانبية خالصة، ويتميّز بجناح وذنب طويلين ومنقار بارز، ممّا يوحي بأنه يمامة. الذراع اليمنى ملتصقة بالصدر، وهي ممدّدة عمودياً، ويظهر في قبضة يدها عنقود من العنب يتكوّن من حبات كتلويّة كبيرة متراصة.

اللباس بسيط، ويتألّف من قطعة واحدة تشابه الجلباب، يتوسّطها حزام رفيع معقود حول الخصر، وهو اللباس الذي يُعرف باسم الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي شكّلت قوة سياسية وثقافية كبيرة في إيران القديمة، بلغت العالم اليوناني ومن ثمّ العالم الروماني، غرباً وشرقاً. ثنايا هذا اللباس محدّدة بأسلوب هندسي، وتتمثّل بشبكة من الخطوط العمودية تنطبع على مساحة الصدر والساقين، وتحجب مفصل البدن، إضافة إلى شبكة صغيرة من الخطوط الأفقية تلتفّ حول الذراع اليمنى، وتشكل ثنايا الكمّ الخاص بهذا الثوب التقليدي. يعلو هذه الكتلة رأس يستقرّ فوق عنق عريضة وقصيرة. الوجه بيضاوي، ووجنتاه مكتنزتان. العينان لوزتان فارغتان، يعلوهما حاجبان عريضان. الأنف مهشّم، والأذنان محتجبتان، والثغر شفتان صغيرتان مطبقتان، يفصل بينهما شقّ بسيط. خصل الشعر محوّرة، وهي هنا على شكل سلسلة متراصة من الكتل الدائرية، تنعقد حول هامة الرأس في إطار متين يُعمّق ثبات الوجه وسموّه.

يبدو تأليف هذا الشاهد فريداً من نوعه في الفن الجنائزي الخاص بالبحرين، وتكمن هذه الفرادة في حضور العصفور وعنقود العنب بوجه خاص. في الواقع، يحاكي هذا النصب مثالاً شاع بشكل واسع في مدينة تدمر الأثرية التي تقع في بادية الشام، وتتبع حالياً محافظة حمص، في الجزء الأوسط من دولة سوريا. ازدهرت هذه المدينة قديماً وعُرفت بثرائها الكبير بفضل موقعها عند نقطة تقاطع عِدَّة طرق تجارية، وتميّزت بتعدّديتها الثقافية. اعتمدت تدمر لغة آرامية خاصة بها، كما استخدمت اللغة اليونانية في مداولاتها التجارية والسياسية، وجمعت بين ديانات عديدة، منها الديانات السامية والأديان العربية القديمة والأديان اليونانية والرومانية، وظهر هذا التمازج في فنونها المعمارية، كما في فنونها الجنائزية، حيث امتزجت الأنماط اليونانية والهلنستية والأنماط الفنية الشرقية في قالب محلّي خاص بها.

خضع النحت الجنائزي التدمري لقواعد شرقية، أبرزها وضعية المواجهة والاعتماد على الخطوط المحددة للأشخاص والمعالم. واعتمد النحات التدمري في إنجاز أعماله بشكل واسع على الحجر الكلسي الطري الذي يسهل تطويعه، وتمثّلت منحوتاته بتماثيل نصفية وألواح مستطيلة تضمّ شخصين أو أسرة جنائزية تحضر في مشهد جامع يُعرف باسم الوليمة الجنائزية، ويتمثّل بسرير جنائزي يتصدر المدفن أو جناحاً منه. نُصبت هذه المنحوتات التدمرية في المدافن حيث ثُبّتت في واجهة القبور، واتّسمت هذه الشواهد بسمات مشتركة، تجلّت في سمات الوجه الواحد الجامع، كما في أسلوب نقش ثياب بشكل تزييني غير خاضع لحركة الجسم. بدت الوجوه متجهة إلى الأمام، واتّضح أنها تتبع نماذج ثابتة، منها الوجه الأنثوي، والوجه الذكوري الملتحي، والوجه الذكوري الحليق الخاص بالكهنة، إضافة إلى الوجه الطفولي الخاص بحديثي السن. من جهة أخرى، حملت هذه الشواهد نقوشاً كتابية تذكر اسم المتوفى وسنّه وعبارة محلية تعني «وا أسفاه»،

عُثر على هذا الشاهد في مطلع تسعينات القرن الماضي خلال أعمال المسح والتنقيب التي قامت بها بعثة محلية

في هذا الميدان، يحضر مثال الفتى الذي يحمل طيراً وعنقوداً من العنب، ويتكرّر بشكل واسع، والأمثلة لا تُحصى، منها شاهد محفوظ في متحف تدمر يتميّز بقمّته الهلالية، يشابه بشكل كبير الشاهد الذي خرج من مقبرة المقشع. يحتفظ متحف اللوفر بشاهد مستطيل يماثل في تكوينه هذا التأليف، ويتميّز بحضور عصفور كبير يطلّ من بين أصابع اليد التي تقبض عليه. في كل هذه الأعمال التدمرية، يحضر فتى أمرد نضر الوجه، يرتدي اللباس الفرثي التقليدي، مع حزام رفيع معقود حول الخصر. يصعب تحديد رمزية الطير وعنقود العنب، والأكيد أنها رموز أخروية ترتبط بالموت وبخلود النفس، وتتعلّق بنوع خاص بالحياة القصيرة العهد، كما تشير سن حاملها الذي رحل باكراً.

يعود هذان العنصران الرمزيان في الأصل إلى العالم اليوناني على الأرجح، اللافت أنهما يرافقان في هذا العالم فتيات صبايا، وأشهر الأمثلة نصب محفوظ في متحف الآثار الوطني في أثينا، مصدره مدينة بيرايوس الأثرية. يمثّل هذا النصب صبية تقف منتصبة، حانية ساقها اليمنى، وفقاً للجمالية الكلاسيكية الني تتجلّى كذلك في التجسيم الواقعي الحسّي الذي يسيطر على سائر عناصر الصورة. على عكس ما نرى في تدمر وفي البحرين، تحمل هذه الصبية العنقود بيدها اليسرى، وتقبض على الطير بيدها اليمنى، ويبدو هذا الطير أشبه بإوزّة.