كيف كان نبلاء فرنسا يأكلون قبل 200 سنة؟

نادلان لكل ضيف وعشرات الخدم في «رقصة الأطباق»

سكرية من القرن السابع عشر (أ.ف.ب)  -  مائدة «ساعة الطعام وفن الأكل الجيد» في هذا المعرض الفريد (أ.ف.ب)
سكرية من القرن السابع عشر (أ.ف.ب) - مائدة «ساعة الطعام وفن الأكل الجيد» في هذا المعرض الفريد (أ.ف.ب)
TT

كيف كان نبلاء فرنسا يأكلون قبل 200 سنة؟

سكرية من القرن السابع عشر (أ.ف.ب)  -  مائدة «ساعة الطعام وفن الأكل الجيد» في هذا المعرض الفريد (أ.ف.ب)
سكرية من القرن السابع عشر (أ.ف.ب) - مائدة «ساعة الطعام وفن الأكل الجيد» في هذا المعرض الفريد (أ.ف.ب)

تحفر الشعوب المستقرة والمستريحة من الحروب في تاريخها وتنقب وتبحث في ظواهر مجتمعاتها وتستخلص منها مؤلفات وأفلاما ومعارض تقدمها للأحفاد، وتقول لهم: «هكذا عاش أجدادكم». ومنها هذا المعرض الذي فتح أبوابه قبل أيام في متحف فنون التصميم والتزيين في بوردو، إلى الجنوب الغربي من فرنسا.
ومن المعروف عن الفرنسيين اهتمامهم بالمائدة وآدابها وأوانيها وأقداحها ومفارشها وأزهارها قدر اهتمامهم بأصناف الطعام. وهم حين يجلسون إليها فليس لازدراد اللقيمات على عجل، بل لقضاء سويعات طيبة في التذوق والتمتع بالطعام والشراب والمحادثة ورواية الحكايات الظريفة. وهم الذين ابتكروا مصطلح «غداء عمل»، لأن الأطباق اللذيذة الفاخرة هي خير ما يمكن أن يجتمع حوله المتفاوضون، تمهيدا لاتفاقات تاريخية أو صفقات بالملايين.
عنوان المعرض «ساعة الطعام وفن الأكل الجيد». وقد اشتق الفرنسيون من مفردة الشوربة (سوب)، فعلا قابلا للتصريف في لغتهم، يدل على معنى الأكل. فالوجبة التقليدية لا تستقيم من دون صحن الشوربة الدسم والساخن. ولهذا فإن منظمي المعرض اختاروا كل قطعة فيه، وقد وضعوا في بالهم أن تناول الطعام لم يكن مجرد حاجة طبيعية بل طقس مكتمل اللوازم والعادات والإشارات. ومن خلال عادات الطعام، يمكن للزائر أن يقرأ طبائع أهل البلد ويطلع على الواجهة الاجتماعية الحقيقية للأرستقراطية التي كانت تتأرجح بين فترات عزها ثم هاوية انحدارها.
يبدو المعرض تجميعا لموائد جرى إعدادها بذوق وعناية، وكأنك في مطعم أو مأدبة تنتظر قدوم الضيوف. لكن الزائر سرعان ما يكتشف أنه يحضر درسا يجمع ما بين الفن والتاريخ وعلم الاجتماع من خلال الفرجة على أكثر من 200 قطعة تتعلق بتقاليد تناول الطعام، دون نسيان الصواني والأفران والأسياخ ما يلحق بها من لوازم المطابخ. كل هذا مع كثير من اللوحات التي رسمها فنانون معروفون لنبلاء من العصور الماضية وهم في طقس المائدة. ولعل السائح الأجنبي الذي تقوده قدماه إلى هذا المعرض يستغرب للأهمية التي أولتها الطبقة الأرستقراطية لآداب السفرة، فقد كان فرش الموائد الكبيرة فنا راقيا يستوجب عدة مراحل من الإخراج. ولكل مرحلة أسرارها ومفاتيحها وخبراؤها المحنكون.
تقول كارولين فيون، المسؤولة عن المعرض، إن الاختيار وقع على القرنين الـ17 والـ18، لأنه كان العصر الذي تطور فيه المطبخ وتغيرت أساليب تناول الأكل بشكل جذري عما كانت عليه في التقاليد في العصور الوسطى. لقد اتخذت المأكولات منحى أكثر رهافة، وولى الزمن الذي كانت الطباخات فيه تموه مذاقات اللحوم وشوربات الخضار بالكثير من المطيبات. إن التقاليد الجديدة، مثلا، تترك للآكل حرية تتبيل طبقه بإضافة الملح أو البهارات أو الليمون أو الزيت حسب رغبته وذوقه. ومن هنا ظهرت على الموائد الراقية حاويات صغيرة مثقوبة يوضع فيها الملح والفلفل، وكذلك أواني الصلصات المختلفة التي «تندلق حافاتها» كجرار الماء، لتسمح بسهولة السكب.
ترافق التطور في الأذواق مع تجديد في أساليب تناول الوجبات التي باتت تخصص لها حجرة في المنزل. فالضيوف الأعزاء تفتح لهم غرفة الطعام التي ينتقلون إليها من صالون الاستقبال ليتشاركوا في طقوس يتفنن فيها الداعي أو الداعية لكي يبهر مدعويه ويعبر لهم عن رقي ذوقه ومقدار حفاوته. وتشرح مسؤولة المعرض أن تناول الوجبة، لا سيما الاحتفالية، انتقل في ذلك العصر من مجرد حاجة يومية لتغذية الجسم إلى لحظة مهمة ونوع من الاستعراض. وهي لحظة تبدأ بارتداء أجمل الثياب، ثم إخراج الجميل والثمين من أدوات المائدة، كالفضيات وأطباق الخزف والبورسلين الثمين. وأهم ما في تلك اللحظة أنها أوجدت ما صار يعرف بـ«السرفيس على الطريقة الفرنسية». أي خدمة تقديم الأطباق والمشروبات بتتابع ممنهج ومدروس: الشوربة أو فواتح الشهية والمقبلات التي تسبق الطبق الرئيسي، وبعده الحلوى والأجبان. ومن دون الجبنة، في بلد يتباهى بأنه يصنع المئات من أنواعها، تبقى المأدبة ناقصة. وفي المآدب الكبرى، فإن عدد الأطباق المتتابعة التي تقدم للضيوف يصل إلى ثمانية.
«رقصة الأطباق». هذه هي التسمية التي يطلقها دليل المعرض على عملية التتابع في رفع طبق صغير من فوق طبق أكبر، وتغيير الأقداح بحسب أنواع السوائل، ورصف أشكال وأحجام مختلفة من الملاعق والشوكات والسكاكين على جانبي الأطباق وأمامها. وكما في الرقص الكلاسيكي، فإن كل خطوة مدروسة ولكل حركة حسابها لكي تتم الرقصة بانسجام ومن دون تصادم بين الخدم وما قد ينتج عنه من صب محتويات الطبق على رأس الضيف. من يؤدي هذه الرقصة؟ يخبرنا دليل المعرض أن المآدب الكبيرة تستدعي نادلا أو حتى نادلين للوقوف على خدمة كل واحد من الضيوف. أي أن عدد الندل بعدد المدعوين أو الضعف، ولا ننسى الانتباه إلى تناسق الألوان ورقّة الخزف الممهور بالأحرف الأولى لاسم المضيف ورموز لمرتبته في شجرة النبلاء، والمنقوش برسوم نباتية وأطيار أو أسماك.
عكس «السرفيس على الطريقة الفرنسية» صورة لما كانت عليه طبقة النبلاء من نفوذ وثراء. فللفخامة ثمن. وكانت تلك المآدب تتطلب تخطيطا يبدأ قبل أشهر من موعدها وتحضيرات يشترك فيها جيش من الرجال والنساء العاملين في كثير من المهن. لكن الجلوس إلى المائدة لم يكن يستغرق كل الوقت الذي صار يستغرقه اليوم. وهم قد حسبوا لكل طبق ربع ساعة لا أكثر. وفي مأدبة أقيمت بمناسبة معمودية طفل من أولياء العهد، جرى تقديم 360 طبقا في غضون ساعة ونصف الساعة. لكن كل تلك البهرجة أوشكت على الانطفاء مع قيام الثورة الفرنسية، عام 1789، ومع دنو نهاية القرن الثامن عشر.
لقد ولت موضة «السرفيس على الطريقة الفرنسية» ليحل محلها «السرفيس على الطريقة الروسية»، وهي ليست تقليدا واردا من روسيا، بل من بريطانيا، ولا ينطوي على كل تلك الطقوس الطويلة والمعقدة. وقد عرف انتشارا في القرن الـ19 ولم يكن يتطلب أكثر من 4 خدم لكل المدعوين على المائدة، وهم من الطبقة التي صارت تُسمى «البرجوازية الجديدة». لكن بعض التقاليد البرجوازية تسللت إلى موائد عموم الناس، ومنها إيلاء أهمية للخضراوات الطازجة والنيئة توازي اللحوم، وضرورة تقديم طبق حلوى عند نهاية الوجبة. والمعرض الذي يستمر حتى أوائل الصيف يقترح على الزوار حضور ورشات لتعليم إعداد الحلويات والمعجنات التي كانت تقدم على موائد النبلاء.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».