أولويات السياسة الروسية في الشرق الأوسط تتعثر بضعف قدرات التأثير

سوريا واستقرار أسواق الطاقة وتوسيع التعاون الاقتصادي التجاري

أولويات السياسة الروسية في الشرق الأوسط تتعثر بضعف قدرات التأثير
TT

أولويات السياسة الروسية في الشرق الأوسط تتعثر بضعف قدرات التأثير

أولويات السياسة الروسية في الشرق الأوسط تتعثر بضعف قدرات التأثير

أظهرت المواجهة الإسرائيلية - الفلسطينية الأخيرة، عجز موسكو عن استخدام واحدة من الأوراق المهمة الموجودة بحوزة الكرملين، والتي فاخر الروس بها طويلاً، وهي إقامة صلات وتوازن في العلاقات بين كل الأطراف في كل أزمة إقليمية. فقد بدا الموقف الروسي متوارياً خلف تحركات «تنشيط الرباعي الدولي» ومترقباً للخطوات الأميركية ولجهود الوسطاء الإقليميين الذين نجحوا في محاصرة التصعيد.
ويكاد الموقف ذاته ينسحب على النشاط الملحوظ الذي بذلته موسكو خلال الشهور الأخيرة في اتصالاتها مع الأطراف اللبنانية. إذ بدا لوهلة أن روسيا تحاول الدخول على خط أزمات لبنان المستعصية، واحتلال موقع بين الوسطاء الدوليين بهدف تحقيق مكاسب تعزز مواقفها في سوريا وعلى الصعيد الإقليمي، فضلاً عن دفع طموحات الشركات الروسية التي تراقب بدقة تطورات الوضع حول تصاعد فرص التنقيب والاستخراج للثروات على الشاطئ اللبناني وفي مناطق الجوار البحرية.
ولكن، مرة أخرى، ظلت التحركات الروسية ضعيفة التأثير؛ ما دفع خبراء في موسكو إلى الحديث عن موسكو التي دخلت إلى المنطقة بشكل عريض من البوابة السورية، ما زالت غير قادرة على المنافسة فيها أو تحقيق مكاسب كبرى.

لقد أعاد الواقع الحديث في كل من سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة الكلام مجدداً عن أولويات السياسة الإقليمية الروسية، ومدى قدرة الكرملين على استثمار «انتصاراته» في سوريا لتحويل روسيا إلى لاعب مهم ومؤثر في المنطقة.
والحال، أنه في كل أزمة أو استحقاق إقليمي، برز أن السياسة الروسية - وفقاً لخبراء - تقوم على حشد أوراق التأثير المتاحة لها في إطار تحالفات أو محاور تعتمد في وجودها على توازن دقيق وصعب، وهشّ في معظم الأحيان. وهذا ما حدث من خلال إطلاق عمل ترويكا «آستانة» التي حققت لموسكو الكثير من المكاسب، وعلى رأسها تثبيت وقف النار في غالبية الأراضي السورية، وحرف العملية السياسية للتسوية عن جوهرها وفقاً للرؤية الروسية لآليات تنفيذ القرار 2254. ولكن في المقابل، غاصت موسكو في «مشكلات» الحلفاء، وبدت اجتماعات «محور آستانة»، في دوراتها المتتالية جزءاً من عملية متواصلة للمحافظة على وجود المجموعة والإبقاء على التوازن القائم للمصالح بين أطرافها.
الأمر ذاته انسحب على العلاقة الوثيقة... ولكن الصعبة مع إسرائيل، التي يصفها أكثر من خبير بأنها أحد «الشركاء المهمين» لروسيا في عملية المشاركة في بلورة ملامح النظام الإقليمي الجديد.
وبعيداً من الوضع حول سوريا وتعقيداته، اتجه النشاط الروسي بالدرجة الأولى إلى المحافظة على ما تبقى من صلات قديمة مع «شركاء تقليديين» أو في تعزيز التعاون في مجالات مختلفة مع «شركاء جدد»، خصوصاً في منطقة الخليج العربي. وهنا يجمع المحللون الروس على أن موسكو بالفعل حققت إنجازات مهمة.

«ا- لربيع العربي» دفع لإعادة ترتيب الأوراق
يرى مجتمع الخبراء الروس، أن «الربيع العربي»، أسفر بشكل أساسي عن توسيع منطقة الاضطراب والقلاقل في الشرق الأوسط مع اندلاع عدد من النزاعات العسكرية - بما في ذلك في سوريا والعراق وليبيا - فضلاً عن الصراعات الاجتماعية والسياسية الداخلية. وأن ما حصل لم يكن ذلك نتيجة أزمات الأنظمة السياسية فحسب، بل جاء أيضاً نتيجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة، فضلاً عن انخفاض دخل دول المنطقة.
وهكذا، وفقاً للبروفسورة لودميلا شكفاريا، الأستاذة في كلية الاقتصاد بجامعة الصداقة في موسكو، تصادمت في المنطقة العربية المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية والاقتصادية، ليس فقط للولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والصين والاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً لعدد من القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. وهي تضيف موضحة «إذا تحدثنا عن الاقتصاد، فعادة ما ظل الشريكان الرئيسيان لروسيا في منطقة الشرق الأوسط هما سوريا والعراق - الدولتان اللتان عانت اقتصاداتهما أكثر من غيرها من الصراعات العسكرية منذ بداية الربيع العربي. ولكن، في الوقت نفسه، لم تعد هاتان الدولتان بين شركاء التجارة الخارجية الرائدين لروسيا منذ فترة طويلة».

- أولويات روسيا في المنطقة
في هذا الإطار، تورد البروفسورة شكفاريا، أنه «إذا تحدثنا عن روسيا، فإن وجودها في الشرق الأوسط يظل متناقضاً وغير مستقر، بل ومتردداً، مثل سياستها في المنطقة، بما في ذلك على صعيد المكون الاقتصادي. وباختصار يمكن القول، إن الاقتصاد - لم يكن لديه وقت كاف». هذه العبارة يمكن ترجمتها بأن موسكو حاولت المحافظة على مصالح تقليدية مع بعض الدول، بيد أن تطورات السنوات الماضية أظهرت صعوبة هذا المسار وتعقيداته.
ثم هناك أولوية أخرى لروسيا في المنطقة هي منع الأزمات في العلاقات الروسية التركية. وعلى الرغم من الخلافات الجادة بين الطرفين حول القضايا المهمة بالنسبة لروسيا، وهي تشمل المواقف من سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط والوضع حول ناغورنو قره باغ والقرم، ظلت أنقرة أحد أهم شركاء روسيا الاتحادية. بل إنه في حالة تركيا، في المقدمة من الأولويات الروسية تحتل مهمة احتواء نفوذ تركيا في الدول العربية التي تهم روسيا استراتيجياً. وهذا بجانب محاولة عدم تقديم تنازلات مفرطة من ناحية، ومن ناحية أخرى منع تفاقم العلاقات مع تركيا.
وفي السياق ذاته، بالإضافة إلى العوامل الإقليمية، ثمة أسباب خارجية خطيرة تدفع روسيا إلى مراجعة أولوياتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشمل هذه زيادة ضغط العقوبات من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتوتر المتزايد في العلاقات مع الغرب، وتفشي جائحة «كوفيد - 19» وتداعياتها الخطيرة داخلياً على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي، وركود الاقتصاد الروسي، وأزمة الاقتصاد العالمي وما نتج منها من عواقب اقتصادية للأزمة. في هذه الظروف، فإن روسيا رأت، كما تقول الخبيرة إيرينا عيدروس «إن الاندفاع في منطقة الشرق الأوسط، حتى لو لم يأت بثمار واسعة، فهو يساعد موسكو على تعزيز أوراقها التفاوضية مع الأطراف المختلفة وفي الملفات الخلافية المختلفة».
في هذه الأجواء، ظهر خلال الأيام الأخيرة تحدٍ جديد، أظهر صعوبة المهمة التي تحاول موسكو القيام بها، والمقصود تعزيز حضورها المباشر عسكرياً وسياسياً في هذه المنطقة. إذ برزت المعطيات حول بيان السلطات السودانية الأخير بمراجعة اتفاق إنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر، لتشير إلى مدى ارتباط أي نجاح يمكن أن تحققه موسكو في المنطقة بمستوى قلة اكتراث أو تجاهل واشنطن لهذا التحرك. والمعنى المقصود أن موسكو كانت واثقة من أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من امتلاك قاعدة عسكرية تمنحها وجوداً دائماً في البحر الأحمر، غير أن تدخل واشنطن بشكل مباشر - خلافاً للوضع في سوريا - أجهض بشكل سريع التحرك الروسي.
كذلك، بين الأولويات الرئيسية للسياسة الروسية في المنطقة حالياً، التأكيد مجدداً على أهمية التعاون في إطار «أوبك +»، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية، اللاعب الرئيسي القادر مع روسيا على ضمان استقرار أسواق النفط في العالم. وهنا تقول عيدروس، إنه في الأساس، يعد هذا ضماناً لاستقرار سوق النفط، وهو أمر مهم للغاية لقطاع الطاقة الروسي «لكن يجب أن نفهم أن الإجراءات المنسقة من قبل روسيا والسعودية هي وحدها القادرة على أن تزيد بشكل أساسي من الفرص... وتبقي على مجالات التفاعل بين روسيا والسعودية في اتجاهات مختلفة. ولذلك؛ يبقى الحفاظ على آلية (أوبك +) على أجندة التوجهات الاستراتيجية».

- تغيير في الأولويات
وفقاً للخبيرة عيدروس، فإنه «حتى وقت قريب، كان من السهل تصنيف الدول العربية وفقاً لدرجة الأولوية الاستراتيجية لروسيا وإمكانية توسيع المصالح الروسية. لذلك؛ كان بإمكاننا هنا في وقت سابق تسمية اليمن، وسوريا، والعراق، ومصر، والأردن، وفلسطين ضمن الحلفاء الأساسيين لروسيا. وأيضاً يمكننا إدراج دول الخليج كشركاء جدد. ولكن، مع ذلك؛ ونظراً إلى التغيرات الاقتصادية والتجارية والمالية والجيوسياسية العالمية الجارية، تتغير الأولويات الاستراتيجية لروسيا بشكل كبير على المدى القصير. ويفسر ذلك حقيقة أن الصراع التنافسي على النفوذ في المنطقة يتصاعد. ذلك أنه بالإضافة إلى اللاعبين التقليديين – أي الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة - بدأت الصين في المشاركة بنشاط... وهي عاكفة على تعزيز دورها الإقليمي.
وفعلاً، يرى الخبراء الروس، أن «تنامي أدوار اللاعبين الأساسيين، وخصوصاً إيران والمملكة العربية السعودية، تزامن على مدى السنوات العشر الماضية مع تعاظم طموحات تركيا التي ينمو نفوذها بوتيرة ملحوظة. وهذا تطلب التغيير الحاصل حالياً في الصورة الدبلوماسية للعالم العربي خصوصا لجهة التقارب مع إسرائيل»، وكنتيجة لذلك يجمع الخبراء على أن الوضع الجديد في المنطقة بات يتطلب أن «تتعامل روسيا بنهج أكثر حساسية ومرونة واحترافية في تحديد موقعها وبناء أهداف استراتيجية في الشرق الأوسط».
وهنا تظهر معضلة أخرى أمام السياسة الروسية؛ إذ إنه على الرغم من الإدراك أن الدول العربية لها أهمية استراتيجية، فإن السياسة الروسية الشاملة في الشرق الأوسط ما زالت – كما تقول الباحثة البروفسورة شكفاريا - «غير متسقة. وإلى حد كبير، هذه سياسة رد فعل، وليست سياسة قادرة على تشكيل أجندة تستهدف المصالح طويلة الأجل».
علاوة على ما تقدم، ثمة مشكلة أخرى تتعلق بردات الفعل الروسية المتأخرة على بعض الأحداث. وهنا يحمل الباحثون أنفسهم ودوائر البحث المسؤولية عن التأخر. وتضيف الباحثة «غالباً ما يظهر هذا إلى الشعور بأن المجتمع السياسي والعلمي والتحليلي الروسي لم يتمكن سريعا من التنبؤ بالأحداث الوشيكة التي تقع في المنطقة. وتجلّى ذلك في الغياب أو التأخير الخطير في الإعلان عن موقف روسيا من بعض القضايا، الأمر الذي ألقى بظلال من الشك على حقيقة أن روسيا تولي المنطقة اهتماماً كافياً».

- الأولوية السوريةعلى رأس لائحة اهتمامات الكرملين
عودة إلى أولويات التحرك الحالي الروسي، فإننا نجد أنه في مجال السياسة الخارجية، تتمثل إحدى الأولويات الرئيسية في الحفاظ على التأثير على دمشق وتوسيع المصالح الاقتصادية الروسية. والآن، تتوقع روسيا أنها بعد الانتخابات ستكون قادرة على التأثير على كفاءة الاقتصاد السوري، وتعزيز بدء الإصلاحات السياسية والاقتصادية في البلاد، وأيضاً تشكيل نظام سياسي أكثر شمولاً، إلى جانب تنشيط عمل لجنة الدستور السوري.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن موسكو تعي أن المنافسة مستمرة في النمو في سوريا مع إيران في المجالات السياسية والجيوسياسية والاقتصادية. ولذا؛ تكمن أولوية موسكو استراتيجياً في تعزيز مواقعها... ليس فقط في سوريا، بل أيضاً في لبنان، حيث تتمتع إيران أيضاً بموقع قوي وتسعى إلى تعزيز قوتها في بلاد الشام بمساعدة «حزب الله».
وفي إطار السياسة الروسية في سوريا، بدا أن موسكو تضطر إلى إجراء مراجعات أو تعديلات في حالات عدة. وكانت حكومة البلاد تدرس بجدية إمكانية إنشاء «منطقة تجارة حرة» بين سوريا، وبيلاروسيا، وكازاخستان والاتحاد الروسي، وكانت هناك مفاوضات نشطة حول هذا الموضوع. وفي المقابل، كان الاتحاد الروسي يعتزم تزويد سوريا بقرض كانت في أمس الحاجة إليه لمكافحة عواقب التفاقم الخطر في الوضع الاقتصادي المعيشي خلال السنوات الثلاث الأخيرة.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».