بعد عام على فصلها عن أوكرانيا.. القرم تعاني العزلة

سكانها المؤيدون للالتحاق بروسيا مرتاحون رغم المصاعب الاقتصادية.. والرافضون هاجروا

عاملان يشاركان في ترميم تمثال لينين في سيمفيروبول أمس استعدادًا لإحياء الذكرى الأولى لضم المنطقة إلى روسيا (أ.ف.ب)
عاملان يشاركان في ترميم تمثال لينين في سيمفيروبول أمس استعدادًا لإحياء الذكرى الأولى لضم المنطقة إلى روسيا (أ.ف.ب)
TT

بعد عام على فصلها عن أوكرانيا.. القرم تعاني العزلة

عاملان يشاركان في ترميم تمثال لينين في سيمفيروبول أمس استعدادًا لإحياء الذكرى الأولى لضم المنطقة إلى روسيا (أ.ف.ب)
عاملان يشاركان في ترميم تمثال لينين في سيمفيروبول أمس استعدادًا لإحياء الذكرى الأولى لضم المنطقة إلى روسيا (أ.ف.ب)

بعد عام على احتلال قوات موالية لروسيا برلمان القرم، وما شكله من مرحلة أولى لضمها من قبل موسكو، تواصل شبه الجزيرة الأوكرانية سابقا دعم السلطات الروسية رغم الصعوبات الاقتصادية والنقص في المواد الأساسية والتضخم الذي تزداد وتيرته. وقالت غالينا تولماتشيفا التي تعمل ممرضة: «أنا سعيدة جدا لانضمامنا إلى روسيا. كان هذا حلمنا منذ زمن طويل. هناك أشخاص غير مسرورين»، بسبب التضخم «لكن الأهم هو عدم وقوع حرب».
وكانت قوات موالية لروسيا استولت في 27 فبراير (شباط) 2014 على برلمان القرم ودعت النواب إلى التصويت لصالح حكومة مؤيدة لموسكو وتنظيم استفتاء حول انضمام شبه الجزيرة إلى روسيا. وأدى التصويت في مارس (آذار) 2014 إلى توتر شديد مع كييف، وأيضا مع الدول الغربية التي فرضت عقوبات لا سابق لها على روسيا. وأسفرت العقوبات، التي تشمل القرم أيضا بما أنها تابعة لموسكو، عن عزلة اقتصادية لشبه الجزيرة، كما أدت إلى رحيل غالبية الشركات الغربية التي كانت تتخذها مقرا لها.
وللتعويض عن ذلك، تعهدت موسكو باستثمار مليارات الروبلات في المنطقة وبناء جسر يربطها بوطنها الأم الجديد في محاولة لإخراجها من عزلتها. إلا أن السكان الذين يقول الكرملين إنهم شاركوا بكثافة في الاستفتاء من أجل الانضمام إلى موسكو لا يزالون معزولين بعد مرور عام؛ فالحدود تفصلهم عن أوكرانيا ولا يمكنهم التوجه إلى روسيا سوى من خلال العبارات إذا كانت الأحوال الجوية مواتية. ويعاني السكان أيضا من انقطاع الكهرباء والماء، وهي خدمات كانوا يحصلون عليها في السابق من كييف.
وفي مقابلة مع التلفزيون الروسي، أقر حاكم شبه الجزيرة سيرغي أكسيونوف بأنه، ومع النقص في المواد الأساسية والأدوية مثل الأنسولين، دون نسيان التضخم الذي أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بمقدار الضعف تقريبا، فإن الحياة في القرم «مختلفة عن الحياة العادية للأشخاص الطبيعيين». ونادرا ما يتجاوز راتب أحد سكان القرم 10 آلاف روبل (أي 164 دولارا) كما هو الحال بالنسبة لأعضاء فرقة «أوركسترا القرم». وقال القائد السابق لهذه الفرقة إيغور كازدان: «مع أسعار اليوم والتضخم لست أدري كيف يمكننا الصمود بهذا القدر المحدود! لقد تم تخصيص مبالغ طائلة للقرم لكن المسؤولين لهم أفكارهم الخاصة حول كيفية إنفاقها». ومضى كازدان يقول: «إنها كارثة تامة. كأن روسيا لم تتول بعد السيطرة على القرم»، داعيا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى وضع حد لحكم النخبة الفاسدة.
وترى السلطات المحلية أن الصعوبات الاقتصادية في شبه الجزيرة مؤقتة. وتؤكد اللافتات الكبيرة على جوانب الطرقات أن القرم يمكنها الصمود «أمام الحجارة المتساقطة عليها» طالما أنها «مع الوطن الأم» روسيا.
ويبدو أن السكان يشعرون بالتفاؤل نفسه؛ إذ لا يزال 82 في المائة منهم يدعمون ضم القرم إلى موسكو بحسب استطلاع نشره معهد «جي إف كيه» في أوكرانيا الشهر الحالي. لكن آخرين فضلوا الرحيل مثل ألكسندر تيتوف (22 عاما). ويقول هذا الشاب المقيم منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في الدنمارك حيث يعمل مبرمجا معلوماتيا: «لم أرغب في البقاء في القرم بعد أن أصبحت روسية»، وكان صوَّت ضد ضمها إلى روسيا «الدولة البوليسية»، حسبما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية في تقرير لها أمس. وتابع تيتوف: «السكان باتوا عدائيين جدا وأي شخص ينتقد روسيا يتعرض لهجوم»، مضيفا أنه يعتبر نفسه أوكرانيًّا مع أن والديه روسيان. وتيتوف من السكان القلائل الذين صوتوا ضد انضمام القرم إلى روسيا بينما صوت 97 في المائة من السكان بـ«نعم»، بحسب الكرملين. واعتبرت كييف والغربيون أن الاستفتاء باطل.
وفي 18 مارس 2014 وقع بوتين معاهدة ضم القرم وهو ما نددت به كييف وأعلنت أنها لن تعترف به أبدا. وقال أندري كريسكو الناشط للدفاع عن حقوق الإنسان إن «أجواء من الخوف تسود في القرم» منذ ذلك التاريخ. وأضاف أنه يتلقى «كل يوم تقريبا» اتصالات حول عمليات توقيف أو مداهمات للشرطة أو طرد من شبه الجزيرة. وأضاف أن بعض السكان يتم توقيفهم بتهمة «التطرف» لمجرد تعبيرهم عن التأييد لأوكرانيا.
وتشكل القرم سبيلا لوصول أسطول موسكو المتمركز هناك منذ القرن الثامن عشر إلى المياه الدافئة. وهذه المنطقة المعروفة بشواطئها وتاريخها الحافل بالإغريق والرومان والبيزنطيين والتتار والأتراك، وبمنتجع يالطا حيث تقرر مصير أوروبا في 1945. كان الزعيم السوفياتي نيكيتا كروتشيف وهو أوكراني الأصل «منحها» في 1945 إلى أوكرانيا. وأدى ذلك إلى تدهور العلاقات بين كييف وموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991 قبل أن يؤثر سلبا على العلاقات بين موسكو والغرب بعد ضمها لروسيا.
عندما كانت القرم لا تزال تابعة لأوكرانيا كان لها دستورها الخاص وحكومة وبرلمان بفضل وضعها كجمهورية تتمتع بحكم ذاتي منحتها إياه كييف في 1992 للالتفاف حول الميول الانفصالية لهذه المنطقة ذات الغالبية من الناطقين بالروسية. وباستعادتها للقرم، تكون روسيا استعادت أيضا مرفأ سيباستوبول الكبير حيث يتمركز أسطولها العسكري منذ القرن الثامن عشر، مما يؤمن لها منفذا على البحر الأسود، ومنه إلى المتوسط والشرق الأوسط. وشكل وجود الأسطول الروسي في سيباستوبول مشكلة طيلة سنوات بين كييف وموسكو. وفي 2010 وقع البرلمان الروسي ونظيره الأوكراني في ظل رئاسة فيكتور يانوكوفيتش اتفاقا يمدد حتى 2042 هذا الانتشار لقاء خفض بـ30 في المائة على سعر النفط الروسي. ويبلغ عدد سكان القرم مليوني نسمة بينهم 59 في المائة روس و24 في المائة أوكرانيون و12 في المائة من التتار المسلمين المقيمين في شبه الجزيرة منذ القرن الثالث عشر. ولا تتجاوز مساحة القرم 27 ألف كلم مربعا.



​أوروبا تحبس أنفاسها على أعتاب ولاية ترمب الثانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
TT

​أوروبا تحبس أنفاسها على أعتاب ولاية ترمب الثانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)

العالم الذي يبدأ فيه دونالد ترمب ولايته الثانية رئيساً للولايات المتحدة، لا يشبه كثيراً العالم الذي فاز فيه برئاسته الأولى عام 2016. في أوروبا تخوض روسيا حرباً ضروساً ضد أوكرانيا منذ ثلاث سنوات، والاتحاد الأوروبي ما زال يتردد في وضع الركائز الأساسية لاستراتيجية دفاعية موحدة تحجز له مقعداً في الصف الأمامي من المشهد الجيوسياسي الجديد، فيما تقضّ تصريحات ترمب المتعاقبة وتهديداته مضاجع المسؤولين في باريس وبرلين وبروكسل، وتطرب لها آذان القيادات الحاكمة في روما وبودابست ومن لفّ لفيفها من القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تتطلع إلى «عصر ذهبي» تتفتح براعمه خلال الحقبة الترمبية الثانية.

لم تعد المؤسسات الأوروبية الكبرى تخفي قلقها من تداعيات الرياح الأميركية الجديدة، التي بدأت تهب على العالم حتى قبل جلوس ترمب في المكتب البيضوي، وها هو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يعلن قُبيل سفره إلى واشنطن لحضور حفل التنصيب، أن ولاية ترمب الثانية ستطلق أجنحة اليمين الأوروبي الجديد، ويبشّر أوربان بحقبة ذهبية في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويقول: «أعلن انطلاق المرحلة الثانية من الهجوم الكبير الذي يهدف إلى احتلال أوروبا».

أميركي يعتمر قبعة عليها صورة ترمب بواشنطن الاثنين (رويترز)

وخلافاً لما كان عليه الوضع إبّان ولايته الأولى، حين كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا مجرد مشاريع هامشية في المشهد السياسي، أصبح حلفاء ترمب الأوروبيون اليوم على جانب من النفوذ، في الحكم وخارجه، وعلى تناغم تام مع أفكاره ومواقفه الراديكالية حول الهجرة والبيئة والقضايا الاجتماعية، ويشاطرون رؤيته الجيوسياسية لعالم تقوم فيه التحالفات على المصالح التجارية وليس على الأفكار والمعتقدات السياسية. ولم يعد سراً أن المخاوف الأوروبية الكبرى ليست مقصورة على التدابير التجارية المزمعة للرئيس الأميركي الجديد، بل إن أخطرها قد يأتي من «وصفته» لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن مصير العباءة الدفاعية التي يؤمنها الحلف الأطلسي للدول الأوروبية.

العهد الأميركي الجديد يعرف أن «أحصنة طروادة» التي تفاخر بنصرته في أوروبا لم تعد تلك الأحزاب المنبوذة، التي فرضت عليها القوى التقليدية حجراً صحياً منذ عقود، ومنعت وصولها إلى مواقع القرار والسلطة، بل أصبحت في مراكز الحكم وتتوثّب اليوم، مدعومة بسخاء من الأوليغارشية الرقمية، لتوسيع دائرة شعبيتها ونفوذها المباشر بعد أن صارت تشكّل الكتلة الثالثة في البرلمان الأوروبي.

اجتماع سابق لترمب مع قادة «الناتو» في بروكسل (أرشيفية - رويترز)

وهي لم تنم فحسب على الصعيد الانتخابي، في ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا ورومانيا، بل إن أفكارها وطروحاتها أصبحت تلقى تجاوباً واسعاً في أوساط الرأي العام، وتكاد تتطابق مع تلك التي يطلقها ترمب مثلاً حول الهجرة، أو حول الحرب في أوكرانيا. فكرة الجدار لمنع دخول المهاجرين مثلاً كانت مرفوضة على امتداد المشهد السياسي والاجتماعي في أوروبا، أما اليوم فإن عدداً من الدول الأوروبية يدرس سياسات لمنع الهجرة غير الشرعية التي لا تقلّ راديكالية عن فكرة الجدار.

الانتخابات الأوروبية، التي أجريت مطالع الصيف الماضي أظهرت مدى صعود الموجة اليمينية المتطرفة، وزعزعت أركان الحكم في فرنسا وألمانيا، وأثمرت البرلمان الأوروبي الأكثر جنوحاً نحو اليمين منذ تأسيسه. لكن ذلك لم يكن سوى انعكاس مباشر لواقع ملموس منذ سنوات في الدول الأعضاء، وأصبح اليمين المتطرف اليوم طرفاً في ائتلافات حاكمة، أو طرفاً أساسياً داعماً لها، في إيطاليا والسويد وفنلندا والجمهورية التشيكية وهولندا والمجر وكرواتيا، وهو يتفاوض حالياً للوصول إلى الحكم في النمسا، فضلاً عن أن القوى اليمينية المتطرفة تتطلع إلى زيادة شعبيتها ونفوذها في الانتخابات الألمانية أواخر الشهر المقبل، والرومانية في الربيع، والتشيكية في خريف العام الحالي.

دونالد ترمب يتحدث إلى جانب فلاديمير بوتين خلال لقاء جمعهما في اليابان 28 يونيو 2019 (أرشيفية - رويترز)

تكفي نظرة سريعة على قائمة المدعوين الأوروبيين إلى حفل التنصيب في واشنطن، لنتبيّن حجم «جبهة الإسناد» الأوروبية لترمب داخل الاتحاد الأوروبي: من الإيطالية جورجيا ميلوني إلى المجري فيكتور أوربان، ومن الإسباني سانتياغو أباسكال، إلى تينو شروبالا من «البديل من أجل ألمانيا»، ومن الفرنسي إريك زمور إلى البرتغالي أندريه فينتورا. ميلوني هي الوحيدة بين قادة الاتحاد التي قررت حضور حفل التنصيب، فاتحة بذلك ثغرة جديدة مع شركائها الأوروبيين، يرجح أن تتعمق أكثر في الأشهر المقبلة. لكن الأخطر من ذلك هو أن عودة ترمب تمنح هذه الأحزاب جواز عبور إلى المشهد السياسي الطبيعي في أوروبا، وتتيح للإدارة الجديدة التأثير المباشر في السياسات الأوروبية، والقدرة على زرع الشقاق لفتح الطريق أمام سياساتها التجارية والتكنولوجية، خاصة بعد دخول اصطفاف الشركات التكنولوجية الضخمة إلى جانب الرئيس الأميركي الجديد، ومساعيها المعروفة للالتفاف على القواعد الأوروبية.

ترمب من جهته أوضح غير مرة أنه يريد تصحيح الخلل في الميزان التجاري مع أوروبا، عن طريق رفع الرسوم الجمركية، وزيادة الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة، فضلاً عن مطالبته برفع نسبة مساهمات الأعضاء الأوروبيين في ميزانية الحلف الأطلسي، وزيادة مشاركتهم في جهود إعمار أوكرانيا. لكن الهاجس الأوروبي الأكبر يبقى في الحفاظ على وحدة الصف والموقف أمام الضغوط والتهديدات الأميركية.